رد: سلسلة كلمات في القرآن الكريم / د. عثمان قدري مكانسي
سلسلة كلمات في القرآن الكريم (17)
الدكتور عثمان قدري مكانسي
{ الْعَدْل }
في أَسماء الله سبحانه: العدل هو الذي لا يَمِيلُ به الهوى فيَجورَ في الحكم، وهو في الأَصل مصدر سُمِّي به ، فوُضِعَ مَوْضِعَ العادِلِ، وهو أَبلغ منه لأَنه جُعِلَ المُسَمَّى نفسُه عَدْلاً.
قال ابن منظور في معجمه لسان العرب : العدل ما قام في النفوس أَنه مُسْتقيم، وهو ضِدُّ الجَوْر. عَدَل الحاكِمُ في الحكم يَعْدِلُ عَدْلاً وفي صحاح اللغة : العدل :خلاف الجَوَر. يقال: عَدَلَ عليه في القضيّة فهو عادِلٌ .
وفي مقاييس اللغة : العدلُ : العين والدال واللام أصلان صحيحان، لكنَّهما متقابلان كالمتضادَّين: أحدُهما يدلُّ على استواء، والآخر يدلُّ على اعوجاج .
ونجد في القرآن الكريم كلمة { الْعَدْل } بمشتقاتها وردت ثماني وعشرين مرة أدّتْ فيها معاني عدّة . وهذا دأب العربية المطواعة التي مدحها الله تعالى في قرآنه المجيد :
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} (يوسف) ،
وقال سبحانه :
{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)} (الشعراء) .
ومن جمال لغتنا العربية أن كثيراً من كلماتها تحمل التضاد في المعنى إنْ وحدها كقولك : الجون ، السليم ، الزعيم .. أو بحروف جر توضح المعنى كقولك : ذهب إليه ، فأتاه ، وذهب عنه فقلاه . وتقول : رجعت إليه ورجعت عنه . وتقول دخلت فيه ودخلت منه ، فتولدت معان متعددة تساعد على إثراء الأفكار والمعاني، والسياحة فيها بسهولة ، والتعبير عنها بسلاسة .
وقد ورد { الْعَدْل } في الآيات الكريمة يحمل دلالات متعددة – كما ذكرنا – منها :
1 - الاستقامة والمساواة :
كقوله تعالى في سورة الشورى :
{ ... وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ... (15)} ،
فالله أمر نبيه الكريم أن يحكم بالعدل والمساواة بين الناس أحَبهم أم كرههم ، فقد قامت الدنيا على العدل والحياة الطيبة على المساواة ، أما الظلم والجور فموت وقهر . ولو قرأنا الكلمات المضيئة قبل قوله { وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } وبعدها ، وهي قوله تعالى :
{ فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ }
{ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }
{ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ }
{ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ }
{ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ }
{ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ }
{ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ }
{ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ }
{ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } ،
لوجدنا الإسلام يدعو أتباعه للحياة في جو رائع من القيم التي تجعل الحياة هانئة سعيدة ، فالدعوة إلى الله أول الطريق والغاية من هذه الحياة ، وعلى الداعية أن يكون الأسوة والقدوة فيستقيم في تصرفاته على هدي ونور من الله ، ويبتعد عن الأهواء { ... وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّـهِ ... (50)} (القصص) ؟ ، والمسلم يؤمن بكل الأنبياء صلوات الله عليهم وكتبهم { ... لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ... (285)} (البقرة) ، وبذلك كانت له الإمامة للناس أجمعين ، فكان أهلاً لقيادتهم والحكم بينهم بالعدل يدعو الناس إلى عبادة الله الواحد ، فهو رب الخلق جميعاً ، وكل إنسان محاسب بما يعمل وسيلقى الله تعالى يوم القيامة فيقرره بكل شيء ، ثم يلقى جزاءه .
