عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 2014-08-11, 09:31 PM
لطفى لطفى غير متواجد حالياً
معبر رؤى
 
تاريخ التسجيل: 2014-08-08
المشاركات: 18
افتراضي

المبحث الثاني
شرح الحديث
ويشمل المطالب التالية:
المطلب الأول: الصفات التي تشترط للرؤيا وصاحبها
اشتملت أحاديث الباب على صفات للرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة، وعلى صفات لصاحبها، وسأقتصر في هذا المطلب على ما ورد في الروايات الصحيحة:
فقد ورد: "الرؤيا الصالحة" في حديث (4، 9)، و"الرؤيا الصادقة الصالحة" في (10)، و"رؤيا العبد المؤمن الصادقة الصالحة" في (11)، و"الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح" في (1، 3)، و"رؤيا المسلم" في (14)، و"رؤيا الرجل المسلم" في (15)، و"رؤيا المؤمن" في (2).
فقد ذكرت هذه الروايات ثلاث صفات للرؤيا، وهي: الصالحة، والصادقة، والحسنة. وثلاث صفات لصاحبها، وهي: الإسلام، والإيمان، والصلاح.
والملاحظ أن صفة (الصلاح) للرؤيا وصحابها هي الصفة الغالبة في هذه الروايات، فقد ذكرتها تارة مفردة، وتارة مضافة إلى صفات أخرى، وفي هذا دليل على أن الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوة إلا إذا كانت صالحة، ورائيها صالحاً.
أما الرائي: فالصلاح في حقه مرتبة بعد الإسلام والإيمان، وتكون رؤياه من أجزاء النبوة إذا تحقق بالإسلام والإيمان وكان صالحاً، وهذا جمع حسن بين ألفاظ الروايات السابقة.
ومعنى صلاح العبد: استقامته على شرح الله تعالى في الأقوال والأفعال وسائر الأحوال.
ولما كان الناس متفاوتين في هذا، كانت رؤاهم متفاوتة في قدر جزء النبوة، دل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً))[402].
قال ابن حجر[403]:"وإنما كان كذلك؛ لأن من كثر صدقه تنور قلبه، وقوي إدراكه، فانتقشت فيه المعاني على وجه الصحة، وكذلك من كان غالب حاله الصدق في يقظته، استصحب ذلك في نومه، فلا يرى إلا صدقاً..".
وأما الكافر، والمنافق، والفاسق: فلا تضاف رؤياهم إلى النبوة أصلاً، وإن صدقت في بعض الأحيان، لانعدام بعض الأوصاف المذكورة أو كلها.
قال ابن عبدالبر[404]: "قد تكون الرؤيا الصادقة من الكافر ومن الفاسق، كرؤيا الملك التي فسرها يوصف عليه السلام[405]، ورؤيا الفتيين في السجن[406]، - وذكر أمثلة أخرى، ثم قال: - ومثل هذا كثير".
وقال القرطبي[407]: إن الكافر والفاجر والفاسق والكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوات، لا تكون من الوحي، ولأن النبوة؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبر ذلك نبوة، وقد تقدم في الأنعام[408] أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق، لكن ذلك على الندرة والقلة، فكذلك رؤيا هؤلاء" انتهى.
وأما الرؤيا: فيشترط فيها أن تكون صالحة أيضاً.
والرؤية الصالحة: هي الصحيحة المستقيمة، المحققة الوقوع، التي لا تكون أضغاثاً، ولا من تشبيهات الشيطان، ولا ناتجة عن حديث النفس.
قال أبو بكر ابن العربي[409] "معنى صلاحها: استقامتها وانتظامها".
وقال المناوي[410] "وصفت بالصلاح لتحققها وظهورها على وفق المرئي".
وتكثر الرؤى الصالحة من أهل الإيمان والصلاح في آخر الزمان، قال - صلى الله عليه وسلم-: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب..." الحديث[411].
ومعنى اقتراب الزمان- على الصحيح-: انتهاء مدته إذا دنا يوم القيامة، يدل عليه رواية الترمذي[412] للحديث: ((في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب...)).
