سبحان الله وبحمده
جعل الله الرحمة مائة جزء
جعل الله الرحمة مائة جزء ...
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ الْبَهْرَانِيُّ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قَوْله : ( الْبَهْرَانِيّ )
بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَة وَسُكُون الْهَاء نِسْبَة إِلَى قَبِيلَة مِنْ قُضَاعَة يَنْتَهِي نَسَبهمْ إِلَى بَهْر بْنِ عَمْرو بْن الْحَاف بْن قُضَاعَة , نَزَلَ أَكْثَرهمْ حِمْص فِي الْإِسْلَام .
قَوْله : ( جَعَلَ اللَّه الرَّحْمَة فِي مِائَة جُزْء )
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ كَانَ الْمَعْنَى يَتِمّ بِدُونِ الظَّرْف فَلَعَلَّ " فِي " زَائِدَة أَوْ مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوفٍ , وَفِيهِ نَوْع مُبَالَغَة إِذْ جَعَلَهَا مَظْرُوفًا لَهَا مَعْنَى بِحَيْثُ لَا يَفُوت مِنْهَا شَيْء .
وَقَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون سُبْحَانه وَتَعَالَى لَمَّا مَنَّ عَلَى خَلْقه بِالرَّحْمَةِ جَعَلَهَا فِي مِائَة وِعَاء فَأَهْبَطَ مِنْهَا وَاحِدًا لِلْأَرْضِ . قُلْت : خَلَتْ أَكْثَر الطُّرُق عَنْ الظَّرْف كَرِوَايَةِ سَعِيد الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة الْآتِيَة فِي الرِّقَاق " إِنَّ اللَّه خَلَقَ الرَّحْمَة يَوْم خَلَقَهَا مِائَة رَحْمَة " وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَة عَطَاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " إِنَّ لِلَّهِ مِائَة رَحْمَة " وَلَهُ مِنْ حَدِيث سَلْمَان " إِنَّ اللَّه خَلَقَ مِائَة رَحْمَة يَوْم خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض , كُلّ رَحْمَة طِبَاق مَا بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض "
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : يَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَى " خَلَقَ " اِخْتَرَعَ وَأَوْجَدَ , وَيَجُوز أَنْ يَكُون بِمَعْنَى قَدَّرَ , وَقَدْ وَرَدَ خَلَقَ بِمَعْنَى قَدَّرَ فِي لُغَة الْعَرَب فَيَكُون الْمَعْنَى أَنَّ اللَّه أَظْهَرَ تَقْدِيره لِذَلِكَ يَوْم أَظْهَرَ تَقْدِير السَّمَاوَات وَالْأَرْض .
وَقَوْله : " كُلّ رَحْمَة تَسَعُ طِبَاق الْأَرْض " الْمُرَاد بِهَا التَّعْظِيم وَالتَّكْثِير , وَقَدْ وَرَدَ التَّعْظِيم بِهَذَا اللَّفْظ فِي اللُّغَة وَالشَّرْع كَثِيرًا .
قَوْله : ( فَأَمْسَكَ عِنْدَه تِسْعَة وَتِسْعِينَ جُزْءًا )
فِي رِوَايَة عَطَاء " وَأَخَّرَ عِنْدَه تِسْعَة وَتِسْعِينَ رَحْمَة " وَفِي رِوَايَة الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عِنْدَ مُسْلِم " وَخَبَّأَ عِنْدَهُ مِائَة إِلَّا وَاحِدَة " .
قَوْله : ( وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْض جُزْءًا وَاحِدًا )
فِي رِوَايَة الْمَقْبُرِيِّ " وَأَرْسَلَ فِي خَلْقه كُلّهمْ رَحْمَة " وَفِي رِوَايَة عَطَاء " أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَة وَاحِدَة بَيْنَ الْجِنّ وَالْإِنْس وَالْبَهَائِم " وَفِي حَدِيث سَلْمَان " فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الْأَرْض وَاحِدَة " قَالَ الْقُرْطُبِيّ هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الرَّحْمَة يُرَاد بِهَا مُتَعَلِّق الْإِرَادَة لَا نَفْس الْإِرَادَة , وَأَنَّهَا رَاجِعَة إِلَى الْمَنَافِع وَالنِّعَم .