وعلى هذا أكد مولانا سبحانه العدلَ في الحكم في سورة النساء:
{ ... وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ... (58)} ،
ويدخل في معنى الناس المسلمُ وغيره ، فالعدل أساس الملك وهو ما دعا إليه الولى سبحانه ، فلا يُحابى مسلمٌ ولا قريبٌ ولا صديق ، فالحق أحق أن يُتّبع ، وهذا نفهمه من قوله عز وجلّ في سورة المائدة :
{ ... اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ... (8)} ،
وميزان الحكم بل الحياة كلها { التَّقْوَىٰ } وقوله تقدست أسماؤه قبلها في نفس الآية الكريمة :
{ ... وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ... } والمسلم وحده الذي يسعى لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، ولو خالف هواه فحكم لمن يكرههم ويبغضهم ويعاديهم إن إرضاء الله تعالى وإقامة الحق هو الهدف المنشود . وتاريخ المسلمين في حربهم وسلمهم يشهد لهم بذلك .
2 - الفدية والمثيل :
يوم القيامة المنعطفُ الخطير الذي نسأل الله تعالى أن ينجينا فيه من غضبه والنار ، هنالك تلهج ألسنة الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم بالدعاء ، فالخوف من العذاب والوقوع في جهنم ديدن المخلوقات كلها – نسأل الله العفو والعافية – أما الكفار والمنافقون فلا خلاص لهم مما يحذرون ، ولا مناص من الخلود في النار وهناك ، قال سبحانه في سورة المعارج :
{ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ (15)... } ،
ولن تقبل من الكافر فدية – وهو في ذلك الوقت لا يملك شيئاً فقد ترك كل ما كان يملكه في الدنيا واقتسمه الورثة ، وقد صور الله تعالى هلع الكفار من النار والرغبة في النجاة منها في آيات عدة نذكر منها آيتين كريمتين في سورة المائدة :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (37)} ، و ذكر العدل بمعنى الفدية والمثيل فقوله عز وجلّ في سورة البقرة :
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (48)} ،
ألا ترى أن العدل الفدية والمثيل واضحان تماماً في هذه الآية ، ألا أقول لمن تزوج أخت زوجتي : (عديلي ) ؟ فهو عند الحمو مثيلي . يقول الله جل ثناؤه في عدم قبول الفداء من الكافر :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّار فَلَنْ يُقْبَل مِنْ أَحَدهمْ مِلْء الأرْض ذَهَبًا وَلَوْ اِفْتَدَى بِهِ ... (91)} (آل عِمران)،
وقال عز من قائل في سورة الأنعام :
{ وَإِنْ تَعْدِل كُلّ عَدْل لا يُؤْخَذ مِنْهَا (70)} ،
على فرض أن معه ما يفتدي به نفسه فهو أمر مرفوض فقد سبق السيف العذل .
3 - الانحراف عن الحق :
نقول : عدل فيه : حكم بالحق ، وعدل عن الحق : تجاوزه فلم يحكم به . وهو الميل إلى الباطل . مثاله قول الله تعالى في فاتحة سورة الأنعام :
{ ... ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} ، فجَعَلُوا لَه شَرِيكًا وَعدلاً ، واتخذوا لَه صَاحِبَة وَوَلَدًا تَعَالَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا . قال القرطبي رحمه الله : ثم الذين كفروا يَجْعَلُونَ لله عدلاً وشريكاً وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الأشياء وحده قَالَ اِبن عَطِيَّة : فـ { ثُمَّ } دالـّة عَلَى قبح فعل الكافرين لأن المعنى : أَنَّ خَلْقه السَّمَوَات والأرض قَدْ تَقَرَّرَ وَآيَاته قَدْ سَطَعَتْ وَإِنْعَامه بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ ، ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ كله عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ فَهَذَا كَمَا تَقُول : يَا فلان؛ أَعْطَيْتُك وَأَكْرَمْتُك وَأَحْسَنْت إِلَيْك ، ثُمَّ تَشْتُمنِي ؟! وَلَوْ وَقَعَ الْعَطْف بالواو فِي هَذَا وَنَحْوه لَمْ يَلْزَم التَّوْبِيخ كَلُزُومِهِ بـ { ثمّ } ، وَاَللَّه أَعْلَم ..
