هؤلاءِ الْعَشَرَةُ ثَبَتَ فيهم الحديثُ الَّذي سَاقَهُ
ابْنُ قُدَامَةَ رَحِمَهُ اللهُ، ورَوَاهُ الإِمامُ أحمدُ وغيرُهُ، عنْ سَعِيدِ بنِ زَيْدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ؛ وهوَ أحدُ العشرةِ، وهو ابنُ عَمِّ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فعُمَرُ هوَ: عُمَرُ بنُ الخطَّابِ بنِ نُفَيْلٍ ابنُ عَمِّ زَيْدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ، أبو سَعِيدٍ هذا.
فهؤلاءِ العَشَرَةُ مِن المهاجِرِينَ، ومِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، ومِنْ مَشاهِيرِهم، وَلَيْسُوا كلُّهم مِنْ أهلِ البيتِ الَّذينَ اصْطَلَحَ الرَّافضةُ على أنَّهم أهلُ البيتِ؛ إذ لِلرافضةِ اصْطِلاحٌ خاصٌّ بأهلِ البيتِ غيرُ ما هوَ مُقَرَّرٌ عندَ أهلِ السُّنَّةِ، فنِساءُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلاً عندَهم لَسْنَ مِنْ أهلِ البيتِ، وَعَمُّهُ العَبَّاسُ وذُرِّيَّتُهُ عندَهم لَيْسُوا مِنْ أهلِ البيتِ، معَ أنَّ العَبَّاسَ أَقْرَبُ مِنْ عَلِيٍّ، وكذلكَ جَعْفَرٌ وذُرِّيَّتُهُ لَيْسُوا مِنْ أهلِ البيتِ، فأهلُ البيتِ عندَهم فقطْ عَلِيٌّ والحَسَنُ والحُسَيْنُ وذُرِّيَّتُهما.
والحاصلُ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَ لهؤلاء العَشَرَةِ بالجَنَّةِ؛ الأربعةِ الخلفاءِ، والستَّةِ الباقِينَ مِنهم. وقدْ نَظَمَهم ابنُ أبي داوُدَ في قَصِيدتِهِ المَشْهورةِ في قولِهِ:
سَعِيدٌ وسَعْدٌ وابنُ عَوْفٍ وطَلْحَةُ وعـَامــِرُ
فـِهـْرٍ والـزُّبـَيـْرُ الــمــُمــَدَّحُ
يَعْنِي: هؤلاءِ الستَّةَ.
فسَعِيدٌ: هوَ ابنُ زَيْدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ،
وهوَ رَاوِي الحديثِ.
وسَعْدٌ: هوَ ابنُ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيُّ،
مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، وهم أَخْوالُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوْفٍ:
وهوَ أيضًا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، مِنْ أَخْوالِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وطَلْحَةُ: هوَ ابنُ عُبَيْدِ اللهِ،
مِنْ بَنِي تَيْمٍ؛ الَّذينَ مِنهم أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
والزُّبَيْرُ: هوَ ابنُ العَوَّامِ،
مِنْ بَنِي أَسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ عبدِ مَنافٍ.
وأمَّا عَامِرٌ: فهوَ أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ، مِنْ بَنِي فِهْرٍ.
وهؤلاءِ مِن المهاجِرِينَ، ومِنْ أَشْرافِ قُرَيْشٍ، ومِن المسلمينَ قديمًا، شَهِدَ لهم النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنَّهم في الجَنَّةِ، ومعلومٌ أنَّهُ لا يَشْهَدُ لهم إلاَّ وقدْ أَطْلَعَهُ اللهُ بأنَّهم يَمُوتونَ على الإسلامِ وعلى السُّنَّةِ، وأنَّهم يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ.
ولوْ كانوا ارْتَدُّوا - كما تَقولُ الرَّافضةُ - لم يَشْهَدْ لهم بالجَنَّةِ.
