عرض مشاركة واحدة
  #53  
قديم 2010-10-04, 02:32 AM
زينب من المغرب زينب من المغرب غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2009-08-14
المكان: tangier morocco
المشاركات: 221
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كان الجو ماطرا والبرد قارسا، لقد مر العيد الكئيب وترك خلفه صور حزن وحيرة وضياع إبنها مغروسة في قلبها، تكسرها كلما جالت بخاطرها.
جلست في سيارتها تراقب المارة وهي تنتظر عند باب المدرسة. ثم رن الجرس فخرجت بمظلتها لتستقبله، أجلسته في مكانه ووضعت بجانبه محفظته ثم انطلقت في مسيرتها.
لقد تغيرت عاداته كثيرا، كان يحكي لها عن زملائه وماذا فعل معهم ويسألها عن المشاهد التي تمر أمامه في الطريق ولا يكف عن الثرثرة إلى أن يصلا إلى البيت، وإن حدث وظل صامتا ,وهي من الحالات النادرة جدا,كانت تعرف أن مشكلا حدث معه. لكن في الأيام الأخيرة لم يعد يحدثها وإن سألته أجابها في حدود السؤال وعاد إلى صمته.
نظرت إليه وقالت في محاولة لكسر الصمت: هل تشعر بالبرد؟؟
فأجابها مباشرة:لا. وأطبق صامتا.
حاولت مجددا أن تنعش الجو فابتسمت وهي تقول له:ولماذا وجهك يقول أنك غاضب؟؟
فقال لها: ولماذا سأغضب ياماما وأنا دائما أنهض في الصباح أفطر وأذهب إلى المدرسة وأدرس وأعود إلى البيت وأنجز الواجبات المدرسية وأنطلق غدا إلى نفس اليوم.
استغربت من طفلها أن يشعر بالملل والروتين وهو لا يزال في أحلى الأيام في حياة الإنسان، الأيام التي لا مجال فيها لحساب الوقت وتعداد السنوات والخوف من قرب تلك النهاية التي تخر لها كل القوى في استسلام عن إجبار وليس عن إختيار.
استعجلت القول قبل أن يبدأ في سرد مزيد العبارات المتشائمة التي تحزنها أكثر مما تربكها، فاستطردت قائلة: قلت أنك لا تشعر بالبرد حسنا هذا جيد لأننا سنخوض مغامرة جميلة الآن وسنرى إلى أي حد تستطيع تحدي البرد؟؟
نظر إليها في ملل وقال: ماذا سنفعل؟؟
لم تجبه رغم أن نظرته غير مشجعة بتاتا، أوقفت السيارة وألبسته معطفه البلاستيكي ولبست هي الأخرى معطفها ثم أنزلته وهو في حالة إستغراب شديد و أغلقت السيارة وهي تقول له: حين كنت صغيرة كان في كراسة المدرسة نص عنوانه:" فسحة تحت المطر" وفيه صورة امرأة تمشي والشتاء تسقط كنت أنظر إليها وأحس أن هناك شيء جميل في تلك الصورة. المطر يسقط وأنت تمشي تحته وكأنك تقول له أنا لا أخافك ولن أختبىء بمجرد سقوطك.فكنت منذ صغري أحب أن أمشي تحت المطر كلما غضبت أو أحسست بشيء غريب في داخلي، كان ينصت إليها بإهتمام مما زاد في حماستها فأتممت قائلة: سنمشي تحت المطر لتحس كم هو رائع أن تسقط القطرات الباردة على ظهرك.
شدت يده وانطلقا في خطواتهما. كانت الشتاء تسقط بغزارة على ظهريهما وسقوط المطر على غطاء الرأس الخاص بالمعطف يصدر صوتا مزعجا لدرجة لا يسمعان بعضهما.
قالت له وهي تصرخ: هل تستطيع أن تسبقني؟؟
فابتسم وهو يصرخ بصوت أعلى منها: طبعا سأسبقك.
لم يكد يتم عبارته حتى إنطلقت تجري فتبعها هو,كانت تضحك بأعلى صوتها وهي تراوغ محاولاته، كانت تنتقل من شارع إلى شارع ومن حي إلى حي غير آبهة بالمياه التي كانت تبللها، أحست وكأنها تحلق إلى بعيد إلى حيث لم يكن للحزن مكان في قلبها, إلى العالم الذي كانت تخرج فيه من المدرسة والشتاء تسقط فتستفز إحدى زميلاتها بضربها لتطاردها الأخيرة في محاولة إنتقام طفولية بريئة.
