القرينة الثانية:
أن وجوب ستر الوجه لو صح لانتشر ولأصبح مما يعلم من الدين بالضرورة لأنه من قبيل ما تعم به البلوي ويشترك في معرفته العام والخاص
قال ابن تيمية: (ولو كان الوضوء من لمس النساء واجبا لكان يجب الأمر به وكان إذا أمر به فلابد أن ينقله المسلمون لأنه مما تتوافر الدواعي على نقله ).
كما ذكر القاضي ابن رشد أن ما تعم به البلوي ينبغي أن ينقل تواترا أو قريبا من التواتر.
وإذا كانت مثل هذه القضايا تدخل في عموم البلوي وتتوافر الدواعي على نقلها , فوجوب ستر الوجه عن الأجانب من باب أولى, أي لو أن ستر الوجه واجب، وهو أمر يعم نساء المؤمنين جميعاً، لتوافرت الدواعي على نقله ، وتضافرت الروايات على حكايته وأجمعت الآثار على ترديده ، ونُقِلَ تواترا أو قريبا من التواتر.
ولو كان الأمر كذلك ما وقع الاختلاف في الأقوال حوله , بل الحق في مثل هذا أنه لايقف عند نقله وحكايته وترديده بل لابد أن يشيع بين نساء المؤمنين فعله حتى يصبح ظاهرة إجتماعية يراها القاصي والداني, ولكن الحال هنا عكس ذلك , والدليل عليه اختلاف الروايات حول تفسير آية {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ}, فبعضها يقول بستر الوجه وبعضها يقول بكشفه كما تقدم. وهذا مما يدل علي عدم الوجوب , إذ لو كان واجباً لعم العلم به أمة الاسلام لأنه تعم به البلوي جميع المؤمنين والمؤمنات , أي أن اختلاف الروايات في حد ذاته دليل على إباحة كشف الوجه.
هذا ويمكن إرجاع الروايات القائلة بستر الوجه إلى عدة عوامل منها:
1- احتجاب نساء النبي صلي الله عليه وسلم إذ لم يدرك البعض خصوصيته فاتجه إلى القول بوجوب ستر الوجه.
2- وجود بعض نساء منتقبات على عهد النبي صلي الله عليه وسلم مما دفع البعض إلى القول بوجوب ستر الوجه أو ندبه.
3- التباس المباح بالواجب أحياناً: وذلك أنه يحدث أن يلح بعض الصالحون أحياناً على عمل بعض المباحات ويتكاثر الممارسون لها حتى يتوهم البعض مع الزمن أنها واجب , ويعتبر مَن لا يمارسها آثماً. وهذا ما نحسبه حدث في موضوع ستر الوجه. ولذلك حذر علماء الأصول من وقوع هذا الالتباس، وقالوا بوجوب تخلي العالِمِ عن فعل المباح أحياناً حتى لا يلتبس عند الناس بالواجب.
وإذا كان الأمر مما تحيل العادة فيه أن لا يستفيض فإن الدواعي تتوافر على إشاعته ويستحيل انكتامه. وإذا كانت مباني الإسلام الخمس قد أشاعها الشارع إشاعة اشترك في معرفتها العام والخاص ، وإذا كانت أصول المعاملات التي ليست ضرورية قد تواترت عند أهل العلم ، إذا كان كل هذا صحيحاً فإن تحديد عورة المرأة ـ وكون الوجه من العورة ـ أمر لا تستقيم حياة المرأة دون معرفته وتطبيقه في غدوها ورواحها وفي كل مجال به رجال. وهو مما يعلم من الدين بالضرورة ولابد أن يشترك في معرفته العام والخاص، سواء على عهد النبي صلي الله عليه وسلم أو في القرون الخيرة من بعده.وقد ذهب عموم الفقهاء المتقدمين ـ ولم يشذ إلا أفراد قلائل وكأنه إجماع أو شبه إجماع ـ إلى أن عورة المرأة جميع بدنها عدا الوجه والكفين. ولذلك نقول مستيقنين: إن المعتمد في أمر العورة هو القدر المتفق عليه بين العموم ، ولا عبرة بقول مَن شذ ، خاصة في أمر ينبغي أن يكون مما يعلم من الدين بالضرورة ويشترك في معرفته العام والخاص