فالرَّافضةُ تَدَّعِي أنَّهم ارْتَدُّوا بِرَدِّهم عَلِيًّا - كما يَقولونَ - عنْ حَقِّهِ الَّذي هوَ الْوِلايَةُ، وتَدَّعِي أنَّهم أعداءٌ أَلِدَّاءُ لِعَلِيٍّ.
ثُمَّ بعدَ ذلكَ تَحْكُمُ على كلِّ مَنْ وَالاهُمْ بأنَّهُ كافرٌ؛ لأنَّهُ بِزَعْمِهم لا يُمْكِنُ أنْ يُحِبَّ عَلِيًّا.
وعندَ الرَّافضةِ أنَّهُ: لا وَلاءَ إلاَّ بِبَرَاءٍ، يَقولونَ: لا يُمْكِنُ أنْ نَتَوَلَّى عَلِيًّا إلاَّ بَعْدَ أن نَتَبَرَّأَ مِنْ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ وسَعْدٍ وسَعِيدٍ وسائرِ الصَّحابةِ، فإذا تَوَلَّيْتَ هؤلاءِ فقدْ آذَيْتَ عَلِيًّا.
فَأَبُو بَكْرٍ عندَهم طَلَبَ الخِلافةَ واسْتَبَدَّ بها، وأَخَذَها مِنْ صاحِبِها؛ فلذلكَ ضَلَّلُوهُ وكَفَّرُوهُ.
وعُمَرُ
كذلكَ أيضًا أَخَذَ الخِلافةَ بعدَ أبي بَكْرٍ، وهيَ لَيْسَتْ لهُ.
وعُثْمانُ
أَخَذَ الخِلافةَ، وهيَ لَيْسَتْ لهُ، حتَّى إنِّي قَرَأْتُ لِبعضِ المُتَأَخِّرِينَ أنَّهُ يَتَمَدَّحُ بأنَّ شِيعَتَنا وأَنْصارَنا هم الَّذينَ ثارُوا على عُثَمانَ وقَتَلُوهُ، ورَدُّوا الأَمْرَ إلى أهلِهِ، يَعْنِي: إلى عَلِيٍّ، وهوَ أَحَقُّ بالخلافةِ.
أمَّا عبدُ الرَّحمنِ، فَيَقولونَ: إنَّهُ الَّذي أَخَذَ البَيْعَةَ لِعُثْمانَ، فيَحْكُمُونَ بأنَّهُ مُرْتَدٌّ.
أمَّا طَلْحَةُ والزُّبَيْرُ، فيَدَّعُونَ أنَّهما قاتَلا عَلِيًّا في وَقْعةِ الجَمَلِ، والحَقُّ أنَّهُ عندَما قُتِلَ عُثْمانُ كانَ هؤلاءِ بِمَكَّةَ، فذَهَبُوا إلى العِراقِ لِيُدْرِكُوا قَتَلَةَ عُثْمانَ، ولكنْ أَدْرَكَهم عَلِيٌّ فحَصَلَتْ وَقْعَةُ الجَمَلِ، فقُتِلَ فيها طَلْحَةُ والزُّبَيْرُ.
فكُلُّ واحدٍ مِنْ هؤلاءِ يَطْعَنُونَ فيهِ طَعْنًا، ويَدَّعُونَ فيهِ دَعْوَى.
وأهلُ السُّنَّةِ يَشْهَدُونَ لهم بالجَنَّةِ بسابِقتِهم وفَضْلِهم، وكذلكَ بمُوجَبِ هِجْرتِهم، وبمُوجَبِ شَهادةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكَفَى بها شهادةً، ولا يَعْتَبِرُونَ بِكلامِ مَنْ أَخَلَّ بحَقِّهم أوْ طَعَنَ فيهم.