قال ابن بطال[413] وقوله- عليه السلام-: ((إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن)) فمعناه- والله أعلم- إذا اقتربت الساعة، وقبض أكثر العلم، ودرست معالم الديانة بالهرج والفتنة، فكان الناس على فترة من الرسل يحتاجون إلى مذكر ومجدد لما درس من الدين، كما كانت الأمم قبلنا تذكر بالنبوة.
فلما كان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم- خاتم الرسل، وما بعده من الزمان ما يشبه الفترة، عوضوا بما منعوا من النبوة بعده بالرؤيا الصادقة...".
والرؤيا الصالحة: قد تشتمل على بشارة فتكون سارة، أو نذارة فتكون غير سارة، وعلى هذا تكون "الرؤيا الصالحة" تساوي من حديث المعنى: "الرؤيا الصادقة".
لكن يعكر على هذا حديث ابن مسعود المتقدم برقم (10): ((الرؤيا الصادقة الصالحة)) حيث جمع بين صدقها وصلاحها، والأصل في مثل هذا التغاير في المعنى، وهذا ما ذهب إليه نصر بن يعقوب الدينوري[414]، حيث جعل الصادقة عامة، والصالحة: الرؤيا السارة.
وقال ابن حجر[415]: "هما بمعنى واحد بالنسبة إلى أمور الآخرة في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا: فالصالحة في الأصل أخص، فرؤيا النبي كله صادقة، وقد تكون صالحة - وهي الأكثر -، وغير صالحة: بالنسبة للدنيا، كما وقع في الرؤيا يوم أحد[416].
وأما رؤيا غير الأنبياء: فبينهما عموم وخصوص إن فسرنا الصادقة بأنها التي لا تحتاج إلى تعبير، وأما إن فسرناها بأنها غير الأضغاث، فالصالحة أخص مطلقاً".
قلت: تفسير (الصالحة) بـ (السارَّة) عند الدينوري وابن حجر، يجعلها تساوي من حيث المعنى (الحسنة) كما ورد في حديث أنس وأبي هريرة (1، 2).
ويؤيده قول ابن حجر[417] "ووقع في حديث أبي سعيد: "الرؤيا الصالحة" وهو تفسير المراد بالحسنة" انتهى.
وخلاصة ما تقدم: أن الرؤيا التي هي من أجزاء النبوة هي الرؤيا الصادقة، أي: المنتظمة المستقيمة، المحققة الوقوع، التي ليست بأضغاث، ولا من حديث النفس، ولا من تشبيهات الشيطان.
ثم إنها إن حملت بشارة، فأدخلت السرور على قلب رائيها، فتسمى أيضاً: (حسنة)، فتكون رؤيا صادقة حسنة.
وأما (الرؤيا الصالحة) فبعضهم فسرها بالصادقة، وبعضهم فسرها بالحسنة.
ويرجح الثاني: ما أخرجه البخاري[418]من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات" قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة".
فسمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- المبشرات وهي الرؤى الحسنة: صالحة.
تنبيه: قال القرطبي[419] "هذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا- يعني: التي هي جزء من النبوة- بشرى على الإطلاق، وليس كذلك، فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسر رأيها، وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقاً به ورحمة، ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه.. وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل تدل على محنته، فكتب إليه بذلك؛ ليستعد لذلك" انتهى.
قلت: تقسيم الرؤيا إلى: مبشرة ومنذرة، باعتبار مضمونها، ولها تقسيم أخر باعتبار دلالتها:
قال ابن بطال[420]: "الرؤيا تنقسم إلى قسمين، لا ثالث لهما:
[القسم الأول] هو أن يرى الرجل رؤيا جلية، ظاهرة التأويل، مثل: أن يرى أنه يعطي شيئاً في المنام، فيعطى مثله بعينه في اليقظة، وهذا الضرب من الرؤيا لا إغراب في تأويلها، ولا رمز في تعبيرها.
والقسم الثاني: مايراه في المنامات المرموزة، البعيدة المرام في التأويل، وهذا الضرب يعسر تأويله إلى على الحذاق بالتعبير؛ لبعد ضرب المثل فيه" انتهى.
وخلاصته أن الرؤيا تنقسم باعتبار دلالتها إلى قسمين: جلية: ظاهرة التأويل، وخفية: بعيدة التأويل.
قال القرطبي[421]: "فإن أدرك - أي: تأويل الخفية - تأولها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك" انتهى.

