رد: سلسلة كلمات في القرآن الكريم / د. عثمان قدري مكانسي
سلسلة كلمات في القرآن الكريم (21)
الدكتور عثمان قدري مكانسي
{ الظَّن }
في القاموس المحيط : الظَّنُّ التَّرَدُّدُ الراجِحُ بين طَرَفَي الاعْتِقَادِ الغيرِ الجازِمِ ، جمعه: ظُنونٌ وأظانينُ، وقد يوضَعُ مَوْضِعَ العِلْمِ. والظِّنَّةُ، بالكسر التُّهَمَةُ جمعها ( تِهم) كعِنَبٍ. والظَّنينُ المُتَّهَمُ. وأظَنَّهُ اتَّهَمَهُ. وأظْنَنْتُه عَرَّضْتُهُ للتُّهَمَةِ.
وفي لسان العرب : الظَّنُّ : شك ويقين إلاَّ أَنه ليس بيقينِ عِيانٍ إنما هو يقينُ تَدَبُّرٍ فأَما يقين العِيَانِ فلا يقال فيه إلاَّ علم ، وفي الحديث : (إياكم والظَّنَّ فإنَّ الظَّنِّ أَكذبُ الحديث) ، أَراد الشكَّ يَعْرِضُ لك في الشيء فتحققه وتحكم به ، وقيل أَراد إياكم وسوء الظَّن وتحقيقَه دون مبادي الظُّنُون التي لا تُمْلَكُ، وخواطر القلوب التي لا تُدْفع . ومنه الحديث : (وإِذا ظَنَنْتَ فلا تُحَقِّقْ) ، قال وقد يجيء الظَّن بمعنى العلم وفي حديث أُسَيْد بن حُضَيْر " وظَنَنَّا أَنْ لم يَجُدْ عليهما " : أَي عَلِمْنا.
وفي آيات القرآن الكريم معان للظنّ دقيقة تجلّي كثيراً من جليل اللَّفتات البيانية الرائعة ، منها :
1- الاعتقاد التام :
مثاله في قوله تعالى في سورة الأنبياء يصور ما فعله يونس عليه السلام حين أنذر قومه ثلاثاً :
{ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ... (87)} ،
ومضى مغاضباً لِقَوْمِهِ ، فاعتقد أن الله سبحانه لن يضَيِّق عَلَيْهِ فِي بَطْن الْحُوت . وهذا من جليل الإيمان بحفظ الله تعالى له .
ومثله : قصة داوود عليه السلام في سورة (ص) :
{ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)} ،
وذلك حين جاءته الملائكة بأمر ربهم يختبرونه في طريقة الحكم بين المتخاصمين ، فحكم للأول دون أن يستمع لحجة الخصم الثاني ، وكان رئيسهم قد وصّاه بالحكم السديد ، فلا يشطط ، قال عز وجلّ :
{ ... وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)} .
فعلم أنه أخطأ ، فسجد لله يستغفره ويُنيب إليه سبحانه .
ومثاله - في سورة الأعراف - رفعُ الجبل فوق اليهود تهديداً لهم أن الجبل سوف يسقط عليهم لو أنهم لم يمتثلوا أمر نبيهم ، ورأوا الموت بأعينهم :
{ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ... (171)} ،
فالظن هنا يقين واعتقاد ، فقد كان الجبل فوقهم والموت ماثلاً أمامهم . ويوم القيامة يكون الظن يقيناً ، فالمجرمون يقفون أمام النار التي كذّبوا بها في الدنيا ، وسوف يُطرحون فيها حتماً لا شك فيه .
يقول الله تقدست أسماؤه في سورة الكهف :
{ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)} .
وهذا الرجل المؤمن يحمل كتابه بيمينه يوم القيامة فرحاً مسروراً ، ويعلن على الملأ أنه كان مؤمناً باليوم الآخر ، وأنه أعد نفسه في الدنيا لهذا اليوم ، قال جل ثناؤه في سورة الحاقة :
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)} ،
فكان الثواب رائعاً : إنه النجاة من النار ودخول الجنة ، والخلود فيها كما قال جل وعلا :
{ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} .
