للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب |
|
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
أعظم الكلام لا إله إلا الله محمد رسول الله
<o:p></o:p> <o:p> الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .</o:p> كلمة لا إله إلا الله ؛ هذه الكلمة هي أعظم الكلمات على الإطلاق ، كما قال عليه السلام " أفضل الذكر لا إله إلا الله " ، وكما قال " وخير ماقلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " . <?xml:namespace prefix = o ns = "urn:schemas-microsoft-com:office:office" /><o:p></o:p> وهي كلمة التوحيد وهي كلمة الشهادة ، وهي الكملة الطيبة كما قال تعالى : {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة } .<o:p></o:p> وهي كلمة الحق؛ كما قال عز وجل {إلا من شهد بالحق} .<o:p></o:p> وهي دعوة الحق ؛ كما قال جل وعلا {له دعوة الحق}.<o:p></o:p> وهي كلمة التقوى ؛ {وألزمهم كلمة التقوى }.<o:p></o:p> <o:p> </o:p> ووصفت هذه الكلمة بصفات عظيمة بالغة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تدل على علو شأنها ورفعة مكانتها وعظيم قدرها .<o:p></o:p> وهي دالة على التوحيد وعلى الوحدانية وعلى تفرد الله سبحانه وتعالى .<o:p></o:p> فهي كلمة دالة على التوحيد لله عز وجل ، ودلالتها على التوحيد بالنفي والإثبات ، وهما ركنان لهذه الكلمة لا توحيد إلا بهما . النفي في قوله "لا إله" ، والإثبات في قوله "إلا الله" ، ولا يكون المرءُ موحدا إلا بالنفي والإثبات . فهما ركنان للتوحيد ، نفي العبادة عن كل ماسوى الله ، وإثبات العبادة بكل أفرادها وكل معانيها لله سبحانه وتعالى وحده ، فمن نفى ولم يثبت لايكون موحداً ، ومن أثبت ولم ينف لا يكون موحدً ، ولا يكون المرء موحداً إلا بالنفي والإثبات .<o:p></o:p> فمن نفى ولم يثبت فلا يكون من أهل التوحيد ، بل يكون من أهل الإلحاد ، فعقيدتهم لا إله : هذه عقيدة الملاحدة ، يقولون لا إله والحياة مادة .<o:p></o:p> فالنفي المطلق إلحاد .<o:p></o:p> ومن أثبت ولم ينفي فهذا شرك ؛ لأنه لم ينف العبادة عن ما سوى الله ، مثل كفار قريش والمشركون عموماً . <o:p></o:p> فلا يكون توحيدٌ إلا بالنفي والإثبات . <o:p></o:p> الإله : المعبود الذي يـُؤله ويُعبد ويُخضع له ويُذل ويُركع له ويُسجد وتُصرف له أنواع الطاعة. <o:p></o:p> لا : نافية للجنس ، ولا النافية للجنس تحتاج إلى إسم وخبر .<o:p></o:p> إله : اسم "لا" ، خبرها محذوف مقدر دلَّ عليه المقام ، ويسوغ الحذف إذاعُلم الأمر ، ونقدره [حق] كما قال تعالى : {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما تدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير}، وقال {ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير}.<o:p></o:p> فلا إله حقٌ إلا الله ، فلا يصلح أن يُقدر المحذوف بقولك [موجود] بأن يُقال لا إله موجودٌ إلا الله ؛ لأن الآلهة الباطلة موجودة وكثيرة ، فيكون المعنى على هذا : كل إله موجود هو الله ، وهذا باطل .<o:p></o:p> فلا إله إلا الله : أي لا إله حق ٌ إلا الله ، وكل ما عُبد من دون الله فعبادته باطلة ، يقول تعالى {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير } ، فكل عبادة تُصرف لغير الله باطل وضلال ، والإله الحق هو الله وحده ؛ ولهذا كان بعض الصحابة يقولون في التلبية : لبيك إله الحق ؛ أي وماسواك إله باطل ، فالآلهة المتخذة من دون الله كلها باطلة ، لا أحد يستحق من العبادة أي شيء لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي من الأولياء .<o:p></o:p> سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول له ما شاء الله وشئت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: <o:p></o:p> " أجعلتني لله نداً قل ما شاء الله وحده " . <o:p></o:p> فحقوق الله جل وعلا وخصائصه له سبحانه ، لا يصرف شيءٌ منها لغيره سبحانه وتعالى .