فائدة اليوم 30 جمادي الاول / 1434
قال العلامة السعدي -رحمه الله- في تفسير قولِه -تعالَى-: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء 215]:
( بِلين جانبك، ولُطفِ خِطابكَ لهُم، وتَوَدُّدِك، وتَحبُّبِك إليهم، وحُسْنِ خُلقِك والإحسانِ التام بهم.
وقد فعل -صلَّى اللهُ عليه وسلم-، ذلك كما قال -تعالى-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}؛ فهذه أخلاقُه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أكملُ الأخلاق، التي يَحصُل به مِن المصالِح العظيمة، ودفْعِ المضارّ، ما هو مُشاهَد.
فهل يليقُ بمؤمن بالله ورسوله، ويدَّعي اتِّبَاعَه والاقتداءَ به، أن يكونَ كَلًّا على المسلمين، شرِسَ الأخلاقِ، شديدَ الشكِيمةِ، غليظَ القلبِ، فظَّ القوْل، فظيعَهُ؟!! وإن رأى منهم معصيةً، أو سوءَ أدب؛ هجَرَهم، ومقَتَهُم، وأبْغضَهُم، لا لِينَ عندَه، ولا أدبَ لديه، ولا توفيق!!
قد حصل مِن هذه المعاملة، مِن المفاسد، وتعطيلِ المصالح ما حصل.
ومع ذلك تجدْه محْتَقِرًا، لمَنِ اتَّصَف بصفاتِ الرسول الكريم، وقد رمَاه بالنفاقِ والمداهنة، وذكر نفسَه ورَفعَها، وأعْجِبَ بعمَلِه. فهل يُعَدُّ هذا إلا مِن جهْلِه، وتزيينِ الشيطان، وخدعِه له؟!!
ولهذا قال الله لرسوله: {فَإِنْ عَصَوْكَ}: في أمْرٍ مِن الأمور، فلا تتبرأ منهم، ولا تتركْ معاملتَهم بِخفضِ الجناح ولين الجانب، بل تبرأ من عملِهم، فعظْهُم عليه، وانْصَحْهم، وابذل قدرتَك في ردِّهم عنه، وتوبتِهم منه.
وهذا الدفع، احترازُ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّم، أن قولَه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: يقتضي الرضاء بجميع ما يصدُر منهم ما داموا مؤمنين، فدَفَع هذا، والله أعلم ).
وقال -رحمهُ الله- في تفسير قولِه -تعالى-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران 159]:
( أي: برحمةِ اللهِ لكَ ولأصحابكَ مَنَّ اللهُ عليكَ أن ألَنْتَ لهم جانبَك، وخفضتَ لهم جناحَك وترققت عليهم وحسنت لهم خلقك؛ فاجتمعوا عليك وأحبوك وامتثلوا أمرك.
{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا}؛ أي: سيئ الخلق، {غَلِيظَ الْقَلْبِ}؛ أي: قاسِيَهُ؛ {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ؛ لأن هذا يُنَفِّرُهُم ويُبَغِّضُهُم لِمَن قامَ به هذا الخلُقُ السيئ.
فالأخلاق الحسنة من الرئيسِ في الدنيا تجذبُ الناسَ إلى دين الله وتُرَغِّبُهُم فيه مَع ما لِصاحِبه مِن المدحِ والثوابِ الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تُنَفِّرُ الناسَ عن الدين،
وتُبَغِّضُهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص.
فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول فكيف بغيره؟!
أليس من أوجب الواجبات وأهمِّ المهمات الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما كان يعامِلُهُم به -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مِن اللين، وحُسن الخلق، والتأليف؛ امتثالا لأمْر الله، وجذبا لِعباد الله لدين الله؟!
ثم أمرَه تعالى بأن يعفوَ عنهم ما صَدَر منهم مِن التقصير في حقه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، ويستغفر لهم في التقصير في حقِّ الله؛ فيجمعُ بين العفو والإحسانِ ).
__________________
«ولو أنّا كلّما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له، قمنا عليه، وبدّعناه، وهجرناه، لما سلم معنا لا ابنُ نصر، ولا ابنُ منده، ولا من هو أكبرُ منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحقّ، وهو أرحمُ الراحمين، فنعوذُ بالله من الهوى والفظاظة»
[ الذهبي «سير أعلام النبلاء»: (14/ 40)]
|