المطلب الثاني: التوفيق بين الروايات في تحديد الجزء
تقدم الكلام على أن أحاديث الباب مختلفة في تحديد جزء النبوة، وهذا الاختلاف موجود حتى في الروايات الصحيحة منها.
ونظرت في كلام العلماء حول هذا التعارض، فرأيت أقوالاً كثيرة، وتأويلات شتى، منها ما هو سائغ، يشتمل على معنى واضح وجمع حسن، ومنها ما لا يسوغ إلا بتكلف، ولو أردت بسط المسألة، وسرد جميع الأقوال، لطال الكلام، ولما احتمله المقام، فرأيت الاقتصار على أهم الأقوال وأقربها، مسجلاً الملاحظات على تلك الأقوال، ومبيناً المختار منها.
الأول: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يوحى إليه ثلاثاً وعشرين سنة، ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشر سنين بالمدينة، وكان قد أوحي إليه في منامه أول الأمر بمكة ستة أشهر، فمدة الوحي المنامي تساوي نصف سنة، ونسبتها من وحي اليقظة تساوي جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.

وهذا التأويل عزاه المصنفون[422]لبعض أهل العلم. وقد أورد عليه جملة أعتراضات، من أبرزها:
1- لم يثبت أن أمد رؤياه - صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة ستة أشهر، نعم ورد أن ابتداء الوحي كان على رأس الأربعين من عمره - صلى الله عليه وسلم.
وذلك في ربيع الأول، ونزول جبريل عليه وهو بغار حراء كان في رمضان، وبينهما ستة أشهر، وهذا على تقدير تسليمه ليس فيه تصريح بالرؤيا[423].

2- ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى منامات كثيرة بعد البعثة، وهذا يستدعي إضافتها إلى الأشهر الستة الأولى - لو سلمنا بها - فإذا ما جمعت وزيدت على أصل الحساب، تغيرت الأرقام، وفسدت النسبة.
وهذا الاعتراض اعتذر عنه بعض العلماء[424] بأن تلك الأوقات منغمرة في أوقات الوحي الذي في اليقظة، والاعتبار للغالب، بخلاف الأشهر الستة الأولى فإنها منحصرة بالوحي المنامي، قال ابن حجر[425]: "وهو اعتذار مقبول".

3- إن المناسبة المذكورة تقتضي قصر الخبر على صورة ما اتفق لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ولا يلزم من ذلك أن كل رؤيا لكل صالح تكون كذلك.
قال أبو بكر ابن العربي[426]: "وهذا - التأويل - لو ثبت بالنقل ما أفادنا شيئاً في غرضنا، ولا صح حمل اللفظ عليه"[427].