قَوْله : ( فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْء تَتَرَاحَم الْخَلْقُ , حَتَّى تَرْفَع الْفَرَس حَافِرهَا عَنْ وَلَدهَا خَشْيَة أَنْ تُصِيبهُ )
فِي رِوَايَة عَطَاء " فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ , وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ , وَبِهَا تَعْطِف الْوَحْش عَلَى وَلَدهَا " وَفِي حَدِيث سَلْمَان " فِيهَا تَعْطِف الْوَالِدَة عَلَى وَلَدهَا , وَالْوَحْش وَالطَّيْر بَعْضهَا عَلَى بَعْض "
قَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة : خُصَّ الْفَرَس بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشَدّ الْحَيَوَان الْمَأْلُوف الَّذِي يُعَايِن الْمُخَاطَبُونَ حَرَكَته مَعَ وَلَده , وَلِمَا فِي الْفَرَس مِنْ الْخِفَّة وَالسُّرْعَة فِي التَّنَقُّل , وَمَعَ ذَلِكَ تَتَجَنَّب أَنْ يَصِل الضَّرَر مِنْهَا إِلَى وَلَدهَا .
وَوَقَعَ فِي حَدِيث سَلْمَان عِنْدَ مُسْلِم فِي آخِره مِنْ الزِّيَادَة " فَإِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَة مِائَة " وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ الرَّحْمَة الَّتِي فِي الدُّنْيَا بَيْنَ الْخَلْق تَكُون فِيهِمْ يَوْم الْقِيَامَة يَتَرَاحَمُونَ بِهَا أَيْضًا ,
وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْمُهَلَّب فَقَالَ : الرَّحْمَة الَّتِي خَلَقَهَا اللَّه لِعِبَادِهِ وَجَعَلَهَا فِي نُفُوسهمْ فِي الدُّنْيَا هِيَ الَّتِي يَتَغَافَرُونَ بِهَا يَوْم الْقِيَامَة التَّبَعَات بَيْنَهمْ .
قَالَ : وَيَجُوز أَنْ يَسْتَعْمِل اللَّه تِلْكَ الرَّحْمَة فِيهِمْ فَيَرْحَمهُمْ بِهَا سِوَى رَحْمَته الَّتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْء وَهِيَ الَّتِي مِنْ صِفَة ذَاته وَلَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهَا , فَهِيَ الَّتِي يَرْحَمهُمْ بِهَا زَائِدًا عَلَى الرَّحْمَة الَّتِي خَلَقَهَا لَهُمْ ,
قَالَ : وَيَجُوز أَنْ تَكُون الرَّحْمَة الَّتِي أَمْسَكَهَا عِنْدَ نَفْسه هِيَ الَّتِي عِنْدَ مَلَائِكَته الْمُسْتَغْفِرِينَ لِمَنْ فِي الْأَرْض ; لِأَنَّ اِسْتِغْفَارهمْ لَهُمْ دَالّ عَلَى أَنَّ فِي نُفُوسهمْ الرَّحْمَة لِأَهْلِ الْأَرْض .
قُلْت : وَحَاصِل كَلَامه أَنَّ الرَّحْمَة رَحْمَتَانِ , رَحْمَة مِنْ صِفَة الذَّات وَهِيَ لَا تَتَعَدَّد , وَرَحْمَة مِنْ صِفَة الْفِعْل وَهِيَ الْمُشَار إِلَيْهَا هُنَا . وَلَكِنْ لَيْسَ فِي شَيْء مِنْ طُرُق الْحَدِيث أَنَّ الَّتِي عِنْدَ اللَّه رَحْمَة وَاحِدَة بَلْ اِتَّفَقَتْ جَمِيع الطُّرُق عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ تِسْعَة وَتِسْعِينَ رَحْمَة , وَزَادَ فِي حَدِيث سَلْمَان أَنَّهُ يُكْمِلهَا يَوْم الْقِيَامَة مِائَة بِالرَّحْمَةِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا , فَتَعَدُّدُ الرَّحْمَة بِالنِّسْبَةِ لِلْخَلْقِ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيث أَنَّ اللَّه عَلِمَ أَنَّ أَنْوَاع النِّعَم الَّتِي يُنْعِم بِهَا عَلَى خَلْقه مِائَة نَوْع , فَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِنَوْعٍ وَاحِد اِنْتَظَمَتْ بِهِ مَصَالِحهمْ وَحَصَلَتْ بِهِ مَرَافِقهمْ , فَإِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة كَمَّلَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَا بَقِيَ فَبَلَغَتْ مِائَة وَكُلّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ , وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) فَإِنَّ رَحِيمًا مِنْ أَبْنِيَة الْمُبَالَغَة الَّتِي لَا شَيْء فَوْقهَا , وَيُفْهَم مِنْ هَذَا أَنَّ الْكُفَّار لَا يَبْقَى لَهُمْ حَظٌّ مِنْ الرَّحْمَة لَا مِنْ جِنْس رَحَمَات الدُّنْيَا وَلَا مِنْ غَيْرهَا إِذَا كَمَّلَ كُلّ مَا كَانَ فِي عِلْم اللَّه مِنْ الرَّحَمَات لِلْمُؤْمِنِينَ , وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) الْآيَة .
