مبعث النبي صلى الله عليه وسلم:
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الأربعين من عمره امتنّ الله تبارك وتعالى على الإنسانية أجمع بمبعثه صلوات الله وسلامه عليه ، هاديا ،ومبشرا، ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه ، وسراجا منيا .
وهذه أمّ المؤمنين عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها تحدثنا عن قصّة مبعثه صلوات الله وسلامه عليه . قالت عائشة رضي الله عنها : "أول ما بُدِئ به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الوحي ، الرؤية الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤية إلا جاءت مثل فلق الصبح (أي كضوء النهار، كما رآها تقع صلوات الله وسلامه علي) ، ثم حبِّب إليه الخلاء (أي الوحدة) وكان يخلو بغار حراء فَيَتَحَنَّثُ فيه (يعني يتعبد في هذا الغار) الليالي ذوات العدد قبل أن ينزِع إلى أهله ( أي يرجع إلى أهله) ويتزود لذلك (من الطعام والشراب وما شابه ذلك ) ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، وهكذا حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ (والحق هنا يحتمل أن يكون جبريل ويحتمل أن يكون الأمر الحق، أي جاءه الأمر الحق وهو البعثة ، بعثة النبي صلوات الله وسلامه عليه) تقول: حتى جاءه الحق وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، فقال صلوات الله وسلامه عليه: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» ، (أي لا أعرف القراءة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمِّيٌّ لا يستطيع القراءة ولا يعرفها صلوات الله وسلامه عليه ، وقد أخبر الله تبارك وتعالى عنه في قوله :"الذين يتبعون الرسول النبي الأمِّيَّ "[الأعراف:157] ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه فقال:" إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" زواه البخاري ومسلم). فقال له :اقرأ ، قال : "ما أنا بقارئ" ،قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي (أي ضمني ضما شديدا) حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ (أي التعب) ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ"، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ".يقول: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 2] " تقول عائشة رضي الله عنها :فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، (أي من الخوف صلوات الله وسلامه عليه الأمر غريب يأتيه الملك في هذا المكان الموحش المظلم في الليل ويضمه هذا الضم الشديد فأوقع هذا خوف في قلب النبي صلوات الله وسلامه عليه ، وهذا خوف فطري لا يضره شيئا) ،فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» (وذلك أن الخائف يشعر بالبرد والرعشة فيحتاج إلى أن يتحفى ويتغطى حتى يذهب عنه ما يجده من الرشفة) فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي» قَالَتْ خَدِيجَةُ (وهي المثبتة وهي التي اختارها الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم) قالت له : كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، (هذا الكلام من خديجة تبدؤه بالنهي ثم بالقسم والله ما يخزيك الله أبدا وتؤكده بقولها أبدا ، كل هذا دليل على ثقة هذه المرأة بربها تبارك وتعالى ومعرفتها الحق بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والسبب الذي من أجله بنت هذا الكلام هو ما ذكرته بعد ذلك ) فقالت والله ما يخزيك الله أبدا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ (الكلّ هو الذي لا يستطيع أن يستقِّل بأمره يعني يساعده )، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ( أي لي ما عنده شيء تعطيه)، وَتَقْرِي الضَّيْفَ(تكرم الضيف)، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ( أي على مصائب الدنيا تعين عليها ، كأنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم من كانت هذه صفاته لا يمكن أن يقع الخزي من الله تبارك وتعالى عليه أبدا ، لأن هذه الصفات صفات كمال ، فقالت : والله لا يخزيك الله أبدا) ، ثم انْطَلَقَتْ بِهِ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ وهو ابن عم لها وقيل هو عمها وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ(يعني اتخذ النصرانية دينا وذلك أن قريشا على الشرك ، على الوثنية ، وكان هناك بعض النصارى وكانوا هم أقرب إلى الحق في ذلك الوقت)، تقول : وكان امرأً تنصر في الجاهلية وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ (يعني التوراة والإنجيل وسميت اللغة باللغة العبرانية نسبة إلى عبورهم النهر )،قالت: فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ : يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى( أي هذا الشيء هو الذي أنزله الله تبارك وتعالى على موسى صلوات الله وسلامه عليه)، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ (جذعا أي شابا قويا)، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ» (استبعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجه قومه ، وذلك لأنه يرى صلوات الله وسلامه عليه أن قومه يحبونه حبا شديدا ولا يسمونه إلا الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه) ، قَالَ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ» قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ (وهذه قاعدة مهمة وأصل عظيم بنى عليه ورقة بن نوفل رأيه ، وذلك أن كل الأنبياء أوذوا وعودوا ، فمنهم من قتل ومنهم من طرد ومنهم من أوذي ، ومنهم من خوف ، وهذا كثير)،يقول: لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ .
بعد ذلك توفي ورقة بن نوفل رحمه الله تبارك وتعالى ، وفتر الوحي (أي انقطع) مدة طويلة ، وهذه المدة قدرها أهل العلم بستة أشهر ، وقال بعضهم: إنها بلغت ثلاث سنين . الشاهد أن ورقة بن نوفل رحمه الله تعالى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بشّره بالجنة أو أخبره أنه من أهل الجنة ، ولكن هل كان صحابيا؟ الصحيح أنه لم يكن صحابي وذلك أنه لم يدرك الرسالة ، لأنه مات بعد مبعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقبل تبليغه صلوات الله وسلامه عليه .
ولا بأس أن نذكر أنواع الوحي . أنواع الوحي ستة كما قال أهل العلم .
القسم الأول: الرؤيا الصادقة وهي كانت مبدأ الوحي للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
القسم الثاني: وهو ما كان يلقيه الملك في روع النبي وقلبه صلوات الله وسلامه عليه ، كقوله صلوات الله وسلامه عليه :"إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب".
والقسم الثالث: أنه كان يتمثل الملك رجلا فيخاطب النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعي عنه ، كما في حديث جبريل لما جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه .
القسم الرابع: وهو أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس وكان هذا أشدّه عليه حتى جبين النبي صلوات الله وسلامه عليه ليتصبب عرقا في اليوم شديد البرد.
القسم الخامس: أن يرى الملك في صورته التي خلقه الله تبارك وتعالى عليها فيوحي ماشاء.
القسم السادس: ما يوحيه الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم مباشرة دون واسطة ملك .
|