<o:p></o:p> فلا إله إلا الله لايكون العبد من أهلها إلا إذا حقق ركنيها (النفي والإثبات) .<o:p></o:p> محمد رسول الله : <o:p></o:p> هذه شهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة ، وهو عبد الله ورسوله ؛ قال تعالى {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} ، وقال { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً } . <o:p></o:p> والمراد بالعبودية العبودية الخاصة، عبودية الذل والخضوع والانقياد والانكسار والتذلل والطاعة والامتثال لله سبحانه وتعالى. وقد كمَّل نبينا عليه الصلاة والسلام هذا المقام أتم تكميل ، فعبد الله حتى أتاه اليقين ، صلاوات الله وسلامه عليه ، وكان عليه الصلاة والسلام في عباداته وطاعاته قدوة المؤمنين ، وأسوة الطائعين ، قال تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} وما من مقام من مقامات العبادة إلا وتممه عليه الصلاة والسلام وأتى به على الوفاء والتمام، فكان في كل عبادة قدوة، وفي كل طاعة أسوة .<o:p></o:p> فهذه شهادة ٌ له بالعبودية أنه عبد لله تمم مقام العبودية وكملها . <o:p></o:p> فيُشهد له بالرسالة ؛ بأنه رسول الله ، مرسلٌ من الله حقاً وصدقاً ، بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين ، بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، وأنه صلى الله عليه وسلم بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، وماترك خيراً إلا دل الأمة عليه ، ولا شراً إلا حذرها منه . فهذه شهادة له بالرسالة .<o:p></o:p> وهو صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله ، وشهادة ُأنه عبد لله تقتضي ألا يُصرف له شيءٌ من العبادة؛ فالعبد لا يُعبد ، فمن يمد يديه ويقول : مدد يارسول الله، أدركني، أنقذني، أعطني ...<o:p></o:p> فهل فهم من هذا حالُه ، هل فهم هذه الشهادة ؟ هل فهم قوله : أشهد أن محمداً عبده ؟! العبد لا يُعبد ؛ الذي يُعبد الرب جل وعز !<o:p></o:p> الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم كلهم إنما بُعثوا لدعوة الناس إلى عبادة الله جل وعلا ، أول مايصادفك في القرءان من الأوامر قوله تعالى {يا أيها الناس اعبدوا ربكم }، فالعبادة لله ؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما " إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف " .<o:p></o:p> والشهادة له بالرسالة تقتضي وتستوجب طاعته وامتثال أمره ، والرسل إنما أرسلوا ليُطاعوا كما قال سبحانه وتعالى {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}. <o:p></o:p> قال أهل العلم : معنى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، والانتهاء عما نهى عنه وزجر ، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع .<o:p></o:p> ولو تأملت ماجاء به عليه الصلاة والسلام لوجدت أنه لا يخرج عن ثلاث أشياء : أوامر ونواهي وإخبار ، وفي شهادتك أن محمداً عبده ورسوله توسط واعتدال وبـُعد عن الغلو والجفاء .<o:p></o:p> توسط بين الغلاة وبين الجُفاة ؛ لأن من غلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم ورفعه فوق قدره وأعطاه من خصائص الرب سبحانه وتعالى إما خصائص الربوبية أو خصائص الألوهية أو من خصائص الأسماء والصفات؛ خرج من مقام الشهادة له بالعبادة ، والعبد لا يُعبد . <o:p></o:p> والعبد ( أي كلمة العبد) لها معنيان : عبدٌ بمعنى العابد، وعبد بمعنى المعبَّد . <o:p></o:p> قوله وعباد الرحمن هذا بمعنى العابد (عبدوا الرحمن). وعبد بمعنى المعبَّد أي المذلل ، والخلق كلهم عبيد لله عز وجل ، أي هو ربهم وخالقهم ورازقهم . فنبيُّنا عليه الصلاة والسلام