الحلقة الثانية
الحلقة الثانية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن أي مسلم فقيها كان أو مقلدا ، عالما كان أو جاهلا ، عندما يريد الخوض و الحديث بموضوع الفتنة التي حصلت في عهد سيدنا علي كرم الله وجهه ، لابد أن يكون حديثه مبني على أساس قوله تعالى في سورة الحجيرات " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين " فمع وجود القتال بينهم إلا أنهم مؤمنون و هذا القتال لم يخرجهم من هذه الصفة أي صفة الإيمان و الإسلام ، فهم مؤمنون و أخوة كذلك امتثالا لقوله تعالى في الآية التي تليها " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " فالمدرك لمفهوم الآية ، يدرك أنهم أخوة حتى لو تقاتلا ، و يعي واجب كلا الطائفتين عليه ، و هو عدم لعنهم و العياذ بالله أو سبهم أو الإساءة لهم بأي شكل كان و إنما الواجب هو حبهم و الإعتراف لهم بالصحبة الكريمة و المكانة العالية ، فهم الذين سبقونا إلى هذا الدين و هم الذين نقلوه لنا و لهم فضل علينا بلا شك ، فالتعامل مع سيرتهم و تاريخهم يجب أن يكون مبني على أساس حبهم و تقديرهم سواء أكانوا من أتباع الإمام علي كرم الله وجهه أم كانوا من أتباع معاوية رحمه الله ، أو كانوا من الذين اعتزلوا القتال ، و سواء رأيت الحق معهم أو لم تراه معهم ، فالتعامل مع سيرتهم العطرة يجب أن تكون على أساس حق المسلم على المسلم في التماس الأعذار و عدم الإساءة لهم ، و على أساس الآية الكريمة سالفة الذكر و التي تبين أن قتال البغي لا يخرج أحد من صفة الإيمان و الإسلام ، يقول الإمام ابن كثير في تفسيره " قول تعالى آمرا بالإصلاح بين المسلمين الباغين بعضهم على بعض : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فسماهم مؤمنين مع الاقتتال . وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت ، " . و مما يؤكد ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم واصفا الحسن بن علي رضي الله عنه : إنّ ابْنِي هذا سيِّدٌ , وسيُصْلِحُ اللّهُ بهْ بيْن طائِفتيْنِ عظِيمتيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِين . و هنا وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الطائفتين بالمسلمين ، فلذلك لهم حق الإسلام علينا ، فلا يجوز لعن أحد منهم امتثالا لقول رسولنا الكريم بالحديث الصحيح ( لعن المؤمن كقتله ) و لا يجوز سب أحد منهم امتثالا لقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) " و هنا استثى الفقهاء قتال البغاة ، فلم يعتبروه كفرا استنادا إلى نص الآية الكريمة سابقة الذكر " و عليه فإن أحداث الفتنة التي حصلت بين أتباع الإمام علي كرم الله وجهه و بين أتباع معاوية عليه رحمة الله لا تُجيز لأي مسلم بالإساءة إلي أي الطائفتين بأي شكل من الأشكال ، بل بالعكس الواجب هو حبهم و تقديرهم فيكفي الواحد منهم أنه صلى وراء خير البشر محمد بن عبدالله رسولنا و حبيبنا عليه الصلاة و السلام ، و يكفي الواحد منهم أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عند القيام من الركوع " سمع الله لمن حمده " فأجابه " ربنا لك الحمد " ، فقد نُقل في كتاب وفيات الأعيان ، لابن خلكان أنه سئل أحدهم عبد الله بن المبارك ، أيهما أفضل : معاوية بن أبي سفيان ، أم عمر بن عبد العزيز ؟
فقال ابن المبارك : و الله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بألف مرة ، صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : سمع الله لمن حمده ، فقال معاوية : ربنا ولك الحمد . فما بعد هذا ؟ ( لا أعرف مدى صحة الرواية و لكن نذكرها للإستئناس ) ، و عليه فاقتتال الصحابة لا يصح أن ينسينا فضلهم علينا و لا يصح أن ينسينا حقهم علينا .
