علم اللغة وآفاق البحث اللغوي
كانت علوم اللغة مجال اهتمام الدارسين منذ اقدم . فقد قام الهنود بدراسة اللغة السنسكريتية دراسة وصفية دقيقة كشفت لهم عن أنظمتها الصوتية وقواعدها النحوية .
ودرس اليونان لغتهم , وبتأثير من فلسفتهم وقرب القواعد اللغوية من درجة القوانين فقد كان الدرس اللغوي عندهم قائما على أساس منطقي . وقد كان الرومان تلامذة لليونان في الدراسات اللغوية التي بدأت منذ القرن الثاني قبل الميلاد وحذوا حذو اليونان في دراستهم للغة اللاتينية .
لقد فتنت كل أمة بجمال لغتها , فقد ادعى النحوي الهندي (بانيني ) أنه تلقى علمه عن طريق الوحي والإلهام , " وقد وصف " بانيني " وهو نحوي هندي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد القوانين الصوتية والنحوية للغة السنسكريتية وصفا يبلغ درجة من الدقة حتى إنه يحكي في بعض الروايات أنه تلقى هذا العلم عن طريق الوحي والإلهام " (1) .
أما اليونان فقد بلغ من إعجابهم بلغتهم أن اعتقدوا أن لغتهم تجسم الصور العامة للنظام الكوني بأسره . وبأن النحو فيها يبلغ درجة الكمال . فكانت قواعد النحو كأنها قوانين .
وقد شهدت أوروبا في العصور الوسطى اهتماما بتعليم اللغة اللاتينية , وقد نظمت قواعد النحو اللاتيني شعرا في القرن الثالث عشر . ولكنها أخذت تهتم بدراسة اللغة اليونانية وإجراء الدراسات المقارنة التي كشفت عن تشابه بين اللغتين . وأدرك الأوروبيون فيما بعد قرابة لغوية ما . بين اللغات الهندية والإيرانية من ناحية , واللغات الأوروبية من ناحية أخرى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
(1) الدكتور محمود السعران / علم اللغة مقدمة للقارئ العربي دار النهضة العربية للطباعة والنشر بيروت , ص 318 .
وعندما اكتشف " السير وليم جونز " الإنكليزي في القرن الثامن عشر اللغة السنسكريتية أظهرت الدراسة اللغوية وجود التقارب الكبير بينها وبين اللغات الأوروبية , الأمر الذي دعا الأوروبيين إلى اللقول بوجود أسرة اللغات الهندوأوروبية والتي تنتمي إلى اللغة السنسكرتية واللاتينية .
وقد أظهرت الدراسات المقارنة للغات أخرى من خارج إطار أسرة اللغات الهندوأوربية مع بعض اللغات بداخلها تقاربا أيضا . وأنقل هنا سطورا من كتاب " علم اللغة " للدكتور محمود السعران تثبت التشابه بين اللغة الصينية واللغة الإنكليزية . "إن نظم اللغة الإنكليزية الحديثة وهي كاللاتينية الكلاسيكية من عائلة اللغات الهندوأوروبية ليظهر مشابه من نظم اللغة الصينية وهي غير شريكة الإنكليزية في الأصل القريب أو البعيد أكثر من المشابه القائمة بين الإنكليزية واللاتينية " (1) .
إضافة إلى ذلك فإن الدراسة المقارنة لكلمات اللغة الإنكليزية واللغة العربية , والتي ضمها القسم الثاني من هذا الكتاب , قد كشفت عن وجود علاقة قوية وتشابه مذهل بين كلمات اللغتين .
وعلى قلة الكتب اللغوية التي تبحث في علم اللغة كعلم حديث في المكتبة العربية , إلا أن الموجود منها يلقي الضوء على هذا العلم ويكشف لنا عن اتساع المدى الذي بلغته أبحاثه , وسنستشهد هنا بفقرات من كتاب " علم اللغة مقدمة للقارئ العربي " للدكتور محمود السعران : " منذ أواخر القرن التاسع عشر , أخذ مفهوم " اللغة " طبيعتها , ووظيفتها ودراستها في التغير . وقد أحدث ذلك التغير جهود متلاحقة بذلها علماء الغرب لدراسة معظم لغات العالم وصفا وتاريخا ومقارنة , وللوصول من ذلك إلى نظرية أو نظريات عامة في اللغة تكشف عن حقيقتها نشأة وتطورا وتبرز القوانين أو الأصول العامة التي تشترك فيها لغات البشر , وتعين على تحديد وتدقيق مناهج الدراسة اللغوية ووسائلها . وكانت تلك الجهود في الميدان اللغوي تستهدي وتناظر وتساير النهضة العلمية والفكرية العامة التي شهدها الغرب في ذلك الزمان .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1) الدكتور محمود السعران : " علم اللغة , مقدمة للقارئ العربية " ص 247 .
لقد نتج عن تلك الجهود المترادفة القوية والتي لا تزال متتابعة قوية أن أصبحت دراسة اللغة علما من العلوم , له ما لأي علم مستقل موضوعه , ومنهاجه , ووسائله " (1) .
