لا بد لأمة اقرأ أن تقرأ
وقيان بن فهد الوقيان
الكتاب هو خلاصة تجارب وعقول وأفكار وأمزجة وتوجهات البشرية منذ وجد الإنسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, فأنت إذا قرأت كتاباً لأي عصر من العصور، فإنك تعتبر بمثابة من عايش أهل العصر - مجازاً -, تستشف ذلك من تجاربهم وأساليبهم وطريقة تفكيرهم وما يلوح لك من تفاصيل حياتهم وطريقة عيشهم وتعاملهم مع الحياة والأحداث.
من هنا كان لزاماً علينا أن تكون القراءة حاجة ملحّة ورغبة ذاتية نستطيع بها أن نعايش الناس, وننافسهم في ميادين الحياة عامة, إذ إنّ القراءة الآن أصبحت عنوان التقدم والحضارة, وسبيل الرقي والريادة، فبدونها تصبح الأمة كاملة مشلولة وعقيمة تعجز من أن تنجب النجاح وتلد الفلاح.
فبتتبعنا لقصص الحضارات وزعامات الأمم لا نجد من يعينهم على ذلك ويكون رافدهم في التفوق غير القراءة والعلم، فانظر إلى الحضارة اليونانية كيف نهضت إلا على أيدي الفلاسفة الذين اتخذوا من الكتاب خليلاً, وتتبع حضارة الإسلام التي ما قامت لها قائمة إلا ببزوغ فجر {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، وشاهد الحضارة الغربية التي نعيشها ونعايشها الآن التي قامت على أنقاض هجران المسلمين للكتاب, واستمسكوا هم به لأنهم عرفوا السر الذي به تسود الأمم، وهذا الذي جعل الروس لا يغلقون المكتبات وهم في شدة أوار الحرب العالمية الثانية وقمة جحيمها، بل فتحوها ورغبوا الناس في ارتيادها لكي يبقى الكتاب مخرجاً يخرجون به من شدتهم، والجندي الإنجليزي الذي كان يعود إلى إنجلترا ليزود روحه بالكتاب كما يزود بدنه بالسلاح, ولا نعجب في ذلك إذا ما علمنا أن في أجدادنا وأسلافنا نحن المسلمين من إذا دعي إلى الخروج مع الخليفة أو الوالي يعتذر لأنه لا يستطيع أن يحمل مكتبته معه التي لا يطيق الحياة بدونها, بل وأبعد من ذلك منهم من يجلس في مكتبته ليقرأ فتسقط كتبه عليه فتكون سبباً في وفاته، وبهذا الحرص على القراءة ساد المسلمون في وقتهم وساد الغربيون في وقتنا, كما أنّ القراءة كانت ومازالت لأي أمة وسيلة لطرد المستعمر والقضاء على ما يعرف اليوم بالإمبريالية التي ما كاد يسلم من شرها أحد قديماً وحديثاً, ويرحم الله من قال:
اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر
ضل قوم ليس يدرون الخبر
فالأمة التي لا تقرأ وتهجر القراءة لا تعرف كيف تتلمّس مشاكلها وتعرف حلولها، وتميز عدوها من صديقها، وتبقى تسير في حلقة مفرغة ونفق مظلم لأنها لم تستبصر بنور الكتاب.
هذا أثر القراءة والثقافة على مستوى الأمم والشعوب، أما أثرها على مستوى الفرد فلو لم يكن إلا أنها تقضي على وحدتك وتطرد عنك السآمة والملل، وتؤنس عليك غربتك ووحشتك وتعلل بها وقتك الذي يذهب عليك سدى - وما أكثره في هذه الأيام - لكان ذلك كافياً وشافياً, وقد قيل بيت بلا كتاب كحجرة بلا نافذة.
القراءة مفتاح المعرفة وكشاف الفكر تستطيع بها أن تضيف إلى نفسك معارف وعلوماً ترفع بها نفسك عن الجهل, وتربأ بها من قشور الحياة, وتسمو بها في عالم الفضائل والقيم والمثل والروحانيات, فالقراءة مهذبة للأخلاق، ومعطرة للنفس، ومطهرة من درن المادية الذي أسكر قلوبنا، وأعمى عيوننا، وغشاها بغشاوة المتعة الشكلية التي لا تنفذ إلى أعماق الروح والباطن كما تنفذ إليها القراءة.
والقراءة كذلك تكوّن شخصيتك، وتبني ثقافتك، وتثري حصيلتك، وتمنحك الثقة في النفس، وتعينك على فهم مشاكلك، ومعرفة جذورها، والبحث عن حلولها، فأنت وبكل بساطة من خلال قراءتك تتنزه في عقول الناس, وتتعرف على تجاربهم في الحياة، وتستنير من مشكاة نورهم وأفكارهم, والقارئ لن يعدم الفائدة مما يقرأ إن قليلاً وإن كثيراً, وقد ذكر عن الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد والذي جلبت له متع الدنيا المادية بأكملها لم يكن ذلك كافياً له عندما سئل أي ملذات الدنيا أشهى إلى نفسك؟ فأجاب: التنزه في عقول الناس ولا يكون ذلك إلا من خلال الكتاب, وقد قالت العرب : اختيار المرء وافد عقله، فأي اختيار أنبل من الكتاب وأي عقل أرقى من عقل القارئ.
ومن ثمرات القراءة أيضا إقامة اللسان, وتعويده على التحدث والتخاطب مع الناس ومناقشتهم بأسلوب علمي منطقي إذ إنك بذلك تتكئ على رصيد ثقافي ومخزون معرفي يمكّنك من عرض وجهة نظرك وطرحها بكل وضوح واقتدار.
وما أجملها وما ألذها من لحظة عندما يكتشف القارئ معلومة جديدة، ويهتدي إلى فكرة نيرة، ويكتسب خبرة ناضجة يجدها مبثوثة في ثنايا كتاب أو منثورة في معرض مقال, ولا يشعر بطعم هذه اللذة إلا من تذوقها وعايشها.
وبعد أيها السادة هل بقي بعد ذلك مجال لأن نبحث عن السعادة والمتعة في غير موضعها، وهل يعي من يلهث خلف السراب وغبش الظلام أن طريق التفوق والنجاح والسمو لا يمكن أن يلجه - بعد معرفة الله والأنس بقربه - إلاّ من خلال بوابة الكتاب:
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
ولم يخطئ شوقي ولم يجانب الصواب عندما قال:
أنا من بدل بالكتب الصحابا
لم أجد لي وافيا إلا الكتابا
صاحب إن عبته أو لم تعب
ليس بالواجد للصاحب عابا
كلما أخلقته جددني
وكساني من حلى الفضل ثيابا
صحبة لم أشك منها ريبة
ووداد لم يكلفني عتابا
<!-- / message -->