كتاب من هنا نحكم (الجزء الثاني) الشيخ أبو أحمد كمال بن مختار إسماعيل حميدة
لمحة عن النظم الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الوعد الأمين، وارْضَ اللهم عن صحابته وأتباعه أجمعين، وبعد:
فها نحن نلتقي مع فرع جديد من فروع "السياسة الشرعية"، ألا وهو: "النظام المالي في الإسلام":
1. لمحة عن النظم الإسلامية العامّة:
في البداية أقول: إن الله تعالى خلَق الإنسان، وجعله خليفة له في الأرض، وفضّله على سائر المخلوقات، وسخّر له ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه، وتولاّه بالهداية والإرشاد؛ فأرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ لئلاّ يكون للناس على الله حُجة، قال تعالى: { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ( 38 )وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(39)} [البقرة: 38، 39].
وكان القرآن الكريم -كما هو معروف- آخِر كتاب سماويٍّ للإنسان؛ ولذا جعله الله تعالى شاملًا كلّ ما يحتاج إليه الإنسان في دنياه وأُخراه، قال تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89].
ويذكر الطبري في تفسيره لهذه الآية أن الله عز وجل يقول: نزل عليك -يا محمد- هذا القرآن، بيانًا لكلِّ ما بالناس إليه الحاجة، من معرفة الحلال والحرام، والثواب والعقاب.
وقد ذكَر علماء الأصول: أنّ المقصد العامّ للشارع هو: تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجِل معًا، سواء كانت هذه المصالح ضرورية أو حاجية أو تحسينية.
وقد فصّلنا القول في هذه الأنواع من المصالح، مع التمثيل لها في كلامنا عن المصدر الرابع للسياسة الشرعية، ويكفي أن نذكِّر هنا بأنواع هذه المصالح:
النوع الأول: المصالح الضرورية:
وهي ما لا بد منه في قيام مصالح الدين والدنيا معًا، بحيث إذا فُقدت لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل تفوت الحياة أو يختلّ نظامها؛ وهذا أحد تعريفات المصالح الضرورية.
وكلّ التعريفات تدور في هذا الإطار، إذا فُقدت هذه المصالح الضرورية اختلّ نظام الحياة، وفي الآخرة يفوت النجاة والنعيم، ويكون الرجوع بالخسران المبين.
وتتمثل هذه المصالح -كما أشرنا آنفًا- في حفْظ ما سُمِّي بالكليات الخمس أو الأصول الخمسة، وهي: حفْظ الدِّين، والنفس، والعقل، والمال، والنّسل أو العِرض.
النوع الثاني: المصالح الحاجية:
وهي ما يحتاج إليها الإنسان لتتحقق له التّوسعة، ويرفع عنه الضيق المؤدِّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة. وتتمثل أيضًا في الرّخص في العبادات: كالتّيمّم، والقَصر، والجمع في الصلاة. وتجري كذلك في المعاملات: كالقراض، والسّلَم، وأيضًا في الجنايات، وتضمين الصّنّاع، والقسامة، وفرض الدِّية على العاقلة، ونحو هذا...
النوع الثالث: المصالح التكميلية:
ومعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنّب الأحوال السيئة والأمور الفاسدة التي تأنفها العقول الصحيحة والفِطَر السليمة. ويجمع ذلك مكارم الأخلاق كالطهارة، وستر العورة، وأخذ الزينة، والتقرب إلى الله عز وجل بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات، وكثير من مظاهر أو نوافل الطاعات، ومن ذلك: آداب الأكل والشرب، ونحو هذا...
وقد بُعِث نبينا صلي الله عليه وسلم ليتمِّم مكارم الأخلاق، والذي يطالع القرآن الكريم يجد هذا الشمول واضحًا وضوح الشمس في وسط النهار، فقد تناول جميع الأمور العقائدية، والأخلاقية، والتشريعية، والروحية، بالتنظيم والتشريع والتأصيل؛ فنظّم الناحية العقائدية، وجعل الإنسان يسير في طريق واضح لا لَبس فيه ولا غموض؛ قال تعالى( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . قال تعالى ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) الآية 110 الكهف
ونظّم الناحية الروحية، وشرع من العبادات ما يُشبع الروح الإنسانية ويَسمو بها؛ وحسبنا أن نقرأ شيئًا عن حِكم وأسرار العبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج...
ونظّم أيضًا الناحية الأخلاقية؛ فوضع من المبادئ الرفيعة والأخلاق السامية ما يجعل الإنسان في قمة المخلوقات؛ لاسيما وأنه أكرمُ خلْق الله في الأرض. وقد مدح رسولَه القدوة صلى الله عليه وسلم فقال ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [القلم: 4]. ولما سئلت السيدة عائشة < عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ((كان خُلُقُه القرآن)). وهذا وصف دقيق من أمِّ المؤمنين السيدة عائشة <.