ولئن أعرض علماء اللغة عن البحث في نشأة اللغة , لضآلة مادتها في الدرس اللغوي , إلا أنهم وسعوا من مجال الدراسة اللغوية فشملت مسائل جديدة , يقول الدكتور السعران : " كما أن علم اللغة قد وسع من مجال الدراسة اللغوية بأن أخضع للبحث مسائل جديدة , وبأن فصل البحث في مسائل لم يكن يفصل فيها القدماء , كما أنه قد استبقى كثيرا من مشكلات الدراسة اللغوية القديمة " (2) .
وقد فتحت الدراسة العلمية للغة آفاقا جديدة وأضافت إلى المعارف الإنسانية ما يزيدها ثراء , لأنها تتعدى الدراسات الفرعية كدراسة النحو والصرف إلى طبيعة اللغة ووظيفتها وطرق درسها : " إن علم اللغة من حيث هو علم يرشدنا إلى مناهج سليمة لدرس أي ظاهرة لغوية , وهو يهدينا إلى مجموعة من المبادئ والأصول متكاملة مترابطة عن اللغة وحقيقتها ينبغة أن تكون في ذهن الباحث اللغوي علي الدوام أيا كان موضوع بحثه " (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1) الدكتور محمود السعران : علم اللغة مقدمة للقارئ العربي ص 11 .
(2) د. محمود السعران : علم اللغة ص 12 .
(3) د . محمود السعران : علم اللغة ص 21 .
لقد أشار الدكتور السعران إلى أن علم اللغة هو الدراسة التي تتخذ اللغة عامة موضوعا لها وليس لغة معينة : " إن اللغات هي الأشكال المختلفة التي تتحقق فيها اللغة , فدراسة كل منها وصفا وتاريخا ودراسة العلاقات التي تقوم بينها أو بين طائفة منها , ودراسة الوظائف التي تؤديها , وتبين ظروف استعمالها , كل أولئك وسواه يمهد للوصول إلى التعريف بحقيقة تلك الظاهرة الإنسانية العامة التي هي اللغة " .
قسمت الدراسات اللغوية العلمية اللغة إلى العلامات الاصطلاحية والدلالات الاصطلاحية .
من العلامات الاصطلاحية ما يفسر بالأصوات التي يحدثها جهاز النطق الإنساني وهي الأحرف والكلمات المركبة منها , ولكن ما نذهب إليه هو أن أصوات هذه الكلمات هي الأصل عندما علمها الله سبحانه لآدم عليه السلام ثم جاء بعد ذلك الاصطلاح على شكل الأحرف والكلمات التي تتركب منها , أي أن العلامات الاصطلاحية هنا جاءت متأخرة عن الدلالات .
ونظرا لضخامة كم العلامات الاصطلاحية فإن علم اللغة جزء من علم العلامات وهو ما يسمونه " السميولوجيا " , يقول الكتور السعران : " هذه الأنظمة المختلفة من العلامات لما كانت شريكة اللغة في طبيعة الأصل الذي يقوم عليه كل منهما فهي جديرة بأن تدرس معها .
ودراسة اللغة على هذا الاعتبار جزء من ذلك العلم الناشئ الذي يتهذ موضوعا له دراسة استعمال العلامات الاصطلاحية ووظيفتها في المجتمعات والذي اقترح له فرديناند دي سوسير اسم La Semiologie " السميولوجيا أو علم العلامات " من الكلمة اليونانية Semeion بمعنى " علامة " (1) .
وقد نقل الدكتور السعران قول دي سوسير : " إنا إذا كنا قد استطعنا , للمرة الأولى , أن نحدد لعلم اللغة مكانا بين العلوم , فما ذلك إلا لأننا وصلناه بالسميولوجيا " (2) .
يرى علماء اللغة أن اللغة ظاهرة اجتماعية , فدراستها من حيث الظروف الاجتماعية تدخل في نطاق علم الاجتماع , وقد استعانوا في دراساتهم بوجود كثير من المسائل المتعلقة باكتساب اللغة بعلم الأجناس البشرية وعلم الوراثة وعلم وظائف الأعضاء وعلم التشريح وأمراض الكلام , واستعانوا بعلم التاريخ لصلة علم اللغة بعلم التاريخ من حيث تطورها وصلتها بالمجتمعات وانقسامها إلى لهجات .
وعن أسلوب البحث اللغوي يقول الدكتور السعران : " وعن أسلوب البحث اللغوي يقول الدكتور السعران : " إن الباحث اللغوي الحديث يضطر إلى القيام بسلسلة من التجريدات على مستويات مختلفة حتى يسلم وصفه وتحليله وتصح نتائجه " (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
(1) الدكتور محمود السعران : علم اللغة ص 65 .
(2) الدكتور محمود السعران : علم اللغة ص 66 .
(3) المرجع السابق : ص77 .