وهكذا أيضًا نَشْهَدُ لِكُلِّ مَنْ شَهِدَ لهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ
، كقولِهِ: ((الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَفِي عَهْدِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَا طِفْلَيْنِ صَغِيرَيْنِ، تُوُفِّيَ وهُمَا دونَ العاشرةِ، ولكنْ يُبْعَثُونَ يومَ القِيامةِ معَ سائرِ الأمَّةِ في سِنِّ الشَّبابِ، وشَهِدَ لهُمَا بأنَّهما سَيِّدا شبابِ أهلِ الجَنَّةِ، وشَهِدَ لأُمِّهِما فاطِمةَ أنَّها سَيِّدةُ نِساءِ أهلِ الجَنَّةِ، فنَشْهَدُ لهما بذلكَ، ونَشْهَدُ لأُمِّهما بأنَّها مِنْ أهلِ الجَنَّةِ.
أمَّا قِصَّةُ ثابِتِ بنِ قَيْسٍ: فإنَّهُ كانَ خَطِيبَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذا أَرَادَ أنْ يُعْلِنَ أَمْرًا مِن الأمورِ، أوْ يَتَكَلَّمَ بَأَمْرٍ مِن الأمورِ، أَمَرَهُ بأنْ يَخْطُبَ ويُضَمِّنَ خُطْبتَهُ ذلكَ المَعْنَى، وكانَ جَهْوَرِيَّ الصَّوتِ، فلمَّا نَزَلَ قولُ اللهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الحُجُرات: 2]، خَافَ أنْ تَكونَ هذهِ الآيَةُ تَنْطَبِقُ عليهِ؛ لأنَّهُ كانَ يَرْفَعُ صوتَهُ، وكانَ جَهُورِيًّا.
فجَلَسَ يَبْكِي في بيتِهِ يومَيْنِ أوْ ثلاثةً، فافْتَقَدَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إليهِ، فذَكَرُوا لهُ مَقالتَهُ أنَّهُ يَقولُ: إنِّي أَرْفَعُ صوتِي، وإنِّي خَشِيتُ أنْ يَكونَ حَبِطَ عَمَلِي وأنِّي مِنْ أهلِ النَّارِ، فرَدَّ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضَ أَصْحابِهِ لِيَقولَ لهُ: ((إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).
وكانَتْ خاتِمتُهُ أنَّهُ قُتِلَ شَهِيدًا في وَقْعَةِ اليَمامَةِ في قِتالِ مُسَيْلِمةَ، فصَدَقَ عليهِ قولُ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ مِنْ أهلِ الجَنَّةِ.
أمَّا غيرُهُ ممَّنْ شَهِدَ لهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنَّةِ فكثيرٌ، فمِنهمْ بِلالٌ؛ الَّذي قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهُ: ((إِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ فِي الْجَنَّةِ))، وسَأَلَهُ عنْ أَرْجَى عَمَلِهِ، فهذه أيضًا شَهادةٌ لِبِلالٍ بأنَّهُ مِنْ أهلِ الجَنَّةِ.
وكذلكَ عُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ، لمَّا ذَكَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعِينَ الأَلْفِ الَّذينَ يَدْخُلونَ الجَنَّةَ بغيرِ حسابٍ، فقالَ عُكَّاشَةُ: ادْعُ اللهَ يا رسولَ اللهِ أنْ أَكونَ مِنهم، فقالَ: ((اللهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُم))، وقُتِلَ عُكَّاشَةُ في قِتالِ بَنِي أَسَدٍ الَّذينَ ارْتَدُّوا، وكانَ هوَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، قُتِلَ شَهِيدًا؛ فانْطَبَقَ عليهِ أنَّهُ مِن الَّذين قُتِلُوا في سبيلِ اللهِ.
وغيرُهم كثيرٌ، ومِنْ أَشْهَرِهم عَبْدُ اللهِ بنُ سَلاَمٍ؛ الَّذي كانَ مِن اليَهودِ فَأَسْلَمَ في أوَّلِ الهِجْرةِ.
وفي حديثِ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَطْلُعُ رَجُلٌ يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْقَصْعَةِ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ …))، فَجَاءَ عَبْدُ اللهِ بِنُ سَلاَمٍ.
ثُمَّ إنَّ كُلَّ مَنْ شَهِدَ لهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنَّهُ مِنْ أهلِ الجَنَّةِ، فإنَّا نَشْهَدُ لهُ بذلكَ.