والأمثلة كثيرة في هذا المعنى تتوارد باطّراد واضح .
2 - الاعتقاد الخاطئ :
ونقصد بذلك أن الكثير يعتقدون أمراً ما وينافحون عنه ، وهو غير ذلك . مثاله في القرآن كثير ،
من ذلك قوله تعالى في سورة فصّلت حين يشهد على الكافر سمعه وبصره وجلدُه :
{ وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (23)} ،
فهم يعتقدون غير الحقيقة ، فوقعوا في شر اعتقادهم وسوء تقديرهم .
ومثاله كذلك في سورة يونس ينعى على الكافرين سوء اعتقادهم الذي لا ينفعهم حين يجِد الجِد،قال سبحانه :
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ... (36)}
ثم نرى الويل والثبور وعظائم الأمور في سورة (ص) - في تهديد القرآن للذين يعتقدون أن الحياة وُجدت دون هدف – فالنار مأوى من يعتقد ذلك ، قال عز وجلّ :
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} ،
ونرى الاعتقاد الناقص الخاطئ – في سورة القصص - يُردي صاحبه الهلاك فهذا فرعون وجنوده استكبروا وظنوا الدنيا نهاية المطاف ، فأغرقهم الله تعالى في الدنيا ولهم في الآخرة النار مدحورين فيها أذلاء ملعونين :
{ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)} .
ونرى القرآن – في سورة الفتح - يخاطب المنافقين الذين اعتقدوا أن المسلمين بقيادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لن يعودوا إلى المدينة حين انطلقوا إلى مكة ليعتمروا ، وأن مشركي قريش سوف يبيدونهم ،فكان ظنهم سيئاً واعتقادهم مخطئاً ، نجد توبيخ القرآن لهؤلاء الذين رغبوا أن ينال السوءُ رسولَ الله والمسلمين ووصفهم بالهالكين البائرين :
{ بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)} .
وعودة إلى القرآن الكريم ترينا الكثير من هذا الظن ذي العاقبة الرديئة المخزية .
3 - تقدير الشيء :
وقد يكون الظن بمعنى التقدير والتفكير . مثال ذلك في سورة النور حين حض القرآن المسلمين - في فرية ابن سلول التي أطلقها على السيدة عائشة وعلى الصحابي الجليل صفوان بن المعطل إذ نفاها وبرّأهما من الفرية – على محاكمة ما يسمعونه ، هل يرضون تلك التهمة لأنفسهم ؟
وهل يمكن للطاهرة زوج أطهر الخلق أن تقع في المحظور الذي يأباه كل ذي خلق ودين ؟ قال تعالى :
{ لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12)} .
ونرى هذا المعنى في مراجعة الرجل مطلقته ، أو من أرادا الطلاق لمشاكل حدثت بين الزوجين ، ثم استدركا أمرهما بعد تفكير وتمحيص ، فرأيا أن عودة أحدهما إلى الآخر خير لهما ، يقول الله سبحانه في سورة البقرة :
{ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّـهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} ،
ونرى الفكرة نفسها في قول يوسف عليه السلام ، قال عز وجل في سورة يوسف :
{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ ... (42)} ،
فعلى الرغم أنه عليه السلام أوتي التأويل فإنه ليس يقيناً ، فلا يعلم الغيب إلا الله تعالى ، هذا إذا اعتبرنا الأمر فراسة وتفكراً وحسن تقدير للأمور وهبَهُ الله ُتعالى إياها ، أما إذا كانت من باب الوحي والإلهام فإنها تندرج تحت باب الاعتقاد التام – والله أعلم .
4 - قد يكون الظن شكاً :
وله أمثلة عديدة منها قوله تعالى في سورة الجاثية على لسان الكفار للمؤمنين في اليوم الآخر والجنة والنار:
{ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)} ،
قالوها على سبيل الشك والتوهّم ، وأنه لا يصدقون .