وعن تلك التجريدات يقول : " من المسلم به أنه لا بد لعلم اللغة , كما أنه لابد لأي علم من أن يفرد أو يعزل أو يجرد شيئا ما ليدرسه . وماهية اللغة توجب أن يكون ثمة أكثر من مستوى للدراسة , فاللغة من حيث كونها أصواتا يدرسها علم الأصوات اللغوية , وله وسائله الخاصة به , وتكوين الأصوات في مقاطع وكلمات وجمل على أصوات معينة يدرس تحت اسم المورفولوجيا والنظم أي تحت اسم النحو . ودراسة اللغة من حيث إنها كلمات تدل على معان . موضوعها علم الدلالة . ولعلم الدلالة منهجه ووسائله فهو يعتمد على دراسة الصوت وعلى الدراسة النحوية , ولكنه يدخل في اعتباره عناصر غير لغوية كشخصية المتكلم وشخصية السامعين , وكالحاضرين , وظروف الكلام ... الخ .
وثمة منهج لدراسة المعنى من الناحية الوصفية , ومنهج لدراسة المعنى من الناحية التطورية " (1) .
يقول بعض المستشرقين : إن الدراسات النحوية ليست أصيلة وأنها ناجمة عن التأثر باليونان والهنود , وإنصافا للحقيقة نقول : إن الدرس النحوي يتكون من : أسلوب الدراسة إضافة إلى المادة المدروسة , أما مادة الدرس وهي العلاقات القائمة بين الكلمات في الجملة العربية وبين الجمل نفسها والتي تضبط حركات أواخر الكلمات فيه صفة لازمة في اللغة العربية لا نعدم وجود شيئ منها في أي لهجة خرجت من العربية . ونقصد بهذه اللهجات اللغات العالمية المعروفة لأنها خرجت من العربية . وأما أسلوب الدراسة وهو طريقة البحث في العلاقات النحوية في الجمل ووضع القواعد الثابتة بشأنها . فقد يتماثل في بعض جوانبه لدى دارسين لموضوع واحد في مكانين مختلفين مع اتفاق الزمان أو اختلافه من دون أن يلتقي أحدهما بالآخر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نفس المصدر ص 77 – 78 .
ولو فرضنا أن العرب قد تأثروا باليونان والهنود في أسلوب الدراسة النحوية فليس في هذا ما يعيب أو يقلل من شأن النحويين العرب , فالمعرفة لا يقتصر خيرها على أمة دون غيرها , فهي مكسب للإنسانية كلها , وليس في اقتباس النحويين العرب لأسلوب الدرس النحوي عند اليونان والهنود ما يشين اللغة العربية , وقد احتوت اللغة اليونانية كما احتوت اللغة الهندية بعض صفاتها . ولكن الشيئ المؤسف أن أكثر المستشرقين لا يقبل على الدراسات العربية بروح الباحث عن العلم بل يخضع لتأثير التعصب أو الحقد , فلا يترك فرصة للإساءة إلى التراث العربي إلا ويستغلها , وقد بلغ الأمر ببعضهم أنه راح يشكك في شخصية أبي الأسود الدؤلي ويصفها بأنها شخصية أسطورية كما فعل كارل بروكلمان .
أثر احتكاك اللغات في انتقال الكلمات بينها
يؤثر احتكاك الشعوب وتعايشها معا على اللغات التي تتكلمها فتتسرب الكلمات من لغة إلى أخرى , ويتناسب حجم ما يتسرب من لغة إلى غيرها من اللغات تناسبا طرديا مع تأثير الشعب الذي يتكلم تلك اللغة على غيره من الشعوب التي تتعايش معه .
الحروب والغزوات التي تنتهي دائما بانتصار طرف على طرف وخضوع المهزوم للمنتصر هي من أكبر الأسباب لاحتكاك اللغات وامتزاجها ونشوء لغات جديدة تكون خليطا من لغات الأقوام التي تعيش معا إثر اكتساح الجيوش لحدود دول أخرى .
وتتعدد أسباب احتكاك الشعوب التي تؤدي بدورها إلى احتكاك اللغات وتسريب الكلمات فيما بينها , فبالإضافة إلى الاكتساح والاحتلال بالحرب , هناك الهجرة والتجارة وحركة الترجمة وانتشار الدين .
ودور التبادل التجاري فيما بين الأمم دور مشهود في انتقال الكلمات بين اللغات , فقد شهدت منطقة الجزيرة والهلال الخصيب قديما اختلاطا في كثير من الكلام بسبب كون المنطقة حلقة وصل للتجارة بين الشرق والغرب , فقد دخل العربية كلمات من الفارسية واليونانية والسريانية , ولكنها تظل كلمات تعني مصنوعات أو أدوات مستحدثة أو أنواعا من المأكولات والمشروبات الخ ...
لقد دخل إلى العربية وهي الأصل كثير من الكلمات من اللهجات المنبثقة منها أصلا , وهي لغات مستقلة في عرف البشر , فأخذها العرب كما هي فأدخلت إلى العربية كما وردت وأعطي كثير منها أوزان وتصاريف الكلمات العربية ولكن بلفظها الذي ورد في اللغات الأخرى .
ولانتشار الدين تأثير في احتكاك اللغات لا يستهان به , فلغات الشعوب المسلمة في جنوب شرق آسيا تحتوي على كلمات عربية تسربت إليها لحاجة أولئك المسلمين الدينية لها , ولم يكن انتشار الإسلام في تلك المنطقة بسبب الحروب .
