وقد احتاط أهل السنة كثيراً للسنة حيث تلقوها أولاً عن الصحابة حفظاً، ودرسوها، وحفظوها حفظاً كاملاً، وحفظاً دقيقاً حرفياً، ونقلوها إلى من بعدهم، ثم ألَف العلماء على رأس القرن الأول وفي أثناء القرن الثاني ثم كثر ذلك في القرن الثالث، ألََّفوا الكتب، وجمعوا فيها الأحاديث حرصاً على بقائها وحفظها وصيانتها فانتقلت من الصدور إلى الكتب المحفوظة المتداولة المتناقلة التي لا ريب فيها ولا شك، ثم نقَّبوا عن الرجال، وعرفوا ثقاتهم من كذابيهم وضعفائهم، ومن هو سيء الحفظ منهم حتى حرَّروا ذلك أتم تحرير، وبيَّنوا من يصلح للرواية، ومن لا يصلح للراية، ومن يحتج به ومن لا يحتج به، وأوضحوا ما وقع من بعض الناس من أوهام وأغلاط، وسجلوها عليهم، وعرفوا الكذابين والوضاعين، وألَفوا فيهم وأوضحوا أسماءهم، فأيد الله بهم السنة، وأقام بهم الحجة، وقطع بهم المعذرة، وزال تلبيس الملبسين وانكشف ضلال الضالين، فبقيت السنة بحمد الله جلية واضحة لا شبهة فيها، ولا غبار عليها.
وكان الأئمة يعظمون ذلك كثيراً وإذا رأوا من أحد أي تساهل بالسنة أو إعراض أنكروا عليه حدَّث ذات يوم عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله))<SUP> ([1])</SUP> فقال بعض أبنائه: والله لمنعنهن – عن اجتهاد منه- ومقصوده أنهن تغيرن، وأنهن قد يتساهلن في الخروج، وليس قصده إنكار السنة، فأقبل عليه عبد الله وسبَّه سباً سيئاً وقال: أقول: قال رسول الله وتقول والله لنمنعهن.<?xml:namespace prefix = o ns = "urn:schemas-microsoft-com:office:office" /><o:p></o:p>
<o:p></o:p>
ورأى عبد الله بن مغفل المزني - رضي الله عنه – بعض أقاربه يخذف فقال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف وقال: ((إنه لا يصيد صيداً، ولا ينكأ عدواً))<SUP> ([2])</SUP>. ثم رآه في وقت آخر يخذف، فقال: أقول إن الرسول نهى عن هذا ثم تخذف، لا كلمتك أبداً.<o:p></o:p>
فالصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم- كانوا يعظمون هذا الأمر جداً، ويحذرون الناس من التساهل بالسنة أو الإعراض عنها أو الإنكار لها برأي من الآراء أو اجتهاد من الاجتهادات، وقال أبو حنيفة في هذا المعنى - رضي الله عنه ورحمه-: (إذا جاء الحديث عن رسول الله فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن الصحابة - رضي الله عنهم فعلى العين والرأس..) إلى آخر كلامه. وقال مالك - رحمه الله -: (ما منا إلاّ رادٌ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم-). <o:p></o:p>
وقال أيضاً: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أقولها) ، وهو اتباع الكتاب والسنة. وقال الشافعي - رحمه الله -: (إذا رويتُ عن الرسول حديثاً صحيحاً ثم رأيتموني خالفته فاعلموا أن عقلي قد ذهب) . وفي لفظ آخر، قال: (إذا جاء الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقولي يخالفه فاضربوا بقولي الحائط).
وقال أحمد - رحمه الله -: (لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي وخذوا من حيث أخذنا). وسبق قوله - رحمه الله -: (عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله سبحانه وتعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} <SUP>([3])</SUP>.
<o:p></o:p>
فالأمر في هذا واضح، وكلام أهل العلم في هذا جلي ومتداول عند أهل العلم، وقد تكلم المتأخرون في هذا المقام كلاماً كثيراً كأبي العباس ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وغيرهم، وأوضحوا أن من أنكر السنة فقد زاغ عن سواء السبيل، وأن من عظَّم آراء الرجال وآثرها على السنة فقد ضل وأخطأ، وأن الواجب عرض آراء الرجال مهما عظموا على كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فما شهدا له أو أحدهما بالقبول قُبلَ، وما لا فإنه يرد على قائله.
