[8]. وهي مع فضائلها وفَضْلها، كانت من أشدِّ الناس خشية لله، حتى رُوي أنها حدثت: "أن عبدالله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطَتْه عائشة: والله لتَنْتهينَّ عائشة، أو لأَحْجرنَّ عليها، فقالت: أهو قال هذا؟
قالوا: نعم، قالت: هو لله علَيَّ نذْر ألاَّ أكلِّم ابن الزُّبير أبدًا، فاستَشفع ابنُ الزُّبير إليها حين طالَت الهجرة، فقالت: لا والله، لا أشفع فيه أبدًا، ولا أتحنَّث إلى نَذْري، فلمَّا طال ذلك على ابنِ الزُّبير كلَّم المِسْوَر بن مَخْرمة وعبدالرحمن بن الأسود بن عبديغوث- وهما من بني زُهْرة- وقال لهما: أنشدكما بالله لمَا أَدْخلتُماني على عائشة؛ فإنَّها لا يحل أن تنذر قطيعتي، فأقبل به المسور وعبدالرحمن مُشْتَمِلين بأرديتهما حتىَّ استأذَنا على عائشة، فقالا: السَّلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلُّنا؟ قالت: نعم، ادخلوا كلُّكم، ولا تَعلَم أنَّ معهما ابْنَ الزُّبير، فلمَّا دخلوا دخل ابن الزبير الحِجَاب، فاعتنق عائشة وطَفِق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبدالرحمن يُناشدانها إلاَّ ما كلَّمَتْه وقَبِلت منه، ويقولان لها: إنَّ النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- نهَى عمَّا قد عَلِمْت من الهجرة؛ فإنه لا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، فلما أكثَروا على عائشة من التَّذكِرة والتَّحريج، طَفِقت تذكِّرهما وتَبكي، وتقول: إني نذَرْتُ والنَّذر شديد، فلم يزالا بها حتىَّ كلَّمَت ابن الزبير، وأعتَقَت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تَذْكر نَذْرَها بعد ذلك، فتبكي حتى تبلَّ بدموعها خمارها"؛ أخرجه البخاري. وعن عروة عن أبيه أن عائشة- رضي الله عنها- كانت تَسْرد الصوم. وعن القاسم أن عائشة كانت تصوم الدَّهر، ولا تفطر، إلاَّ يوم أضحى أو يوم فطر
-------------
[9]. وعن القاسم قال: كنتُ إذا غدوت أبْدَأ ببيت عائشة أسلِّم عليها، فغدوت يومًا فإذا هي قائمة تسبِّح، وتقرأ: ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [الطور: 27]، وتدعو وتبكي وتردِّدها، فقُمتُ حتىَّ مَللْتُ القيام، فذهبت إلى السُّوق لحاجتي، ثم رجعتُ فإذا هي قائمة كما هي، تصلِّي وتبكي. وعن عامر قال: كتبتْ عائشة إلى معاوية: "أمَّا بعد، فإن العبد إذا عَمِل بمعصيَّة الله- عزَّ وجلَّ- عاد حامِدُه من النَّاس ذامًّا". وعن إبراهيم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "إنَّكم لن تَلْقوا الله بشيء خيرٍ لكم من قَلَّة الذُّنوب، فمَن سرَّه أن يسبق الدَّائب المجتهد، فليكُفَّ نفسه عن كثرة الذنوب". وقال عنها عروة: "ما رأيتُ أحدًا أعلم بفِقْه ولا طبٍّ ولا شِعْر، من عائشة".وقال عطاء بن أبي رباح: "كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيًا في العامَّة".وقال الزُّهري: لو جُمِع علم عائشة إلى عِلم جميع أزواج النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- وعِلْم جميع النساء لكان عِلْم عائشة أفضل.وعن مسروق يقول: "رأيتُ مشيخة أصحابِ محمَّد الأكابر يَسألونها عن الفرائض".