وما حدث بشأن الفارسية بعد الإسلام خير دليل على ذلك , فقد أقبل الفرس على اللغة العربية , وأصبحت العربية لغة العلم المفضلة بعد أن أقبل المسلمون في إيران على تعلمها . وفي أواخر العصور العباسية راح الناس هناك يعودون إلى اللغة الفارسية القديمة فوجدوا كثيرا منها قد تخلى الناس عنه ونسوه فأخذوا يلتقطون بعضا منها من أهال الجبال والمناطق النائية ودخل كثير من كلمات اللغة العربية إلى الفارسية الحديثة .
وذلك ما هو كائن في اللغة الأوردية التي احتوت على كلمات فارسية وكثير من كلمات العربية إلى جانب الإنكليزية .
والكلمات اليونانية التي دخلت إلى اللغة العربية إثر ترجمة الكتب اليونانية إلى العربية أيام الدولة العباسية شاهد على مساهمة الترجمة وانتقال العلوم في اقتباس الأسماء العلمية والأدبية والفلسفية .
وما انتقل من كلمات عربية عن العلوم والصناعة إلى أوروبا في القرون الوسطى من خلال احتكاك الشعوب المسلمة في بلاد الشام بالصليبيين وبأوروبا عبر الأندلس دليل على تأثير التجارة بين الدول والانتقال لطلب العلم في مجال الاقتباس بين اللغات .
ربما يكون تأثير شعب على شعب أوشعوب تعيش معه في دولة واحدة أو ظروف مشتركة بسبب سيطرة ذلك الشعب على غيره من الأقوام أو بسبب ما بمتاز به من سبق لغيره من الأمم , ربما يكون تأثيرا قويا يتمثل في تسرب كلمات كثيرة من لغة ذلك الشعب إلى لغات غيره من الشعوب بسبب إقبال تلك الشعوب على اقتباس ما عنده من علوم أو دين .
وكمثال على ما يمكن أن يؤدي إليه اجتماع أقوام من شعوب مختلفة واندماجهم في مجتمع واحد وتأثير ذلك على لغاتهم تبرز جنوب إفريقيا كمثال واضح , فالمعروف أن تلك المنطقة خضعت للاستعمار الأوروبي لمئات السنين , هاجر إليها خلالها كثير من الأوروبيين من مختلف بلدان أوروبا , وقد انبثقت من لغات الأوروبيين المختلفة إلى جانب لغات الشعوب الإفريقية في المنطقة لغة خاصة بذلك المجتمع هي مزيج من تلك اللغات وتسمى اللغة الأفريكانية .
بسبب تداخل المجتمعات فيما بينها منذ القدم وفي مختلف الظروف والأحوال فإننا لا نكاد نجد لغة تخلو من كم كبير من كلمات اللغات الأخرى بداخلها . ولكن هذا الأمر لا يمنع إعادة أي لغة معترف بشخصيتها المستقلة إلى العربية , وإن تألفت من عدة لغات امتزجت معا ,لأن مادة اللغة هي الكلمات , وتظل الكلمات عبر الزمن محتفظة بشيئ من لفظها ومعناها وإن تنقلت عبر عديد من اللغات بما يكفي للاقتناع بإعادتها إلى أصولها .
إن اللغات يأخذ بعضها من بعض , فالظروف التي تطرأ في حياة الأمم تحتم الاتصال والاحتكاك بين اللغات , ودخول كلمات جديدة إلى كل لغة من غيرها , وخصوصا فيما يتعلق بالمصنوعات والعلوم والأمراض والكلمات التي تفرض إيجادها ظروف حياتية جديدة .
ولو أردنا أن نعيدها إلى الأصل العربي فيجب أن ندرك أولا أن تلك الكلمات عندما استحدثت في اللغات الأخرى لم تستحدث من الفراغ , وإنما من المخزون العربي المتوارث عبر العصور , الأمر الذي يعتبر عونا كبيرا للباحث في طريق إثبات صحة كون العربية هي أصل اللغات .
الاختلاف والتشابه في اللهجات
ماذا يطرأ على اللغة بمرور الزمن ؟ وكيف تتولد اللهجات ؟
تنبثق من اللغة بمرور الزمن لهجات متعددة , وذلك لأن اللسان الإنساني ميال بتأثر من الطبع والمزاج الذي يتأثر بالظروف المحيطة والأحوال إلى إحداث تغيير في الألفاظ كفيل مع تعاقب الأجيال باستحداث لهجة تحدد في إطار تعبيري خاص بها , وهذا كائن على صعيد المجتمعات الصغيرة كقبيلة أو قرية أو حي في مدينة .
وعليه فإن المجتمع الكبير في قطر من الأقطار يكون محتويا على العشرات من اللهجات الأولية التي تتبع كلها للهجة القطر بأكمله . ولهجة القطر هذه تكون قد اتخذت من الألفاظ والجمل والمصطلحات التعبيرية الخاصة بها ما يجعلها تبدو بعد زمن طويل لغة منفصلة عن اللغة التي انبثقت منها في الأصل .
لا شك أن تشابها في الكلمات قد يظل قائما يلاحظ لأول وهلة بين اللهجة واللغة التي انبثقت منها وتماثلا في كثير من التراكيب اللغوية , ولكن الاختلاف في نطق كثير من الكلمات والجمل وطرق التعبير عامة بينهما يكون كفيلا بإعطاء تلك اللهجة شخصية اعتبارية كلغة مستقلة .