4- هذا القول لا ينسجم على الإطلاق مع جميع أحاديث الباب، وإنما هو توجيه لرواية واحدة فقط، نعم هي أصح الروايات في الباب، لكن لا يعني هذا إهمال باقي الروايات الصحيحة ما أمكن الجمع بينها، فقد تقرر أن الجمع بين الرويات أولى من إعمال إحداها، وإلغاء الباقي، ولذلك قال ابن القيم[428] في التأويل المذكور: "هذا حسن لولا ما جاء في الرواية الأخرى الصحيحة أنها جزء من سبعين جزءاً".
قلت: وكذلك رواية أربعين، وخمسة وأربعين، فقد ثبتت صحتهما أيضاً.
الثاني: لقد اختص الله تعالى نبينا محمداً- صلى الله تعالى عليه وسلم- بطرق من العلم لم تحصل لغيره، والمراد من الحديث: أن نسبة المنامات مما حصل له - صلى الله عليه وسلم- وميز به من تلك الطرق جزء من ستة وأربعين جزءاً.
وهذا التأويل ذكره المازري[429] وقال: "قد مال شيوخنا إلى هذا الجواب".
لكن يرد عليه من الاعتراضات السابقة: الثالث والرابع.
الثالث: تفاوت الأعداد في الروايات عائد إلى تفاوت الأنبياء في المقامات، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ...} الآية[430] فتكون نسبة الرؤيا من أعلى الأنبياء المرسلين جزءاً من سبعين، ونسبتها من أقل النبيين غير المرسلين جزءاً من أربعين، وما بقي من الأعداد فبحسب تفاوت الأنبياء والرسل في الدرجات بينهم[431]
وهذا التأويل وإن سلم مما اعترض به على القولين السابقين، وفيه مراعاة لسائر الروايات، لكن يلزم منه استواء الرائين جميعهم في الجزء، على الرغم من اختلاف درجاتهم، وتباين منازلهم في الصلاح.
الرابع: تفاوت الأعداد عائد إلى اختلاف طرق الوحي، إذ منه: ما سمع من الله بلا واسطة، ومنه: ما كان بواسطة الملك، ومنه: ما ألقي في القلب من الإلهام، ومنه: ما أتاه في النوم، ومنه: ما جاء به الملك على صورته، ومنه: ما جاء به على صورة آدمي معروف، أو غير معروف، ومنه: ما أتاه به في صلصلة الجرس، ومنه: ما يلقيه روح القدس في رُوعه، إلى غير ذلك، فتكون تلك الحالات إذا عدت انتهت إلى العدد المذكور.
وهذا التوجيه عزاه ابن حجر[432] للقاضي عياض، وفيه تكلف ظاهر، لذلك لم يرتضه أبو العباس القرطبي، وتعقبه بقوله[433]: "ولا يخفى ما في هذا الوجه من البعد والتساهل، فإن تلك الأعداد كلها إنما هي أجزاء النبوة، وأكثر الأحوال التي ذكرت هنا ليست من النبوة في شيء، ككونه يعرف الملك أو لا يعرفه، أو يأتيه على صورته أو على غير صورته، ثم مع هذا التكلف العظيم لم يقدر أن يبلغ عدد ما ذكر إلى ثلاثين".
الخامس: تفاوت الأعداد عائد إلى التدرج في فضل الله تعالى وعطائه لأصحاب هذه الرؤى، فيحتمل أن يكون الله عز وجل جعل الرؤيا في البدء جزءاً يسيراً، فكان نسبتها إلى النبوة جزءاً من سبعين، ثم زاد هذا الجزء من فضله تدريجياً حتى بلغ جزءاً من أربعين، وهذا القول ذكره الطحاوي[434].
أقول: لكن هذا القول يتوقف على دليل يفيد أن الروايات التي ذكرت الجزء اليسير متقدمة، والروايات التي ذكرت الجزء الكبير متأخرة، وبدونه يبقى هذا القول ضرباً من الظن، والله أعلم.
السادس: تفاوت الأعداد يرجع إلى تفاوت الرؤى في الدلالات، فالمنامات تحمل دلالات، وهذه الدلالات منها خفي، ومنها جلي - كما تقدم في المطلب السابق- فكلما ازدادت دلالة الرؤيا وضوحاً عظم الجزء، وكلما ازدادت غموضاً صغر الجزء[435] وهذا وجه حسن.
السابع: تفاوت الأعداد عائد إلى اختلاف حال الرائي، فليس جميع من يرى الرؤيا الصالحة على درجة واحدة من الإيمان والصلاح- كما تقدم في تقسيم الرؤى باعتبار من أضيفت إليه- وبه قال جماعة من العلماء، كالإمام الطبري، وصححه أبن العربي وآخرون[436]
قال الطبري[437] "فأما قوله "من سبعين جزءاً من النبوة" فإن ذلك قول عام في كل رؤيا صالحة صادقة لكل مسلم رآها في منامه على أي أحواله كان، وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة والنخعي: إن الرؤيا جزء من سبعين جزءاً من النبوة.
وأما قوله "إنها جزء من أربعين" أو "ستة وأربعين" فإنه يريد بذلك ما كان صاحبها بالحال التي ذكر عن الصديق- رضي الله عنه- أنه يكون بها.
روي ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، أن بكر بن سوادة حدثه أن زياد بن نعيم حدثه أن أبا بكر الصدّيق كان يقول: لأن يرى الرجل المسلم يسبغ الوضوء رؤيا صالحة أحب إليّ من كذا وكذا.
"فمن كان من أهل إسباغ الوضوء في السبرات[438] والصبر في الله على المكروهات، وإنتظار الصلاة بعد الصلاة، فرؤياه الصالحة- إن شاء الله- جزء من أربعين جزءاً من النبوة، ومن كانت حاله في ذاته بين ذلك فرؤياه الصادقة بين الجزء من الأربعين إلى السبعين، لا ينتقص عن سبعين ولا يزاد على أربعين".
قال ابن العربي[439]: "أصح ما في ذلك: تأويل الطبري عالم القرآن والحديث، قال: نسبة هذه الأعداد إلى النبوة إنما هو بحسب اختلاف الرائي، فتكون رؤيا الصالح على نسبته، والمحطوط عن درجته على دونها"[440].
قلت: هذا تأويل سائغ حسن، سالم من جميع الاعتراضات المتقدمة، جامع لكل الروايات الصحيحة في الباب.
الثامن: كل ما قيل في تفاوت أعداد أجزاء النبوة إنما هو من باب الظن والتخمين، وأما بالتحقيق فلا، لأن النبوة عبارة عما يختص به النبي ويفارق به غيره، وأجزاء النبوة لا يعلمها من البشر إلا الأنبياء، فالأولى أن نؤمن بما ورد، ونعتقد بأنه حق، ولا نظن بما جرى على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تقديرات لأجزاء النبوة بأنه جزاف، بل لا يتكلم عليه الصلاة والسلام إلا بالحق، فهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وليس كل ما خفيت علينا علته، لا تلزمنا حجته، والقدر الذي أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبينه هو تحقيق أمر الرؤيا، وأنها جزء من النبوة في الجملة، وهذا رأي الخطابي، واختاره الكثير[441].
وخلاصة ما تقدم: أن الأقوال الخمسة الأولى لم تسلم من الاعتراض، وأقرب التأويلات - لمن رام مسلك التأويل - هو القول السادس والسابع، لاشتمال كل منهما على معنى صحيح، وتأويل سائغ يعضده الدليل، بيد أن ما جاء في القول الأخير من عدم التأويل، وترك الخوض في تفسير ما خفي علينا، هو مسلك إيماني
مشهور، اختاره كثير من العلماء، وهو ما تميل إليه النفوس، وتطمئن إليه القلوب، والله الهادي.