• بل ولم يَكن في النِّساء أعلم من تِلميذاتها؛ عمرة بنت عبدالرحمن، وحفصة بنت سيرين، وعائشة بنت طلحة. وكان مسروق إذا حدَّث عن عائشة قال: حدَّثَتني الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، حبيبةُ حبيبِ الله، المبرَّأةُ من فوق سبع سموات. والحديث لا يَتَّسع لذِكْر جميع مناقب أُمِّ المؤمنين عائشة- رضي الله تعالى عنها- فلقد ظَلَّت طوال حياتها التي تجاوزت السِّتِّين عامًا، تبلِّغ عن رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وتعلِّم الأُمَّة، وتَنصر الدِّين، ذَخيرتُها في ذلك بِضْع سنوات عاشَتْها مع رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- كانت وَقُود حياتها، ومَصْدَر عِلْمها. وبرغم عِظَم ما مرَّ بها من أحداث ومواقف، وأنَّها كانت كالشَّمس تحيط بها أنظارُ المؤمنين وقلوبهُم، فإنَّها لم تَبْرح تَذْكُر النبيَّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- فتُنشد تقول:ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ لقاء الأحبة:عن ذَكْوان مولى عائشة: "أنَّه جاء عبدالله بن عبَّاس يستأذن على عائشة، فجِئْتُ وعند رأسِها ابنُ أخيها عبدالله بن عبدالرحمن، فقلتُ: هذا ابن عبَّاس يَستأذن، فأكَبَّ عليها ابنُ أخيها عبدالله، فقال: هذا عبدالله بن عبَّاس يَستأذن، وهي تموت، فقالت: دَعْني من ابن عبَّاس، فقال: يا أُمَّتاه، إنَّ ابن عبَّاس من صالحِي بَنِيك، ليسلِّم عليك ويودِّعك، فقالت: ائذن له إن شِئت، قال: فأدخَلتُه، فلمَّا جلس قال: أبْشِري، فقالت: أيضًا، فقال: ما بينك وبين أن تَلْقي محمَّدًا- صلَّى الله عليه وسلَّم- والأحبَّة إلاَّ أن تخرج الرُّوح من الجسد؛ كُنتِ أحَبَّ نساء رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى رسول الله، ولم يكن رسول الله يحبُّ إلاَّ طيِّبًا، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- حتى يصبح في المنزل وأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله- عزَّ وجلَّ-: ﴿ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]، فكان ذلك في سبَبِك، وما أنزل الله- عزَّ وجلَّ- لِهَذه الأُمَّة من الرُّخصة، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات، جاء به الرُّوح الأمين، فأصبح ليس لله مَسْجدٌ من مساجد الله يُذْكَرُ اللهُ فيه، إلاَّ يُتلى فيه آناءَ الليل وآناء النهار، فقالت: دَعْني منك يا ابن عبَّاس، والذي نفسي بيده، لوَدِدتُ أنِّي كنتُ نسْيًا منسيًّا"؛ إسناده صحيح. ويَكفيها- رضي الله تعالى عنها- من الناس، شهادة سَليل آل البيت عبدالله بن عبَّاس، حَبْر الأُمَّة، وترجمان القرآن، الذي دعا له النبيُّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يُعلِّمه الله- تعالى- التأويل والفِقْه في الدِّين. وقد أوصَتْ- رضي الله تعالى عنها- عبدالله بن الزُّبير، فقالت له: "ادْفنِّي مع صواحبِي، ولا تدفنِّي مع النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- في البيت؛ فإني أَكره أن أُزكَّى"؛ "صحيح البخاري". وتُوفِّيَت أُمُّ المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- ليلة الثلاثاء لسبع عشرة من رمضان، سنة ثمانٍ وخمسين، وهي ابنة ستٍّ وستِّين سنة، وصلَّى عليها أبو هريرة، وكان خليفة مروان بالمدينة. وعن هشام بن عروة قال: ماتَتْ عائشة سنَة سبع وخمسين. وبينما ظلَّتْ أُمُّ المؤمنين المبرَّأةُ من السَّماء علَمًا خالِدًا من أعلام الإسلام المَجِيدة، بقي المُرْجِفون في غياهب ظُلمات نفوسهم، مدفونين في أحقادهم، يأكل أجسادَهم دودُ حسَدِهم لآل