ولأن الإنسان ابن مجتمعه , تنعكس عليه سلبيات ذلك المجتمع وإيجابياته , فإن من الصواب دراسة اللغة كظاهرة اجتماعية تتأثر بنوع المجتمع وبيئته , ناهيك عن حالة الفرد النفسية والتعليمية . وعليه , فسوف نحاول التعرف على طبيعة التطورات التي تطرأ على اللغة .
الكلام ظاهرة إنسانية تتأثر بأحوال الإنسان المتقلبة ؛ الفرح والغضب والتساؤل والدهشة والتعجب والاستنكار والاستغراب والإصرار والملل إلى غير ذلك . وتحدث التغييرات على لفظ الكلمات بدافع من حالة الإنسان النفسية فقد يرفع الصوت عند نطق الحرف أو يخفضه , وقد يشد عليه بشكل مميز . أو يرققه أويفخمه فيؤثر تصرفه في لفظ الكلمة , فيستغرق لفظها مدة أطول من اللازم أو أقصر مما ينبغي . قد يؤدي تسرعه في لفظ الكلمة إلى التخلي عن الحرف الأخير أو قلب حرف إلى آخر أو إدخال حرف جديد في الكلمة .
وهكذا فإن مجتمعا من الناس يمكن أن يحدث عددا من التغييرات على اللهجة , وإن تعايش أفراد هذا المجتمع معا يوجد بينهم تعارفا على تلك التغييرات لتلقيهم إياها من مصادرها , فتكون سمات لغوية لهم .
هذا المجتمع قد يكون سكان قرية أو حي في مدينة ؛ أي أن المدينة قد تحتوي على مجموعة سمات لغوية بسيطة بعدد أحيائها . وبسبب اقتراب تلك الأحياء من بعضها يختلط سكانها بشكل كبير , وتتكون من تلك السمات اللغوية مجتمعة سمة غالبة على أهل المدينة تكون لهجة مميزة لها عن غيرها من أقاليم البلاد .
وبمقدار ما لتلك المدينة أو لإقليمها من ثقل في إدارة شؤون الدولة يكون تأثير لهجتها على لغة تلك الدولة , وربما طغت بعد زمن طويل على غيرها من اللهجات , بل ربما صبغت اللغة بصبغتها .
وربما أدت الكتابة وتسجيل الأحداث وتأليف الكتب إلى توقف تأثير اللهجات المستمرة في الخروج من اللغة وإلى انحسارها إلى حد معين بحيث تظل محصورة في أضيق حدودها لسيادة لغة الكتابة على البلاد , وذلك إلى أجل قد يطول أو يقصر تبعا لظروف تلك البلاد .
وعليه فإن طغيان اللهجات الجديدة على اللسان السائد , وتعدد اللهجات المنبثقة منه أمر نسبي وله ارتباط بمدى تحضر الأمم ؛ فكلما كان المجتمع متحضرا كلما سادت اللغة مدة أطول , وظلت اللهجات عاجزة زمنا عن القضاء عليها والحلول محلها , وكلما كان المجتمع بدائيا أو قريبا من ذلك , كلما تسارعت اللهجات في الظهور وطغت على لسان المجتمع . وكمثال على هذا في أيامنا : سيادة اللغات الحية كالإنكليزية أو الفرنسية على مجتمعات عدة ومساحات واسعة , وتعدد اللهجات في مجتمع صغير كما في جنوب السودان .
الأثر الاجتماعي والنفسي على اللهجة
تتأثر اللهجة بالمستويات الاجتماعية المختلفة , إذ تنتشر في أوساط العمال والفقراء كلمات وجمل وأساليب تعبيرية تختلف عن مثيلاتها من حيث الدلالات والمستويات التعبيرية عند الطبقة الاجتماعية الراقية التي تمتاز بالترف والثقافة العالية والمكانة الاجتماعية الرفيعة .
وسنأتي بمثال من المجتمع الأردني : فلو طلبنا من شخصين يمثلان تلكما الطبقتين بأن يروي أحدهما قصة مثلا وأن يعيد الآخر رواية القصة نفسها لاستطعنا أن نميز الاختلاف من خلال لفظ الذال ظاء في هذا أو جعل القاف ألفا في قال , أو جعل الثاء تاء في انين أو ترقيق الجيم المعطشة لتصبح أقرب إلى الشين .
ولكن الحكم في هذا الأمر يظل نسبيا , أي أن الطبقة العاملة أو الفقيرة قد تضم أناسا يتكلمون بأسلوب الطبقة الثانية , بينما قد ينتسب إلى طبقة الأغنياء أناس يرفضون التحدث بلهجة الطبقة الراقية لكونها ناعمة بشكل يرفضونه , ولأنهم يحبون اللهجة التي تناسب الطبقة المتوسطة لكونها أقرب إلى الرجولة حست مفهومهم . ولكن أهل تلك اللهجة الناعمة لو سئلوا عن لهجتهم لقالوا إنها حضارية وتخلو من الوعورة , وأن مفهوم الرجولة مسألة نسبية .
