السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هل أحسست بالفرق بين الإستحمام العادي والإستحمام بعد فسحة باردة؟؟ قالتها له وهي تلبسه ثيابه بعد أن أخذا حماما ساخنا.
فرد عليها: أجل، خاصة حين تصب الماء الساخن على جسدك أول مرة.
شدت على يديه وأخذته إلى غرفة الجلوس جلس هو على الكنبة بينما أوقدت هي المدفئة وجاءت لتجلس بجانبه.
كانا ينظران إلى الشرفة المقابلة لهما، فقالت دون أن تلتفت: كم يبدو الجو باردا جدا في الخارج حين تكون في مكان دافىء. مراقبة الأمطار تبعث في داخلي شجونا وذكريات طفولتي. يذكرني هذا الجو بجلوسي في بيتنا أمام أمي وهي تعد الفطائر، كان يحمر وجهي من حرارة الجمر المشتعل، والشتاء تسقط على سقف بيتنا فتصدر أصواتا قوية، لكن ذلك لم يكن يثني أمي عن الغناء بصوت شجي بشكل يصبح فيه الجو جميلا ودافئا .
قاطعها دون أن يبعد نظره عن الشرفة: لكني وأنا أراقب الشتاء، أتذكر الحيوانات التي ستموت من شدة البرد أو من الغرق، دائما يقفز إلى ذهني صورة الطيور التي ستسقط ميتة بسبب ذلك. يخيفني الشتاء وأكثر ما يخيفني فيه أن أكون يوما في الشارع لا أجد بيتا لأنام وأتدفىء فيه. مثل ذلك الرجل الذي رأيناه اليوم. والذي أخافنا رغم أنه في حال سيئة جدا ولا يبدو قادرا على الجري. هل سيجد بيتا ليستحم فيه بعد فسحته ويجلس في غرفة دافئة ليتفرج على تساقط المطر؟؟ ربما ذلك الذي ظلمه أخذ منه ما يملك لذلك كان يبكي ويصرخ؟؟
فكرت في أن ترسم الإله كإنسان وتتخلص من ذكرى ذلك السكير,لكن سيكتشف كذبها بسرعة بعد أن يتحدث أحد زملائه عن الإله,مما سيفقده الثقة في أقوالها وهذا ما لايمكنها المغامرة به.فقررت مواجهة هذا المشهد في ذهن إبنها كما واجهته سابقا في ذهنها. التفتت إليه وقالت: عزيزي، صحيح أنك لا تزال صغيرا على مسائل كثيرة في هذه الحياة والتي قد لا يستوعبها عقلك الآن، لكني أفضل دائما أن أخبرك الحقيقة كما هي على أن أكذب عليك أو أتجاهل أسئلتك. حاولت دائما أن أخفي عنك مسألة هذا الإله فقط لأن الوقت لم يكن مناسبا ,وهو لا يزال غير مناسب, لكني مضطرة بعد الموقف الذي حدث في الحديقة أن أخبرك بما عليك معرفته ودعه في عقلك لتحاول به رسم صورة واضحة في المستقبل عن هذا العالم وكيف يسير.
حاول أن تنصت جيدا لما سأقول، فسننتقل أنا وأنت إلى الإنسان الأول الذي استطاع بعد معاناة كثيرة من الوصول إلى الشكل النهائي الذي نحن عليه الآن. وبعد أن تكون لديه العقل وبدأ يدرك الأشياء ويفهمها،كان عليه أن يجدد تأقلمه مع العالم من جديد، وهذه المرة بشكل يناسب تكوينه العالي الطراز. بحث عن ملاجىء له فاتخذ من الكهوف بيوتا وبدأ يتزاوج ويلد وتكاثر نسله، وأصبح عليه حاجيات جديدة فصار يسخر الطبيعة لخدمته من استعمال مياهها وخشبها وغيره، وفي خلال ذلك كان عليه أن يكتشف في كل مرة العالم من حوله، وهذا ما عرضه لمخاطر عديدة منها مواجهة الحيوانات الضخمة بوسائله البسيطة الشيء الذي كان يرديه مهزوما أمامها وعندها يقف بين حالتين, إما يفر إن أمكنه أو يخر صريعا. وكذلك الزلازل والبراكين ومسائل كثيرة أدت إلى تكوين هالة من الخوف والهلع عنده، فنظر بعلمه البسيط إلى صنعته التي لا تعدوا أن تكون جمع الخشب لإشعال النار، وضرب الحجارة بقوة لصنع كهف للسكن... ثم جال بنظره في العالم حوله فرأى براكين تثور وزلازل تدمر وحيوانات تسعر بين الفينة والأخرى وشتاء تسقط بأزمنة متفاوتة وشمس تشرق يتبعها قمر وكل ماض في ميزان هائل من الحكمة الشيء الذي كان يفتقده، فأعزى ذلك كله إلى وجود كائن قوي جدا وضخم جدا يتحكم في كل هذا,فسماه الإله.