أما في سورة آل عمران في الحديث عن غزوة أحد فالقرآن يصف حال المنافقين الخائفين من القتال :
{ ... يَظُنُّونَ بِاللَّـهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ... (154)} .
روى أنس أَنَّ أَبَا طَلْحَة قَالَ : غَشِيَنَا النُّعَاس وَنَحْنُ فِي مَصَافّنَا يَوْم أُحُد ، فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُط مِنْ يَدِي وَآخُذهُ ،وَيَسْقُط وَآخُذهُ وَالطَّائِفَة الأخرى الْمُنَافِقُونَ لَيْسَ لَهُمْ هَمّ إِلا أَنْفُسهمْ ، أَجْبَن قَوْم وَأَرْعَبهُ وَأَخْذَله لِلْحَقِّ ، إِنَّمَا هُمْ أَهْل شَكّ وَرَيْب فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هَكَذَا :
وَهُوَ كَمَا قَالَ اللَّه فَإِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول :
{ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْد الْغَمّ أَمَنَة نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَة مِنْكُمْ ... (154)} ،
يَعْنِي أَهْل الإيمَان وَالْيَقِين وَالثَّبَات وَالتَّوَكُّل الصَّادِق وَهُمْ الْجَازِمُونَ بِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ سَيَنْصُرُ رَسُوله وَيُنْجِز لَهُ مَأْمُوله وَلِهَذَا قَالَ :
{ ... وَطَائِفَة قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسهمْ ... (154)} ،
يَعْنِي لا يَغْشَاهُمْ النُّعَاس مِنْ الْقَلِق وَالْجَزَع وَالْخَوْف يظنون بالله ما لا ينبغي .
وأكثر أهل الأرض يحيون حياة الشك ويرضون بالوهم عن الحق هذا ما يذكره جلّ وعلا مخاطباً النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في سورة الأنعام :
{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (116)} .
ومن عاش حياة الوهم ازداد ضلاله ، وكثر افتراؤه .
5 - وقد يكون الظن بمعنى العلم :
ففي سورة يوسف عليه السلام يَذْكُر تَعَالَى أَنَّ نَصْره يَنْزِل عَلَى رُسُله صَلَوَات اللَّه وسلامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عِنْد ضِيق الْحَال وَانْتِظَار الْفَرَج مِنْ اللَّه فِي أَحْوَج الأوقات :
{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} ،
قال المفسرون وعلى رأسهم عائشة رضي الله عنها : إن الرسل حين علموا أَنَّ قَوْمهمْ كَذَّبُوهُمْ ، واِسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ لمّا طَالَ عَلَيْهِمْ البلاء وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمْ النَّصْر جَاءَهُمْ نَصْر اللَّه .
6 - ويكون الظن بمعنى الأمر الذي لا أصل له : مثال ذلك قوله تعالى في سورة النجم :
{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ } وأردفها بالأصل والعلم اليقين في قوله سبحانه :
{ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ (23)} ،
فما تهوى أنفسهم باطل لا يرتكز على حق ، وما كان من الله ركن ركين .
ومثاله كذلك في سورة النجم نفسها قولُه عز وجلّ :
{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكةَ تَسْمِيَةَ الأنثى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} ،
فمن قال لهم إن الملائكة إناث ؟ وهل رأوا ذلك ؟ أم إنهم يخرصون ويدّعون .
وقد قال جل ثناؤه في سورة الزخرف :
{ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)} .
وتأمل معي في هذه الآية كـُلاً من : الَّذِينَ ، هُمْ ، عِبَادُ ، الضمير في: خَلْقَهُمْ ، وكلها للمذكر ، فكيف يجعلون الملائكة إناثاً ، والملائكة خلق لا ينطبق عليهم ذلك ؟! سبحان الله .
آخر تعديل بواسطة Nabil ، 2020-09-26 الساعة 11:44 AM
|