ونظم القرآن الكريم أيضًا الناحية التشريعية، تلك التي تتعلّق بمجالات الحياة الدنيوية من بيوع، ومعاملات، وجنايات، إلى غير ذلك ممّا وُجد في كتب الفقه الإسلامي.
كذلك وَجدنا فيه الناحية السياسية، وما يتعلّق بها من علاقة الفرد بالدولة، والدولة بالفرد، قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ [النساء: 59]. وغير ذلك من الآيات التي تهتم بمثل هذه العلاقات.
ونظّم الناحية الاجتماعية، فحدّد العلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة، وبين الفرد في الأسرة وأقاربه وجيرانه، وغير ذلك... على سبيل المثال-: يقول تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض [النساء: 34]، ويقول أيضًا: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ [العنكبوت: 8]، ويقول: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء: 36]. من ذلك أيضًا قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11]، إلى آخِر حدود الله في آيات المواريث، والتي ختمها بقوله تعالى في آخِر سورة (النساء): يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء: 176].
أيضًا، نظّم القرآن الكريم الناحية الإدارية، فأشار مثلًا إلى الإمارة والوزارة، وغير ذلك... على سبيل المثال قال تعالى: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين [القصص: 5]، إلى غير ذلك من النصوص الدينية من القرآن والسُّنّة، التي تتعلّق بالنظام السياسي الإسلامي.
نظّم القرآن الكريم أيضًا الناحية العسكرية، فحثّ المسلمين على الجهاد في سبيل الله، وأمَرهم بإعداد العُدّة اللازمة، فقال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) [الأنفال: 60]. وفي الحديث الصحيح: ((المؤمنُ القويّ خيْر وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيْر)).
ونظّم الناحية الاقتصادية والمالية، فبيّن مثلًا وسائل كسب الثروة للفرد والدولة. كما عرض لقضايا صرف الثروة وتوزيعها بصورة مُجمَلة في القرآن الكريم، ومفصّلة في السنة النبوية المطهّرة.
نذكر من هذه النصوص مثلًا قول الحق تعالى: وآتوا حقه يوم حصاده [الأنعام: 141] بخصوص زكاة الزروع والثمار. وقال تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275]، إلى غير ذلك من نصوص القرآن والسُّّنة التي وضعت المبادئ الكلية للتعامل في الإسلام.
ممّا سبق، يتبيّن لنا: أنّ النظام المالي للدولة الإسلامية جزء من النظام الاقتصادي الذي هو جزء من النظم الإسلامية العامة، تلك التي أرشد الله عز وجل الإنسان إليها، وجعلها محقِّقة لسعادته في الدنيا والآخرة متى التزم بها.
المقصود بالنظام المالي للدولة الإسلامية، وعناصره:
إنّ النظام المالي للدولة الإسلامية هو -بإيجاز شديد-: مجموعة الأحكام الشرعية العملية، التي تنظم موارد الدولة الإسلامية ومصارفها، بما يكفل سدّ النفقات العامة التي تقتضيها المصالح العامة للمجتمع الإسلامي، من غير إرهاق للأفراد، ولا إضاعة لمصالحهم الخاصة.
وفي ذلك يقول الأستاذ الدكتور عبد الوهاب خَلَّاف في كتابه (السياسة الشرعية)، معرِّفًا بالسياسة المالية للدولة الإسلامية تحت عنوان "السياسة الشرعية المالية": "السياسة المالية للدولة هي: تدبير مواردها، ومصارفها، بما يكفل سدّ النفقات التي تقتضيها المصالح العامّة من غير إرهاق للأفراد، ولا إضاعة لمصالحهم الخاصة. وهي إنما تكون عادلة -كما يقول- إذا تحقّق فيها أمران:
الأمر الأوّل: أن يُراعى في الحصول على الإيراد: العدل والمساواة، بحيث لا يطالَب فرد بغير ما يَفرضه القانون، ولا يُفرض على فرد أكثر ممّا تحتمله طاقته وتستدعيه الضرورة.
الأمر الثاني: أن يُراعى في تقسيم الإيراد جميع مصالح الدولة على قدْر أهمّيّتها، بحيث لا تراعى مصلحة دون أخرى، ولا يكون نصيب المهمّ أوفر من نصيب الأهمّ".
وأضاف الشيخ خَلَّاف: "والموارد الإسلامية التي رتّبت لسدّ نفقات المصالح العامة هي ما يأتي:
1. الزكاة في الأموال، وعروض التجارة، والسوائم، والزروع والثمار.
2. ضريبة الأرض الزراعية من الخراج، والعشر، ونصف العشر.
3. ضريبة الأشخاص التي تؤخَذ من أهل الكتاب وهي: الجزية.
4. العشور، ويقصد ما يسمّى حديثًا بـ"الجمارك"، وهي: الرسوم التي تؤخذ على الواردات إلى البلاد الإسلامية والصادرات منها.