انتشرت الفكرة بين الأفراد القليلة الموجودة على الأرض أنذاك ثم تناقلتها الجماعات، فكان كلما خاف الإنسان من زلزال دعى هذا الإله ليحميه منه باعتباره المالك لمفاتيح إيقاف وارسال هذه الظواهر، ثم وبعد أن تشعبت القبائل والعشائر أصبح كل واحد يحكم القبيلة يفرض عليها قوانينا ليخدم مصلحته ويدعي أنها من عند هذا الإله حتى يجد لها قبولا طيبا في صدور الناس.
فتخيل معي كيف أصبح الوضع بعد مرور الملايين من السنين، لقد مُلأت الكتب بالأساطير والخرافات، مرة للزيادة في صفات هذا الإله حسب ما يصل إليه العلم من طاقات جديدة وقوى, ومرة للزيادة في أوامره وذلك حسب مصالح الطبقات الحاكمة أو المتسترة تحت الحكام.
ارتسمت على وجهه علامات الدهشة وسألها: غريب فعلا!!
ابتسمت وهي تقول: أجل هو غريب لكنه الواقع.
فرد محافظا على نفس ملامحه. الغريب هو كيف استطاع هذا الإنسان أن يطور أذنا وعينا وحواس وأطراف من خلال أصوات الرعد ونور البرق ولم يكن ذو عقل حينها ثم بعد أن طور هذا العقل صار يخاف وينسب كل ما في الدنيا إلى هذا الإله !!فلماذا طور هذا العقل إذن؟؟
كانت ملاحظة في محلها لدرجة أربكتها؛ فقالت له: لقد أخبرتك أننا لا نعرف كيف طور عقله.
فقال لها: فكيف تعرفون كيف صنع هذا الإله إذن؟؟
فردت: لأن العديد من العلماء المختصين الذين أفنوا حياتهم في قراءة هذه الكتب التي كان يدون فيها الإنسان هذه التعاليم الإلهية والصفات، هم الذين وصلوا إلى هذه النتيجة وطبعا بدلائل,فقدموا للإنسانية خيرا عظيما.
فقال لها في غير مبالاة بجملتها الأخيرة: وكيف هو هذا الإله؟؟
فردت وقد ارتسمت على وجهها نظرة ساخرة: في كل قبيلة وفي كل حضارة ستجده بصفات مختفلة، هناك من عندهم فأرا وهناك من عندهم كلبا وهناك من جعلوه في السماء نزل مرة وتصارع مع أحد الناس فطلب السماح للعودة إلى سمائه قبل حلول الضوء، ومنهم من قال أنه لا ينزل من السماء لكنه أرسل إبنا له قامت إحدى القبائل الأخرى التي خالف صفات الإله الخاص بها بقتله. لقد تعددت صور الآلهة عبر الملايين من السنين، فكل من يملك ذكاء بسيطا كان يضحك على الحمقى بأنه رأى الإله وهو الذي أرسله إلى الناس ليعلمهم بعضا مما يريد.
لم يبادلها الإبتسام لكنه قال لها: ألا يمكن أن يكون هذا الإله موجود فعلا؟؟
فردت عليه: لا طبعا لأن كل ماكان ينسب للإله، من تصريف الرياح وانزال الأمطار وتفجير البراكين وزلزلة الأراضي ووو كلها استطاع العلم أن يتوصل إلى أنها ليست سوى حركات تنتج عن تفاعلات لا دخل لأحد فيها.
فقال لها بعد صمت:إذن لم يعد هناك من يتحدث عن هذا الإله بعد أن اتضح أنه لا وجود له، فلماذا إذن كان يصرخ ذلك الرجل؟؟
فردت وقد ارتسمت على وجهها علامات أسف: للأسف الشديد لازال الناس يؤمنون بهذه الآلهة، فالذي يمرض يرتجي هذا الإله أن يزيح عنه المرض والذي يفقد أمواله يسأل هذا الإله أن يعوضه عنها، كل يدعوا على حسب متطلباته وهذا الإرتباط بشيء غير موجود يبعث فيهم الإحساس بالأمان والدفىء الشيء الذي يجعلهم متشبتين به أكثر وأكثر. لكن هناك من يؤمن بهذا الإله لكنه كلما حلت به مصيبة اشتكى من ظلمه وتباكى وتظلم وقال لقد ظلمني وتجاهل أن أية مشكلة تحل به تكون نتيجة سوء تخطيط منه ليس إلا,وهؤلاء ليسوا سوى فاشلين في إدراك النجاح والمتقاعسين عنه.
فقال لها: حتى المرض والموت يأتي نتيجة سوء تخطيط؟؟؟؟
فقالت له: المرض لا يأتي إلا من الأوساخ وسوء التغذية والموت فيه حالات أغلبها تكون بسبب حوادث ناتجة عن تهور الإنسان أو بسبب شيخوخة جسمه وعدم قدرته على تحمل الحياة.
أطبق صامتا ولم يجبها وكأنه يحاول هضم هذا الطبخ الجديد والذي لا يأتيه من أمه سوى ما هو شبيهه.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى
|