وقد أبَى الله- عزَّ وجلَّ- في زمن حادثة الإفك أن تكون براءتها كبَراءة أيِّ امرأة يكثر عليها الحاقدون، وإنما أُنزِلَت براءتها بكلام تَكلَّمَه ربُّ العِزَّة، وقرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة؛ حتى تكون براءتها دِينًا يُدان به لله.
إذْ يقول الله- تعالى-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11]. فإنْ كانت الحبيبةُ لا بُدَّ وأن تَغار، فلم تكن غَيْرة أُمِّ المؤمنين- رضي الله تعالى عنها- كغَيْرة النِّساء من النِّساء، وإنَّما كانت غَيرتها لِعِظَم قَدْر النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- عندها، ومكانته في قَلْبها، مع تواضُعِها- رضي الله تعالى عنها.
فعَن أُمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصِّدِّيق: "أنَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- خرَج من عندها ليلاً، قالت: فغِرُت عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: ((ما لَكِ يا عائشة؟! أَغِرْتِ؟)) فقلت: وما لي لا يَغار مِثْلي على مثلك؟"؛ "صحيح مسلم".
وعنها- رضي الله تعالى عنها- تقول: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا خرج، أَقرع بين نسائه، فطارَتِ القرعة على عائشة وحفصة، فخرَجَتا معه جميعًا، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا كان بالليل، سار مع عائشة، يتحدَّث معها، فقالت حفصة لعائشة: ألاَ تَرْكبين اللَّيلة بعيري، وأركب بعيرك، فتنظرين وأنظر؟
قالت: بلى، فرَكِبَت عائشة على بعير حفصة، وركبت حفصة على بعير عائشة، فجاء رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى جمل عائشة، وعليه حفصة، فسَلَّم ثم سار معها، حتى نزلوا، فافتَقَدتْه عائشة، فغارت، فلمَّا نزَلُوا جعلت تجعل رِجْلها بينَ الإِذْخِرِ، وتقول: يا ربِّ، سَلِّط عليَّ عقربًا أو حيَّة تلدغني، رسولُك، ولا أستطيع أن أقول له شيئًا!"؛ "صحيح مسلم". فوالله إنَّ مَن يكره عائشة لَهُو المُكْثِر الحَسُود الحقود، الذي طالما أوذِيَت أمُّ المؤمنين- رضي الله تعالى عنها- مِنْه ومن أمثاله في حياة النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- وبعد مماته، وقد روَتْ لنا عائشة أمُّ المؤمنين في زمن حادثة الإفك تقول: "فقلتُ لأمي: يا أُمَّتاه، ماذا يتحَدَّث الناس؟
قالت: يا بُنيَّة، هَوِّني عليك، فوالله لقَلَّما كانت امرأة قطُّ وضيئة عند رجل يحبُّها، لها ضرائر، إلاَّ أكْثَرْن عليها.
قالت: فقلتُ: سبحان الله! أو لَقَد تحَدَّث الناسُ بهذا؟
قالت: فبكَيْتُ تلك الليلةَ حتىَّ أصبَحْتُ، لا يَرْقَأ لي دمع، ولا أكتحل بِنَوم، ثم أصبحتُ أبكي"؛ "صحيح البخاري".
فلا بكَتْ عيْنٌ أحبَّتْكِ يا أُمَّاه إلاَّ من خشية الله، ولا رقأ الله لِمُبغضك دمعًا حتى تجف عيناه! • • • • فضل عائشة على النساء:لقد جمَعَت السيِّدة عائشة- رضي الله تعالى عنها- من محاسن الهيئة والسِّمات والصِّفات الظاهرة والباطنة، ما قلَّ أن يَجتمع في امرأة واحدة، فكانت جديرة- ولا شكَّ- بثناء الصَّادق الذي لا ينطق عن الهوى؛ إذْ يقول: ((فضْلُ عائشة على النِّساء، كفَضْل الثَّريد على سائر الطعام))؛ "صحيح البخاري". وهذا واضح في مختَلِف مواقف حياتِها، التي تُخبرنا بعُلوِّ خلُقِها، وطيبِ نَفْسها، وحُسْن حديثها- رضي الله تعالى عنها- حتى تكون أوَّل مَن تُفرَّج عندها الهموم، وترْضَى بها القلوب. فعن أنَسِ بن مالك- رضي الله عنه- قال: "بُنِي على النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- بزينب بنت جحش بِخُبز ولَحْم، فأرسلت على الطَّعام داعيًا، فيَجِيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، فدعوتُ حتى ما أجد أحدًا أَدْعوه .
|