5. خمس الغنائم، أو خمس ما يُعثر عليه من الركاز والمعادن.
6. تركة من لا وارث له أصلًا، أو لا وارث له غير أحد الزوجين، ومال اللقطة، وكلّ مال لم يعرف له مالك، وكلّ مال صولح عليه المسلمون، وهو ما يسمّى بـ"الفيء".
وهذه -كما يقول الشيخ خلاف في نهاية تقسيماته- أبواب الإيراد المالي للدولة الإسلامية. وبعضها ثابت أصله في الكتاب والسنة، وبعضها ثبت باجتهاد الصحابة في صدر الإسلام. ولكلّ منها أحكام تفصيلية مبسوطة في مواضعها".
المصالح العامة للمجتمع
أولًا: بخصوص المصالح العامة، والحاجات الضرورية للمجتمع الإسلامي، فلا يخلو مجتمع من المجتمعات من حاجات ضرورية تحتاج إلى إشباع، وإلاّ اختلّ نظام الحياة؛ وعلى هذا فيجب على الدولة الإسلامية -في أي زمان ومكان-ألاّ تتجاهل هذه الحاجات وتقف بمعزل عنها، وإنما يجب عليها إشباعها لتحقّق للمجتمع الحياة السعيدة.
وهذه الحاجات الضرورية تختلف من مجتمع إلى مجتمع آخَر، بحسب عقيدته، ونظام الحياة الذي يتحاكم إليه؛ فالدول الحديثة مثلًا تعتبر الحاجات الضرورية للمجتمع قاصرة على إقرار الأمن الداخلي والدفاع عن حدود البلاد؛ أمّا الحاجات الضرورية للمجتمع الإسلامي فلا تقتصر على الأمن الداخلي والدفاع عن حدود البلاد، بل تمتد إلى حماية الدِّين وتطبيقه في واقع الناس كافة. كما تمتد أيضًا إلى تحقيق الضمان الاجتماعي بين أفراد المجتمع المسلم.
وقد تعرّض الفقهاء لهذه الحاجات والمصالح العامة بشيء من التفصيل في كتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية، وهذه الحاجات هي حفظ الدِّين على أصوله المستقرة.
قال الماوردي وأبو يعلى: إنّ السياسة الشرعية عالجت هذه الحاجات الضرورية على النحو الآتي:
1. حفْظ الدين على أصوله المستقرّة، وما أجمع عليه سلَف الأمّة؛ فإن نجَم مبتدعٌ -أي: طلع، أو ظهر - ذو شبهة -أي: ميل عن القصد أو الطريق- يُوضَّح له الحُجة، ويُبيَّن له الصواب؛ تلك هي إذًا مهمّة وليّ الأمر أو الإمام أو الحاكم. وأخَذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسًا من خلَل والأمّة ممنوعة من زلل.
ويتمثّل هذا في إنشاء الأقسام والمعاهد والكليات الشرعية التي تقوم بتدريس الدين والعلوم المساعدة له؛ كاللغة، والحساب، وعلم النفس، والتربية، وغير ذلك... كما يتمثّل في تشجيع الجمعيات والأجهزة التي تقوم بنشر الدعوة الإسلامية. كما يتمثّل في محاربة البدع ونشر المجلات والكتب الضالة والمضللة وما في حكمها، ممّا تساهم في إفساد الجيل وتضليله؛ ولا سيما شباب الأمة.
2. تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطْع الخصام بين المتنازعين، ويتمثّل هذا في القضاء وديوان المظالم.
3. حماية البيضة، والذب عن الحريم، أي: الدفاع عن البلاد، ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال. ويتمثل هذا في دوائر الأمن والشرطة.
4. إقامة الحدود، كحدّ شرب الخمر، وحدّ الزنا، وحد القذف، وحد قطع الطريق أو الحرابة، لتُصان محارم الله عن الانتهاك، وكذلك حقوق العباد من الاعتداء عليها، أو كما يقول الماوردي: "وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك"، ويتمثل هذا في الأمن الجنائي والقضاء الجنائي.
5. تحصين الثغور بالعدّة المانعة والقوة الدافعة؛ حتى لا تظفر الأعداء بثغرة ينتهكون فيها محرمًا أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا؛ ويتمثل هذا في وزارة الدفاع وما في معناها أو حُكمها.
6. جهاد مَن عاند الإسلام بالدعوة؛ حتى يُسلم أو يدخل في الذمة، ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدِّين؛ ويتمثل هذا في الجيش والقوة اللازمة له.
7. تحقيق الضمان الاجتماعي بسدّ حاجة المحتاجين إلى الطعام والكساء والدواء والمال، إذا لم يكن لهم مَن تجب عليهم نفقتهم؛ وهذا يكون بجباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًّا أو اجتهادًا من غير حيْف ولا عسف.
|