البيت وزوجةِ سيِّد الآل- صلَّى الله عليه وسلَّم. وظلَّت آياتُ القرآن تَصْدع بالحقِّ قلوبًا قاسية، وعقولاً متحجِّرة، أمَّا المؤمنون الصادقون فيَفْتؤون يقرؤون من كلام ربِّهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11]. حتى إذا ما سَمِعوا من يُكذِّب الوحي المعصوم، ويتَطاول على مقام بيت النبوة، هَبُّوا كالجسد الواحد على قلب رجل واحد، يُنافِحون عن أمِّ المؤمنين المبرَّأة من فوق سبع سموات، ويَدْفعون عنها الإفك والبهتان. ولعلَّها أن تكون الصَّحوة التي لا نومة بعدها، والوَحْدة التي لا فُرْقة بعدها، حتى يُعِزَّ الله المؤمنين في كلِّ بقاع الأرض، وينصر بهم الدِّين. وكما قال أُسَيد بن حضير لأمِّ المؤمنين عائشة- رضي الله تعالى عنها- أقول: "جزاكِ الله خيرًا، فوالله ما نزل بكِ أمْرٌ قطُّ، إلاَّ جعل الله لك منه مخَرجًا، وجعل للمسلمين فيه بركة"؛ "صحيح البخاري". • • • • المراجع:• موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف- التفسير.• الدُّرر السَّنية الموسوعة الحديثية وإسلام ويب.• كتاب "البداية والنهاية" للحافظ ابن كثير- رحمه الله تعالى.• مناقب عائشة- رضي الله تعالى عنها- كتاب "صِفَة الصَّفوة" للإمام ابن الجوزي- رحمه الله تعالى.--------------------------------------------------------------------------------[1] عن القاسم بن محمد: "أن عائشة اشتَكَت، فجاء ابن عبَّاس فقال: يا أُمَّ المؤمنين، تَقْدَمِين على فَرطِ صِدْق، على رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وعلى أبي بكر"؛ "صحيح البخاري".[2] عن "الدُّرر السَّنية" (وقد أضفْتُ رابطه إلى النصِّ)، وهذا هو العزو:الراوي: عائشة، المحدِّث: الهيثمي- المصدر: مجمع الزوائد- الصفحة أو الرقم: 9/228.خلاصة حكم المُحدِّث: رجاله رجال الصَّحيح، غير محمد بن عمرو بن علقمة، وهو حسَنُ الحديث.[3] عن "الدرر السَّنية" (وقد أضفت رابطه إلى النصِّ) وهذا هو العزو:الراوي: الشَّعبي، المحدِّث: ابن كثير- المصدر: البداية والنهاية- الصفحة أو الرقم: 5/252خلاصة حكم المحدث: إسناده جيد قوي، والظاهر أن الشعبي سمعه من علي، أو ممن سمعه من علي.[4] الحكم المبدئي: إسناده ضعيف ويحسن إذا توبع، (عن "إسلام ويب"، وقد أضفت رابطه إلى النص).[5] الصَّفِي؛ أيْ: مما اصطفاه رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- واختصَّ به؛ "إسلام ويب".وعن الشعبي: "كان للنبيِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- سهمٌ يدعى الصَّفي، إن شاء عبدًا، وإن شاء أمَة، وإن شاء فرسًا، يختاره قبل الخمُس".الراوي: الشعبي، المحدِّث: أبو داود- المصدر: سنن أبي داود- الصفحة أو الرقم: 2991خلاصة حكم المحدِّث: سكت عنه [وقد قال في رسالته لأهل مكة: كلُّ ما سكَتُّ عنه فهو صالح]؛ عن "الدرر السنية".[6] عن "الدرر السنية": (وقد أضفت رابطه إلى النص) وهذا هو العزو:الراوي: ناشرة بن سمي اليزني، المحدث: ابن كثير- المصدر: مسند الفاروق- الصفحة أو الرقم: 2/477خلاصة حكم المحدث: إسناده جيد.[7] كتاب "البداية والنهاية"، لابن كثير، المجلَّد الرابع، الجزء الثاني، صفحة 16، ابن سعد (8/100) والواقدي: متروك.[8] كتاب "صِفَة الصَّفوة" للإمام ابن الجوزي- رحمه الله تعالى.[9] كتاب "صفة الصفوة" للإمام ابن الجوزي- رحمه الله تعالى.-----------------------
|