تأثير البيئة على الإنسان لا يخفى على أحد , فهو يهجر الأماكن شديدة الحرارة وشديدة البرودة إلى الأماكن المعتدلة , وإن لم يستطع راح يكيف مسكنه بأجهزة التبريد صيفا والتدفئة شتاء . ولا يقل عن ذلك تأثير الحالة الاقتصادية عليه , فهو إن امتلك المال استطاع تحقيق رغباته , وإلا فإنه يظل محروما . إنه يتأثر نفسيا بالمناخ , راحة أو انزعاجا , وبالمال إن توفر أو شح رضا أو سخطا , وهو في جميع الحالات بعبر عن حالته النفسية باللغة تعبيرا لا شك بأنه يتأثر بمستواه الثقافي . وهكذا فإن اللغة ظاهرة إنسانية يصدق على دراستها ما يصدق على دراسة سائر الظواهر الاجتماعية .
إنه في حديثه – من دون الالتزام بأساليب الحديث الأصلية في اللغة – يكون عرضة لإحداث تشوه في الألفاظ أو التراكيب الكلامية "الجمل " , قد يكون مسرعا فيخفي حرفا يسهل إخفاؤه أو يسقط الحرف الأخير , أو لعجلته يقلب الكلمة . قد يكون بسبب إحساسه بالملل لا يجد لديه الاستعداد ليلفظ حرفا كالباء أو الضاد مثلا على الشكل الصحيح , فتخرج الباء كحرف V في الإنكليزية والضاد ظاء .
وبوجود هذه الحالة النفسية المتقلبة فإنه قد لا يكون مهتما في لفظ الأحرف على أصولها فسيتبدل حرفا بآخر له مخرج قريب من مخرج الحرف الأول فتصبح الألف هاء والقاف غينا . قد يسأله أحد سؤالا أو يلقي عليه التحية , ولعجلته واختصارا للوقت قد يعطي شيئا من الكلمة ويمسك عن باقي حروفها .
وهكذا فإن بنية الكلمة عرضة لأن يجري عليها بعض التغيير الذي قد يكون في البداية بسيطا وربما يزداد مع الزمن وتغير الظروف الإنسانية . فقد يكون في إبدال حرف بحرف في أي مكان من الكلمة في أولها أو وسطها أو آخرها .
فإن كانت الكلمة في الأصل مكونة من حرفين فإن مجرد إبدال حرف منهما يغير الكلمة , وليس التغيير في كل الكلمات شيئا حتميا . وتختلف مستويات التغيير في الكلمات , فقد يكون شيئا يسيرا في بعض الأحيان , وقد يكون كبيرا في أحيان أخرى , وقد يكون بحذف مقطع من أول الكلمة أو من آخرها , وقد يكون بقلب الكلمة أو تغيير ترتيب الحروف .
وتقارب مخارج الحروف وميل اللسان إلى ما يعتقد أنه تخفيف في اللفظ يعطي الحرف مخرجا غير مخرجه الأصلي فيستبدل به . إن مخارج القاف والكاف والجيم المصرية متقاربة , وقد يكون إبدال القاف بأحد المخرجين الآخرين أمرا محتملا . وكذلك احتمال إبدال القاف بالألف لاقتراب مخرجيهما في الحلق , وإبدال الألف بالهاء أو العكس والسين بالشين أو العكس والفاء بالباء أو العكس .
وانزلاق اللسان عن مخرج الحرف لا يقتصر على إبداله بحرف آخر معروف في العربية بل قد يصطنع له مخرجا جديدا بلفظ جديد ثم رسم جديد متعرف عليه كما في اللغات الأخرى مثل حرف P الذي قد يكون في الأصل العربي ب أو ف , و V الذي قد يكون في الأصل و أو ب أو ف .
إن هذه التغييرات التي تطرأ على الكلمات والتي قد تكون إبدال حرف بحرف مثل آل بدلا من قال , أو إسقاط حرف من الكلمة مثل أبي بدلا من أبغي أو بدي بدلا من بودي أو تغيير موضعه مثل تغيير موضع الألف في أحد فنقول ما حدا بدلا من ما أحد . قد تجري عند الاستعمال اللغوي في بعض التراكيب اللغوية مثل تايصير أي حتى يصير وإيش حصل أي أي شئ حصل .
وبازدياد هذه التغييرات في الكلمات والجمل ترتسم معالم اللهجة حتى لتغدو بعد زمن طويل وكأنها لغة منفصلة لا علاقة لها باللغة الأم .
تنتشر في الوطن العربي لهجات عامية كثيرة , حتى لتتعدد اللهجات في القطر الواحد , والسبب أننا سمحنا لأنفسنا بأن نتعامل باللهجات في حياتنا اليومية , ولم نلتزم بالعربية الفصحى , حتى لقد سمحنا لبعض سمات العامية بالوصول إلى الفصحى فلصقت بها . فمنا من صار يقرأ النصوص وربما القرآن متأثرا باللهجة فليلفظ الثاء سينا والذال زايا .