ومن آخِر من كَتَبَ في هذا الحافظ السيوطي - رحمه الله – حيث كتب رسالة سماها: (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة)، وذكر في أولها أن من أنكر السنة وزعم أنه لا يحتج بها فقد كفر إجماعاً، ونقل كثيراً من كلام السلف في ذلك.
<o:p></o:p>
فهذه منزلة السنة من الإسلام، وهذه مكانتها من الشريعة وأنها الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأنها حجة مستقلة قائمة بنفسها يجب الأخذ بها والرجوع إليها، وأنه متى صحَّ السند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وجب الأخذ به مطلقاً، ولا يشترط في ذلك أن يكون متواتراً أو مشهوراً أو مستفيضاً أو بعدد كذا من الطرق، بل يجب أن يؤخذ بالسنة ولو كانت من طريق واحدة، متى استقام الإسناد وجب الأخذ بالحديث مطلقاً بسند واحد أو بسندين أو بثلاثة، أو بأكثر، سواء سُمِّيَ خبراً متواتراً، أو خبر آحاد، لا فرق في ذلك، كلها حجة، يجب الأخذ بها، مع اختلاف ما تقتضيه من العلم الضروري أو العلم النظري، أو الظني إذا استقام الإسناد وسلم من العلَّة فالعمل بها واجب، والأخذ بها متعين، متى صح الإسناد وسلم من العلَّة عند أهل العلم بهذا الشأن.
أما كونه متواتراً، أو كونه مشهوراً أو مستفيضاً أو آحاداً غير مستفيض ولا مشهور، أو غريباً، أو غير ذلك فهذه أشياء اصطلح عليها أهل الحديث في علم الحديث وبيَّنوها في أصول الفقه أيضاً، وأحكامها عندهم معلومة والعلم بها يختلف بحسب اختلاف الناس، فإنه قد يكون هذا الحديث متواتراً عند زيد وعمرو وليس متواترا عند خالد وبكر لما بينهما من الفرق في العلم، واتساع المعرفة فقد يروي زيد حديثاً من عشرة طرق أو من ثمانية، أو من سبعة، أو من ستة أو خمسة ويقطع هو أنه بهذا متواتر؛ لما اتصف به رواته من العدالة والحفظ، والإتقان، والجلالة، وقد يروى الآخر حديثاً من عشرين سنداً، ولا يحصل له ما حصل لذلك من العلم اليقين القطعي بأنه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أو بأنه متواتر.<o:p></o:p>
فهذه أمور تختلف بحسب ما يحصل للناس من العلم بأحوال الرواة وعدالتهم، ومنزلتهم في الإسلام، وصدقهم، وحفظهم، وغير ذلك. هذا يتفاوت فيه الرجال حسب ما أعطاهم الله من العلم بأحوال رواة الحديث، وصفاتهم، وطرق الحديث إلى غير ذلك، لكن أهل العلم أجمعوا على أنه متى صح السند وسلم من العلَّة وجب الأخذ به، وبيَّنوا أن الإسناد الصحيح هو ما ينقله العدل الضابط عن مثله، عن مثله، عن مثله، إلى الصحابة - رضي الله عنهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- من دون شذوذ ولا علَّة.
فمتى جاء الحديث بهذا المعنى متصلاً لا شذوذ فيه ولا علَّة، وجب الأخذ به والاحتجاج به على المسائل التي يتنازع فيها الناس، سواء حكمنا عليه بأنه غريب أو عزيز أو مشهور أو متواتر، أو غير ذلك؛ إذ الاعتبار باستقامة السند وصلاحه وسلامته من الشذوذ والعلّة سواء تعددت أسانيده أم لم تتعدد.<o:p></o:p>
هذا وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنحنا جميعاً الفقه في دينه، والاستقامة على ما يرضيه، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه جلَّ وعلا جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.<o:p></o:p>
<HR align=right width="33%" SIZE=1>
[1]- أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء، برقم 849، ومسلم في كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد، برقم 668.<o:p></o:p>
[2]- أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب النهي عن الخذف، برقم 5752 ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب إباحة ما يُستعان به على الاصطياد والعدو، برقم 3613.<o:p></o:p>
[3]- سورة النور الآية 63.<o:p></o:p>