المطلب الثالث: بيان معنى "من النبوة"
اتفق العلماء على أن رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جزء من النبوة على الحقيقة، وأنها وحي من الله تعالى.
قال الخطابي[442] "إنما كانت جزءاً من أجزاء النبوة في الأنبياء صلوات الله عليهم دون غيرهم، وكان الأنبياء يوحى إليهم في منامهم، كما يوحى إليهم في اليقظة".
ثم روى بسنده إلى عبيد بن عمير- وهو من كبار التابعين- أنه قال: رؤيا الأنبياء وحي، وقرأ قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}[443].
واختلفوا في رؤيا غير الأنبياء على قولين:
القول الأول: الرؤيا الصالحة من غير الأنبياء جزء من أجزاء النبوة على الحقيقة أيضاً، وبه قال الكرماني[444]وغيره.
واستدل أصحاب هذا القول بظاهر النصوص الواردة في الباب.
القول الثاني: الرؤيا الصالحة من غير الأنبياء جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز لا الحقيقة، وإليه ذهب ابن بطال[445] والخطابي[446] وابن عبد البر[447] وغيرهم وحجتهم في صرف اللفظ عن حقيقته:
أولاً: إن نسبة جزء من النبوة إلى غير الأنبياء ممتنع؛ فلا ينسب شيء من النبوة إلى غير أنبياء الله تعالى الموحى إليهم.
ثانياً: قد تتخذ هذه الأحاديث ذريعة من قبل الدجالين؛ ليحلوا ما حرم الله أو يحرموا ما أحل الله، أو يضيفوا إلى الدين الثابت بالأصول الصحيحة عن طريق الوحي ما ليس منه، بحجة أن ما جاؤوا به مستند إلى رؤيا صالحة وهي من النبوة.

ثم اختلف أصحاب هذا القول في تأويل الحديث على أقوال، أهمها:
1- الرؤيا كالنبوة في كونها أنباء صادقة من الله تعالى لا كذب فيها، وبه قال ابن بطال[448].
يقول رحمه الله[449]: "إن لفظ النبوة مأخوذ من النبأ والإنباء، وهو الإعلام في اللغة، والمعنى: أن الرؤيا إنباء صادق من الله لا كذب فيه، كما أن معنى النبوة: الإنباء الصادق من الله الذي لا يجوز عليه الكذب، فشابهت الرؤيا النبوة في صدق الخبر عن الغيب".

2- الرؤيا جزء من أجزاء علم النبوة، وهذا التأويل ذكره الخطابي[450].
وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي)) قال: فشق ذلك على الناس. قال: قال: ((ولكن المبشرات)) قالوا: وما المبشرات؟ قال: ((رؤيا الرجل المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة))[451].