والاختلاف في بعض المفردات عند النطق بالفصحى بين قطر وقطر ليس شيئا خطيرا لأنه عائد إلى سعة العربية وكثرة ما فيها من مرادفات . إنما الخطورة في ضعف تعلمنا للعربية , أما بالنسبة لتوحيد المفردات والعبارات المستعملة بين الأقطار العربية , فهذا شيئ جيد وضروري ويعين عليه توفر أسباب الوحدة وتقوية الاتصالات والتنسيق في المجال الثافي والإعلامي .
الفروق بين اللهجات القطرية في المشرق العربي والمغرب العربي كبيرة , ولولا وجود القرآن الكريم الذي حافظ على العربية الفصحى , والصلاة التي لا تكون إلا بالعربية لصار لكل قطر عربي لغته . وما هي إلا لهجات من العربية ابتعدت كثير عن العربية الفصحى التي كان العرب يتكلمونها إبان الفتوحات الإسلامية .
انبثاق اللهجات من اللغة أمر حتمي , إلا إن تم الالتزام باللغة , وهو أمر ميسور في هذه الأيام لوجود أجهزة الإعلام الرسمية والشعبية التي تعين الناس على هذا الأمر .
تأثير البيئة في اختلاف اللهجات
يعتاد الإنسان فيها على الرؤية البعيدة, ولأنها بيئة مفتوحة ينتشر فيها الأفراد بسهولة وكثيرا ما يبتعد فيها شخص عن آخر فيضطر لاستدعائه إلى النداء بصوت عال , مما أثر في الطريقة التي يتحدث فيها ابن الادية حيث يميل في حديثه إلى إشباع المد بالألف في المقطع الأول من الكلمة لأن ذلك يتناسب مع حال من ينادي شخصا بعيدا بحرف النداء يا , وهكذا فلا يصل إلى آخر الكلمة حتى يكون قد استنفد الرغبة في الإطالة فيختم الكلمة بسرعة .
إنه عندما يبدأ الكلمة يبدؤها بصورة انفجارية , إذ يخرج الصوت عاليا كحال من يريد النداء فإذا تبع الحرف الأول حرف المد الألف كان المد بالإشباع , وإذا كان واوا حصل مزج في لفظها بينها وبين الألف مثل حرف O بالإنكليزية من تأثير أسلوب النداء وإذا كان الحرف الثاني هو الياء فإن الياء أصلا تلفظ بشكل قريب من الألف مثل a بالإنكليزية .
ينادي شخص أخاه الذي يدعى عودة : ياعُودَة فيجيبه : يا عُونك , الواو هنا تلفظ O ولا تلفظ مسكنة , مع التغيير في حركة الحرف السابق , فبدلا من الفتحة الأصلية يعطونه الضمة ؛ فالأصل عَودة , عَونك .
وكذلك الحال في السكون على الواو مع الفتح السابق للسكون في جَوهر نَوفل مَوزة , أما الكلمات يا شيخ الخيل البيت فإن الياء الساكنة لا تتناسب مع حركة الفم في النداء , فأصبحت مثل حرف a في كلمة Game أما الكلمة مثل يا حميد يا رشيد فإن الياء تلفظ مثل a ولهذا أخذت الحاء والراء حركة السكون لتتناسب مع الميم والياء ma والشين والياء Sha ولو بقيت الحاء والراء مفتوحتين لاضطر البدوي إلى لفظ مدّين متتابعين حا ma را sha , وهذا لا يتناسب مع الابتداء الانفجاري , إنه يمد الكلمة ولكن في بداية سريعة تتناسب مع تحفزه ويقظته .
وهكذا كان في كلامه مدفوعا بطاقة كبيرة في أول الكلمة , حتى إذا وصل آخرها أحس بأنه أنجز المطلوب , فختمها سريعا .
وإذا استعرضنا معظم الأسماء الشائعة في البادية لوجدنا أنها تلك التي تبدأ بمقطع فيه مد الألف مثل راشد خالد سالم فالح أو حمد فهد خلف وتبدأ بحركة الفتح على الحرف الأول, أو كلمات فيها شدة مثل غضب زعل صخر متعب مطلق , وقلما نجد أسماء يتطلب لفظها الهدوء مثل نعيم جميل سمير وسيم نبيه .
طبيعة الحياة في المدينة تؤثر في أسلوب المحادثة فيما بين أهلها , فازدحام الأحياء السكنية وتقارب الناس يعطيهم شعورا بالأمان ينعكس على اللغة هدوءا في التعبير واعتدالا في الخطاب . ولكن سهولة العيش ويسره , والنوم على الأسرة , والجلوس على الأرائك مما لا يكون في حياة البادية , هذه الأشياء وأمثالها في حياة المدني تؤثر في كلامه المعتدل فتزيده سهولة حتى يصبح لينا والسبب والله أعلم أنه عندما يبدأ الكلمة ينطلق من طبعه الهادئ فتخرج الأحرف الأولى خفيفة , حتى إذا أحس باقتراب الانتهاء من الكلمة راح يمد الألف أو الواو أو الياء بشكل زائد ؛ حتى أنه يمد الفتحة والضمة والكسرة فيعطيها إشباعا كبيرا لينتبه المخاطب إلى ما يريد أن يبلغه إياه عن مدى إصراره أو إعجابه أو انتقاده أو رفضه .