كانت تسترق النظرات إلى عينيه وترى سعادته بمطاردتها, فتسري في قلبها نشوة لذيذة, نشوة الأمومة الغريبة على كل العلماء والتي كتب لأسرارها أن تكون حبيسة في قلوب الأمهات. لعبت كما يلعب الصغار غير مبالية بالسيارات التي كان يتوقف بعضها لمتابعة ركض هذه الأم المجنونة التي قررت اللعب في أشد الشهور قساوة.
وصلا في جريهما إلى إحدى المنتزهات العامة فجلست على إحدى الكراسي المبللة وأجلسته بجانبها، وضعت يدها على دراعه الآخر وأطبقت صامته، أرادت أن تترك له الفرصة لتذوق هذه اللحظات فهي تقول دائما أن هناك مشاهد في الحياة قد يفسدها الكلام.
بدى لها في غاية السعادة, التفت إليها ووضع راحة يده على وجهها المبلل وقال وهو يبتسم: جميل الجري تحت المطر
وضعت راحتها فوق راحته وقالت: أغمض عينيك وقل لي بماذا تشعر؟؟
فعل ما قالت وتنهد بعمق وقال لها: أحس وكأنني طائر يحلق في السماء وأرى البيوت صغيرة أسفل مني.
ثم فتح عينيه فجأة وقال لها: أمي أعتقد أنني تطورت عن الطائر في جزيرة بعيدة وهو حملني إليك بعد أن أكملت تطوري.
ضحكت له وقالت: لا أريد منك أن تفكر الآن أريدك أن تقرأ فقط ما يوجد داخلك وتنقله إلي.
تنهد مجددا وقال لها: أريد أن نجري دائما تحت المطر ونصرخ بأعلى صوتنا.
ضمته بقوة وقالت له وهي تغالب دمع عينيها: سنفعل ذلك سنفعل أكيد.
ثم صمتا برهة وكأن كل منهما إنشغل بهذا الإحساس الذي غمرهما.
وما هي إلا لحظات قصيرة حتى مر رجل متسخ الثياب رثها، يحمل زجاجة خمر في يده ويجر قدماه جرا ثقيلا، فخاف إبنها وتعلق بها بينما وقف الرجل عند قدميها وقال في حزن شديد: الدنيا لا شيء أنا أكرهها ماذا فعلت للإله حتى يعاقبني بكل هذا، لقد كنت طيبا..
بدأ يهذي بسكره ويتظلم عن ظلم الإله له .شدت على يد إبنها وبدأت تجري في سرعة وكأنها أحدهم يطاردها مهددا إياها بسلاح.
كان يقول لها: أمي أنا خائف.
لكنها لا تجيبه ,بقيت على جريها إلى أن وصلا إلى السيارة. فرفض أن يصعد وقال لها وهو يحدق بها وقد أغرق الدمع عينيه: أمي لماذا كنت تجرين؟؟ هل كنت خائفة؟؟
جثت على ركبتها غير عابئة ببرودة الأرض التي تكاد تهشم عظامها،إن ظهور الدمع في مقلتيه بالنسبة لها كاقتطاع جزء من قلبها, وضعت راحتيها على دراعيه وقالت له: حبيبي، لا لم يخفني ولكن لم أرد أن يفسد عليك سعادتك بهذه الفسحة .
كانت تحاول جاهدة أن تخفي خوفها مما سيبعث هذا المشهد في عقل إبنها من تساؤلات.
فقال لها في إستغراب: لماذا حين رآنا نجري بدأ يصرخ ويقول: إلهي لقد ظلمتني؟؟ هل تعرفين هذا الذي ظلمه؟؟
أربكها السؤال فقالت له: حبيبي ألم نشعر بالسعادة طوال هذا اليوم الجميل انظر كم تبللت ثيابنا وكم جرينا لنخرج ما بداخلنا من حزن فلماذا تريد أن تحزن بالتفكير في هذا الرجل.
فقال لها وكأنه لم يسمع سؤالها: ماما لماذا كان ذلك الرجل يبكي من ظلمه؟؟ من إعتدى عليه؟؟ ومن هو الإله؟؟
كانت أسئلته كسكاكين تغرس في قلبها وكأنها تدمر بناء ظلت لسنوات حريصة على استمراريته.
ردت وهي تهم بالنهوض: سنتحدث عن كل هذا في البيت فأنا أشعر بالبرد الشديد.
وافق عن غير رضى وبدأ في فتح أزرار المعطف ليصعد إلى السيارة ثم انطلقا في صمت.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى
رد مع اقتباس