السياق التشريعي لنزول حكم الجلباب وبيان علّة تشريعه:
من كتاب "مصطلحات قرآنية حول لباس المرأة المسلمة" / الشيخ الحبيب بن طاهر
تحريم الزنا من بين ما سارع إليه الإسلام في بداية الدعوة في الفترة المكّية , بينما سكت الشرع في هذه الفترة عن البغاء, فلم يحرّمه. فقد كان معدودا في الجاهلية من أصناف النكاح. والبغاء غير الزنا, فهو تعاطي المرأة الزنا علنا بالأجر, حرفة لها, فالبغاء هو الزنا بأجر. وكان بمكة تسع بغايا شهيرات يجعلن على بيوتهن رايات.فكان البغاء في الحرائر باختيارهنّ إيّاه للارتزاق. وكان إكراه الفتيات ـ أي الإماء ـ على البغاء من طرف أسيادهنّ أمر مستقرّ من عهد الجاهلية؛ وكان الأسياد يفعلون ذلك ليأخذوا الأجور التي تتقاضاها الإماء من ذلك, أو رغبة في أن يحملن من البغاء فيكثر عبيدهم.
وسياق الآيات التاريخي يقتضي أنّ البغاء ظلّ غير محرّم حتى حرّم بنزول قوله تعالى من سورة النور: ( وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ...), وسبب نزول هذه الآية ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان لعبد الله بن أبي سلول جارية يقال لها "مسيكة", وأخرى يقال لها "أميمة"؛ فكان يكرههما على الزنا , فشكت ذلك إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم , فأنزل الله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء}. (رواه مسلم)
ولا ريب أن الخطاب بقوله تعالى: { ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء } موجه إلى المسلمين، والفتيات مسلمات لأن المشركات لا يخاطبن بفروع الشريعة.
وبذلك يكون تحريم البغاء كان بعد نزول سورة الأحزاب بآية الجلباب. فآية تحريم البغاء موقعها في سورة النور بعد قصّة الإفك بثلاثة عشر آية , وقصة الإفك قد وقعت بعد الحجاب الوارد فى سورة الأحزاب.
وفي هذا الظرف ـ أي ما قبل تحريم البغاء على الإماء غير المتزوّجات ـ نزلت آية الجلباب لتعالج مشكلة ذكرها الرواة في أسباب نزول آية الجلباب. فقد رووا أنّ الأمة والحرّة كانتا تخرجان ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل, من غير امتياز بين الحرائر والإماء. وكان في المدينة فسّاق من المنافقين يتعرّضون للإماء لتلبية شهواتهم , وربّما تعرّضوا للحرائر جهلا أو تجاهلا, لاتحاد الكلّ في اللباس. وهم مع ذلك في منعة من أن تنزل بهم عقوبة , لأنّهم يفعلون ذلك تحت عنوان البغاء العلني المسكوت عنه في الشرع في ذلك الوقت فكانوا يقولون حسبناهن إماء.فنزلت الآية تأمر الحرائر بمخالفة الإماء بلبس الجلابيب حتّى يعرفن أنّهنّ حرائر فلا يطمع فيهنّ أحد. وقد ذكر هذا السبب كبار التابعين كالحسن البصري وقتادة والسدي ومجاهد .
وبهذا يتبيّن أنّ علّة تشريع الجلباب هي تمييز الحرائر عن الإماء. وإنّ سكوت الشرع عن ما يفعله الفساق والمنافقون من مراودة الإماء ليس فيه مذمّة له بأنّه أطلق الفساد على أعراض إماء المسلمين, كما ادعى ذلك ابن حزم, وإنّما هو تمشّيا مع حكمة الله تعالى في التدرّج بالتشريع نحو الكمال والتمام مراعاة لعادة العرب. وفي الشريعة الإسلامية نظائر عديدة لهذه المسألة, مثال ذلك شرب الخمر, فليس لأحد أن يقول إنّ قوله تعالى: (ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) تشجيع من الشرع على شرب الخمر خارج الصلاة, لأنّها لم تحرّمه إلاّ في أوقات معيّنة وسكتت عنه في بقية الأوقات, فلا يمكن قول ذلك, لأنّ الله تعالى تدرّج بالناس إلى أن وصل بهم إلى ما يريده لهم من التشريع التام في الخمر, وذلك بتحريمه في كلّ الأوقات.
وأمّا لماذا سكت الشرع عن البغاء فترة من الزمان,فلا شكّ أنه توجد أسباب لذلك, بعضها اجتماعي وبعضها اقتصادي. والذي يجب اعتقاده أن ذلك كان مصلحة للمسلمين اقتضت تأجيل تحريمه إلى حين.
وممّا يحسن الإشارة إليه أنّ تشريع الجلباب ليس المراد منه ستر العورة , حتى يعدّ منع الأمة منه دعوة لها بكشف عورتها, وهو ما لا يتماشى مع الشريعة , لأن توفير الستر الواجب للعورة يمكن أن يتحقق بأى طرز من الثياب ضمن الشروط التى أمر بها الشارع. وهذا التستّر في أدنى صوره كان حاصلا بالخمار والدرع وما شابه ذلك الذي كانت تلبسه الحرّة والأمة على السواء. وإنّما كان الجلباب زيّا إضافيا للحرّة.وبذلك يتقرر أن سبب طلب تمييز الحرّة عن الأمة أمر ظرفي انتهى بنزول حكم تحريم البغاء وإلحاقه بالزنا , وأن المسلمات غير مطالبات شرعا بالجلباب وإن تحوّل بعد زوال حكمه إلى عادة , لأنّ اللباس الذي قرّرته سورة النور والأوصاف التي شرعها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للباس المرأة, محقّقة للمقصد الشرعي من أحكام اللباس.وعلى فرض استمرار حكم الآية فيحمل لبس الجلباب على أى لباس بما يتفق مع ما قررته آية النور, من أنّ المراد بالزينة الظاهرة الوجه والكفان.
__________________
الشريعة الإسلامية في تقريرها لمعالم لباس المرأة وزينتها
إنما تبتغي تكريم المرأة المسلمة وصيانتها
|