ويقول تقدست أسماؤه للمنحرفين عن الحق الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى في سورة النمل :
{ ... أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)} ،
فيجعلون له عِدلاً ونظيراً وهو وحده خَلَقَ تِلْكَ السَّمَوَات فِي اِرْتِفَاعهَا وَصَفَائِهَا وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنْ الْكَوَاكِب النَّيِّرَة وَالنُّجُوم الزَّاهِرَة والأفلاك الدائرة وَخَلَقَ الأرض على هيئتها وَ جَعَلَ فِيهَا مِنْ الْجِبَال وَالسُّهُول وَالْفَيَافِي وَالْقِفَار وَالزُّرُوع وَالأشْجَار وَالثِّمَار وَالْبِحَار وَالْحَيَوَان عَلَى اختلاف الأصناف والأشكال وبث فيها المناظر الخلابة والأشكال البديعة كما قال عز وجل قبله في نفس الأية : { مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرهَا ... (60)} ، ولا يقدر على ذلك إلا الْخَالِق الرَّازِق الْمُسْتَقِلّ بِذَلِكَ ، الْمُتَفَرِّد بِهِ دُون مَا سِوَاهُ مِن َالأنداد كَمَا اِعْتَرَفَ بِهِ ِ المشركون أنفسُهم ، فقد قَالَ سبحانه :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (87)} (الزخرف) ،
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّـهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)} (العنكبوت) ،
فهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ الْفَاعِل لِجَمِيعِ ذلك وحده لا شَرِيك لَهُ ، ثم هم يعبدون مَعَهُ غَيْره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقّ أَن يُفْرَد بِالْعِبَادَةِ مَنْ هو الْمُتَفَرِّد بِالْخَلْقِ وَالرِّزْق ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { أَإِلَه مَعَ اللَّه } يُعْبَد وَقَدْ تَبَيَّنَ لكل ذِي لُبّ أَنَّه الخالق الرازق ؟ .
4 - البديل :
نجد في سورة المائدة عقوبة قتل الصيد في الحج والعمرة :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)} ، فمن اصطاد وخالف فعليه عقوبة يفعلها مكفرة عما فعل مناسبة للذنب الذي اقترفه ، فقد يكون هدياً أو أطعاماً لمساكين الحرم أو صدقة تناسب الخطأ الذي ارتكبه ، فكانت كلمة العدل هنا البديل المناسب كي يعلم أنه فعل ما ليس له أن يفعله .
5 - الفهم والعقل :
وهذا ما نجده في الآية السابقة التي توضح عقوبة الصائد في الحج والعمرة فالذي يحكم ويقرر حجم العقوبة وبديلها اثنان من أهل الفهم والدراية وأصحاب العقول الراجحة ، وبهذا يكون معنى { عَدْل } في هذه الآية ما يوضح صفة أهل الحل والعقد . نجد المعنى نفسه في سورة الطلاق :
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)} ،
فإذا طلق أحدهم زوجته ، فقاربت العدة على الانتهاء { فَأَمْسِكُوهُنَّ } بِأَنْ تُرَاجِعُوهُنَّ { بِمَعْرُوفٍ } مِنْ غَيْر ضِرَار { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، فاتركوهنّ حَتَّى تنقضي عدتهنّ ولا تُضارّوهنّ بِالْمُرَاجَعَةِ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ } عَلَى الْمُرَاجَعَة أَوْ الْفِرَاق ، وهذان الشاهدان ينبغي أن تتوفر فيهما التقوى والدين ويشهد الناس لهما بذلك .
آخر تعديل بواسطة Nabil ، 2020-09-26 الساعة 12:25 AM
|