إن الكلمة التي يقولها تحمل معنى التعبير , ولكن نبرة الكلمة هي التي تعطي المخاطب صورة عن حقيقة مبلغ ذلك المعنى في نفس المتكلم . وسنتناول اللهجة الشامية , ونخص منها لهجة أهل دمشق . باعتبارها مدينة عريقة تتمتع بجو جميل يمر منها نهر بردى وتحيطها غوطته الغناء . سنتناول تلك اللهجة كمثال على كلام أهل المدينة :
لو دعا شخص آخر فقال : " وينك ؟ " أي : " أين أنت ؟ " , فإنه يخرجها هطذا : " ويناك ؟ , فتصبح الفتحة على النون ألفا ممدودة .
إن هذا المد بالفتحة يحمل للمخاطب جزءا كبيرا من مقصد المتكلم الذي قد يرفع صوته بذلك المد ليفهم المخاطب أنه يهدده إن لم يسمع بقية كلامه ويأخذه على محمل الجد , وهكذا نجد أن معنى السؤال عن مكانه لم يعد هو المقصود , إنما المقصود : أينما تكون فاسمع ما سأقول .
ولو قال أحدهم للآخر سائلا إياه أن يحضر شيئا : " جيبه " , أي : أحضره , لقال : جيبو , فمد الضمة حتى أصبحت واوا ممدودة وأصبح لفظ الهاء صعبا ومجهدا فاستغني عنها . وسبب المد الزائد هو خروج الأحرف الأولى الجيم والياء والباء بسرعة وسهولة لا تفي بما يريد المتكلم إبلاغه للسامع عن حاجته الماسة والسريعة للشيئ الذي أراده , فما كان منه إلا أن استغل وجود الضمة على الباء وقال بو مادا الضمة بمسافة صوتية قد تصل إلى ما تحتاجه من الوقت لتلفظ الواو ثلاث مرات .
وما يجري على الألف والواو يجري على الياء , فقد يقول أحدهم لمن يسأله ع شيئ إن كان موجودا لديه فيقول : ما في , أي ليس موجودا في المكان الذي سألت عنه . إنه يمد الياء في آخر الكلام لإقناع السامع بصحة ما يقول
أسلوب المد في أواخر الكلمات ليس مطردا وعلى درجة واحدة في كل الكلمات لأن الألفاظ تختلف فيما بينها في مدى الحاجة لتأكيدها , كما أن الحالة النفسية للمتكلم تلعب دورا كبيرا في ذلك , فهو إن كان متوترا أو منزعجا يميل إلى مد الكلمة ورفع الصوت , وإن كان مستغربا أو معجبا فإنه يمد الكلام ولكن دون رفع الصوت . ويظهر المد واضحا وكثيرا عند النساء بصورة أشد مما عند الرجال لميلهن إلى الليونة أكثر .
الليونة في اللهجة لا تؤثر في مدى رجولة الرجل عند المواقف التي تتطلب القوة , لأنه قد يستعيض برفع الصوت وشدة النبرة عن البطء الناشئ في التعبير وايصال المعلومة إلى السامع , ولكن الصفة العامة لهذه اللهجة عند الناس تنسحب على أهل المدينة بصورة عامة . وتمتاز جميع المدن بلهجات ذات نعومة ورقة تميزها عن لهجات الريف والبادية .
والمثقفون من أهل المدينة يرفضون الالتزام باللهجة اللينة , فهم يستخدمون أحيانا بعض الكلمات من اللغة الفصحى , ويستبدلون بالألفاظ الدارجة على لسان العوام ألفاظا غيرها , فبدلا من ويناك يختار المتكلم مثلا إسمعني أو إفهمني ولا حاجة لمد الياء في آخر الكلمة فإن مقدرة المثقف على إقناع سامعه تمكنه من التحدث إليه بثقة لا تحتاج التهديد المسبق . وكل هذا يظل نسبيا , فالأمر يختلف من شخص إلى آخر بمقدار ثقافته أو حالته النفسية .
وأهل الريف يمثلون في لهجتهم حالة وسطا ما بين البادية والمدينة , فهم لا يبدأون الكلمة بداية انفجارية عالية تجعل آخرها سريعا لا يكاد يظهر بوضوح أحيانا كما هو الحال في أهل البادية , وهم أيضا لا يبدؤون الكلمة بداية سريعة خفيفة ليتبعوها بمد طويل بأحد أحرف المد .
إنهم يلفظونها بشكل أقرب إلى طبيعة اللغة من اللهجتين , إلا أنهم بسبب انتشار العامية في قطاع كبير من سكان الريف وبسبب خشونة العيش الناجمة عن أسلوب التعامل بالفلاحة ورعاية الماشية تعتور لهجتهم خشونة تظهر من خلال تضخيم أصوات الكلمات الناتج عن استبدال حرف رقيق بحرف ضخم أو لفظ الحرف مع توسيع الفم أو التشديد على الحرف .
مثال ذلك استبدال الذال بحرف الظاء كما في كلمة هاظا التي تعني هذا ولفظ الكاف إتش , وحذف الهاء من الكلمة والشد على التاء السابقة لها مثل قولهم كتَبِتّا بدلا من كتبتها , أو وضع السكون على الياء الأخيرة كما في داريْ من أجل إعطاء نبرة شديدة للتعبير .