و هنا تتضح المغالطة التي وقع بها الكبيسي عندما استغرب الحب الشديد عند البعض لمعاوية رحمه الله ، حيث أنه لو راجع القليل من الأحاديث المشهورة و التي لا حاجة لذكرها لكم فالكل يعرفها في حب المسلم لأخيه المسلم ، لأدرك أن حب المسلم لأخيه أمر ممدوح و ليس هو المشكلة ، و إنما المشكلة الحقيقية هي بالإساءة للمسلم و التعدي عليه ، و الواقع اليوم و الذي يجب أن يلاحظ هو أن من يتعصب بحب معاوية " كما يذكرهم الكبيسي " لا يسيء للإمام علي ، و بل العكس يترضى عنه ، و يعتبره رابع الخلفاء الراشدين ، حتى لو منهم أصوات " كبعض الوهابيين " الذين يعتبرون على الإمام علي كرم الله وجهه بعض المآخذ " و طبعا أنا لا أؤيدهم نهائيا ، إلا أنهم لا يذكرون عليا إلا وقالوا رضي الله عنه و يقرون بفضله عليهم و على المسلمين ، فالذين تراهم متشددين في حبهم لمعاوية بشكل عام ( كي لا يقول أحدهم هناك فئة معين هنا و هناك ، بل أنا أتحدث بشكل عام و عن الأغلب ) لا يسيؤون للصحابة و لا يأذونهم باللسان و لا يلعنونهم ، و إنما الغالب منهم من يلتمس العذر للجميع ، و هذا هو المنهج السليم و هو التماس العذر للمسلم فما بالك لمن سبقك بالإسلام و له الفضل عليك .
و لكن المصيبة و الكارثة هي في الإساءة لهم ، و الذين يدعون أنهم من شيعة الإمام علي كرم الله وجهه ، و يتعبدون بشتم و لعن آل أمية و معاوية رحمه الله بالذات ، و العياذ بالله ، فالمنهج الخطير الذي يجب أن يحارب ليس الحب و التماس الأعذار و التبرير ، حتى لو لم يكن في محله ، و إنما المنهج الذي يجب أن يحارب هو منهج السب و القذف و الإساءة و الذي يحرمه ديننا مباشرة كما ذكرنا سابقا ، فالحب الشديد لمعاوية رحمه الله ليس بمصيبة ( إلا إن كان غلوا )، و إنما البغض الشديد له هو المصيبة ، و التي أعمت الكثير عن حقائق و روايات و تفاسير مما جعلتهم و العياذ بالله يتصيدون على رجل قد مات و دفن قبل أكثر من ألف سنة ، و الأصل أن نترحم عليه لا أن نسيء له ، و العياذ بالله .
و عليه فإن حب المسلم لأخيه و التصدي لمن يعاديه و التماس العذر له و حب الصحابة الكرام و التماس الأعذار لهم و معرفة فضلهم هو أساس المنهج الذي يبنى عليه موضوع قتال الفتنة الذي وقع بين خيرة البشر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و هنا تظهر أكبر مغالطة للكبيسي و هو عدم معرفته أين تقع المصيبة ، فهل هي في حب معاوية أم في بغضة ؟ بالتأكيد المشكلة في بغضه و وجود الغل في نفوس المسلمين ، هذه هي المصيبة يا كبيسي ، و أختم بما نقله الحافظ ابن عساكر من قول الشعبي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رأى طلحة رضي الله عنه مُلْقىً (بعد القتل) في بعض الأودية (وكان طلحة في وقعة الجمل ضد علي) فنزل فمسح التراب عن وجهه، ثم قال: «عزيز علي أبا محمد أن أراك مجدلاً في الأودية وتحت نجوم السماء. إلى الله عجري وبجري» (قال الأصمعي: أي سرائري وأحزاني التي تجول في جوفي). وقال: «ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة». وقال أبو حبيبة مولى طلحة: دخلت أنا وعمران بن طلحة على علي بعد الجمل، فرحّب بعمران وأدناه، وقال: «إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال فيهم (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُتَقَابِلِيْنَ) .( يقال أن الشعبي صور هذه الرواية صورة إرسال و لكن يصح الإستدلال بها لأنها لا تخالف واقع الصحابة بحبهم و توادهم و تقاربهم الله أعلم)
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُتَقَابِلِيْنَ ) . اللهم انزع ما في قلوبنا من غل على المسلمين ، آمين
و للحديث بقية .......
و السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
|