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : الرَّحْمَة هُنَا عِبَارَة عَنْ الْقُدْرَة الْمُتَعَلِّقَة بِإِيصَالِ الْخَيْر , وَالْقُدْرَة فِي نَفْسهَا غَيْر مُتَنَاهِيَة , وَالتَّعْلِيق غَيْر مُتَنَاهٍ , لَكِنْ حَصْرُهُ فِي مِائَة عَلَى سَبِيل التَّمْثِيل تَسْهِيلًا لِلْفَهْمِ وَتَقْلِيلًا لِمَا عِنْدَ الْخَلْق وَتَكْثِيرًا لِمَا عِنْدَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى , وَأَمَّا مُنَاسَبَة هَذَا الْعَدَد الْخَاصّ .
فَحَكَى الْقُرْطُبِيّ عَنْ بَعْض الشُّرَّاح أَنَّ هَذَا الْعَدَد الْخَاصّ أُطْلِقَ لِإِرَادَةِ التَّكْثِير وَالْمُبَالَغَة فِيهِ , وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ عَادَة الْعَرَب بِذَلِكَ فِي الْمِائَة وَإِنَّمَا جَرَى فِي السَّبْعِينَ , كَذَا قَالَ .
وَقَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة : ثَبَتَ أَنَّ نَار الْآخِرَة تَفْضُل نَار الدُّنْيَا بِتِسْعٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا فَإِذَا قُوبِلَ كُلّ جُزْء بِرَحْمَةٍ زَادَتْ الرَّحَمَات ثَلَاثِينَ جُزْءًا , فَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّ الرَّحْمَة فِي الْآخِرَة أَكْثَر مِنْ النِّقْمَة فِيهَا . وَيُؤَيِّدهُ قَوْله : " غَلَبَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي " .
قُلْت : لَكِنْ تَبْقَى مُنَاسَبَة خُصُوص هَذَا الْعَدَد , فَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون مُنَاسَبَة هَذَا الْعَدَد الْخَاصّ لِكَوْنِهِ مِثْل عَدَد دَرَج الْجَنَّة , وَالْجَنَّة هِيَ مَحَلّ الرَّحْمَة , فَكَانَ كُلّ رَحْمَة بِإِزَاءِ دَرَجَة , وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَدْخُل أَحَد الْجَنَّة إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى , فَمَنْ نَالَتْهُ مِنْهَا رَحْمَة وَاحِدَة كَانَ أَدْنَى أَهْل الْجَنَّة مَنْزِلَة , وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَة مَنْ حَصَلَتْ لَهُ جَمِيع الْأَنْوَاع مِنْ الرَّحْمَة .
وَقَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة : فِي الْحَدِيث إِدْخَال السُّرُور عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ الْعَادَة أَنَّ النَّفْس يَكْمُل فَرَحهَا بِمَا وُهِبَ لَهَا إِذَا كَانَ مَعْلُومًا مِمَّا يَكُون مَوْعُودًا . وَفِيهِ الْحَثّ عَلَى الْإِيمَان , وَاتِّسَاع الرَّجَاء فِي رَحَمَات اللَّه تَعَالَى الْمُدَّخَرَة .
قُلْت : وَقَدْ وَقَعَ فِي آخِر حَدِيث سَعِيد الْمَقْبُرِيِّ فِي الرِّقَاق " فَلَوْ يَعْلَم الْكَافِر بِكُلِّ مَا عِنْدَ اللَّه مِنْ الرَّحْمَة لَمْ يَيْأَس مِنْ الْجَنَّة " وَأَفْرَدَهُ مُسْلِم مِنْ طَرِيق الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة .
نسأل الله أن يرحمنا برحمته التي وسعت السموات والأرض
ولا تنسونا من دعائكم
منقول
|