3- الرؤيا كالنبوة في اشتمالها على خوارق العادات، والاطلاع على المغيبات ذكره ابن عبد البر[452]والقرطبي[453]
قال ابن عبد البر[454] "يحتمل أن تكون الرؤيا جزءاً من النبوة؛ لأن فيها ما يعجز ويمتنع، كالطيران، وقلب الأعيان" زاد القرطبي[455] "... والاطلاع على شيء من علم الغيب"، وقيل غير هذه من التأويلات.
المناقشة: إن حمل الكلام على الحقيقة إن كان ممكناً ولم يصرفه عنها صارف هو الأصل، ولا يلجأ إلى المجاز إلا عند تعذر المعنى الحقيقي، ولا تعذر هنا، فلا ضرورة للتأويل، والاستشكالان الواردان ممن حمل الحديث على المجاز مدفوعان:
أما الأول وهو في نسبة جزء من النبوة إلى غير الأنبياء: ذكره الكرماني وأجاب عنه بقوله[456] "إن قلت: هل يقال لصاحب الرؤيا الصالحة: له شيء من النبوة؟ قلتُ: جزء النبوة ليس نبوة؛ إذ جزء الشيء غيره، أو لا هو ولا غيره، فلا نبوة له".
وزاد ابن حجر الجواب إيضاحاً فقال[457] "إن جزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه له، كمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله رافاعاً صوته، لا يسمى أذاناً، ولا يقال: إنه أذن، وإن كانت جزءاً من الأذان، وكذا لو قرأ شيئاً من القرآن وهو قائم، لا يسمي مصلياً، وإن كانت القراءة جزءاً من الصلاة" انتهى.
وأما الاستشكال الثاني لهم في سد الباب بوجه الدجالين، فيجاب عنه بأنه لا خلاف بين المسلمين جميعاً في أنه ليس لغير رسل الله من التشريع شيء، وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا رسول بعده ولا نبي، به أكمل الله الدين وختم الشريعة، وليس من حق أحد كائناً من كان أن يضيف أو ينقص في دين الله تعالى.
ومن وجه آخر: نقل الحافظ ابن حجر[458] عن بعض الشراح - ولم يسمه - في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من النبوة" أنه قال: "كذا هو في جميع الطرق، وليس في شيء منها بلفظ: (من الرسالة) بدل من "النبوة".
قال: وكأن السر فيه أن الرسالة تزيد على النبوة بتبليغ الأحكام للمكلفين، بخلاف النبوة المجردة فإنها اطلاع على بعض المغيبات، وقد يقرر بعض الأنبياء شريعة من قبله، ولكن لا يأتي بحكم جديد مخالف لمن قبله" انتهى.
وفي هذا إشارة واضحة إلى ما قدمناه من أنه لا يحق لصاحب الرؤيا أن يضيف إلى شرع الله تعالى أو ينقص منه شيئاً، وكأنه يقول: التشريع وظيفة الرسل خاصة، أما الأنبياء فمنهم من يأتي ليذكر بشريعة رسول سبقه، ولا يكون له تشريع مستقل، والرؤيا الصالحة إنما جعلها اله من النبوة لا من الرسالة.
القول الراجح: بعد عرض القولين في المسألة، وحجة كل قول، وجواب أصحاب القول الأول على ما استشكله الآخرون، يترجح القول الأول، لأنه هو الأصل والظاهر، ولا صارف لهذا الأصل، والله أعلم.

الخاتمة
وتتضمن أهم نتائج البحث
من أهم النتائج التي توصلت إليها خلال هذا البحث ما يلي:
1- بلغ عدد أحاديث الباب ثمانية عشر حديثاً، يرويها اثنا عشر صحابياً، تشتمل على اثنتي عشرة رواية، بالإضافة إلى خمس روايات أخرى ذكرها الشراح دون إسناد.

2- الروايات الثابتة منها: رواية "ستة وأربعين"، ثم رواية "سبعين"، ثم رواية "خمسة وأربعين"، ثم رواية "أربعين"، وأما الرواية التي لم تحدد جزء النبوة بعدد معين فهي رواية مطلقة قيدتها الروايات السابقة، وباقي الروايات ضعيفة، أو لا سند لها.

3- تواتر هذا الحديث معنوي ومفيد؛ للاختلاف في ألفاظه في صفات الرؤيا والرائي، وتحديد جزء النبوة.
لا تكون الرؤيا من أجزاء النبوة إلا بشروط فيها وفي رائيها، وهذه الرؤى قد تشتمل على بشارة، أو نذارة، وقد تكون واضحة الدلالة فلا تحتاج لتأويل، وقد تكون خفية تحتاج إلى من يؤولها.

4- الاختلاف بين الروايات في عدد أجزاء النبوة عائد إلى اختلاف حال الرائين وتفاوتهم في الصلاح، أو إلى تفاوت الرؤى في الدلالات، وقيل غير هذا.

5- قوله - صلى الله عليه وسلم- "جزء من النبوة" محمول على الحقيقة في حق الأنبياء اتفاقاً، وهو الراجح في حق غيرهم؛ إذ لا مانع منه، وجزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه له، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/835/#ixzz3A6rCgUHm
رد مع اقتباس