عبدٌ أي مخلوق لله ، عبدٌ أي عابد لله ، وممتثلٌ لأمر الله وكمَّل مقام العبودية ، قال تعالى { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي}. <o:p></o:p> فمن هذا شأنه لا يُعطى شيءٌ من خصائص الرب ؛ ولهذا في حياته صلى الله عليه وسلم أنكر كل ماسمع من ذلك؛ كقوله وإنكاره على الرجل الذي قاله له ما شاء الله وشئت ، فقال له عليه السلام أجعلتني لله نداً . ولما سمع امرأة تمدحه قائلةً وفينا رسول الله يعلم ما في غدٍ ، غضب رسول الله ، وقال لا يعلم ما في غدٍ إلا الله . إذاً من آمن بأنه عبد وحقق مقام هذا الإيمان خرج من طريق الغلاة .<o:p></o:p> ومن آمن بأنه رسول وحقق هذا المقام ، خرج من طريق الجُفاة ، الذين خرجوا من الطاعة والامتثال والاتباع للرسول عليه الصلاة والسلام . اللهم اجعلنا من الذين حققوا شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . <o:p></o:p> *.* <o:p></o:p> <o:p></o:p> |
#2
|
|||
|
|||
بارك الله فيك لك مني اجمل تحيه
__________________
[SIGPIC][/SIGPIC][align=center]قل للئيم الشاتم الصحابه....ياابن الخنا جهراً ولا تهابه السابقون الاولون كالسحابه....تغيث بلقعاً تهرها كلابه الفاتحون الغر أسود الغابه....الله راضٍ عنهم ولتقرؤا كتابه [/align] |
#3
|
|||
|
|||
لا اله الا الله محمد رسول الله
|
#4
|
|||
|
|||
لااله الا الله محمد رسول الله
الحمدلله على نعمة الاسلام |
#5
|
|||
|
|||
__________________
اللهمّ صلّ على محمد عدد ماذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون سلفي سني وهابي وأفتخر
|
#6
|
|||
|
|||
لا اله الا الله محمد رسول الله
شكراً لك أخي أحمد المسلم و بارك الله فيك
__________________
<img src="http://farm3.static.flickr.com/2135/1864576731_39608b3188_o.jpg" height=480 width=640\>
|
#7
|
|||
|
|||
جزاك الله خيرا
|
#8
|
|||
|
|||
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
|
#9
|
|||
|
|||
تفسيرأعظم كلمة ٠ لاإله إلا الله
اقتباس:
مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} آل عمران: 102. {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} الننساء: 1. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً. يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يُطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} الأحزاب: 70-71. أما بعد: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: فإن أشرف وأجل وأعظم كلمة أوحاها الله تعالى على أنبيائه ورسله من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي كلمة التوحيد.. لا إله إلا الله. وأعظم كلمة نطق بها الإنسان منذ أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام وإلى يومنا هذا، وإلى أن تقوم الساعة هي كلمة التوحيد.. لا إله إلا الله. وأفضل الذكر.. لا إله إلا الله. لأجلها خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب! ولأجلها إزّيَّنت الجنان.. واحمرت واسودَّت النيران! ولأجلها شرع الله تعالى الجهاد والقتل والقتال، والسلم والحرب، والولاء والبراء.. وفي سبيلها تُسير كتائب الجهاد والتحرير، ويرخص كل غالٍ ونفيس! هي غاية الغايات.. لا توازيها - فضلاً عن أن تعلوها - غاية أو مصلحة! كلمة تعصم دم صاحبها - في الدنيا - وتقيل عنه العثرات، وترفع عنه السيف عند ورود الشبهات! كلمة بها وعلى أساسها يدخل الناس الجنة أو النار.. فمن وفاها حقها بصدق وإخلاص دخل الجنة، ومن أعرض عنها ولم يوفها حقها، وخالفها دخل النار، وحقت عليه كلمة العذاب. فهي كلمة تنفع صاحبها مهما كان منه من عمل طالح عدا الشرك، ومن دونها لا ينتفع المرء بشيء ولو كان عنده ملء السماوات والأرض من خير وحسنات! وهي كلمة لو وزنت بالسماوات والأرض لرجحت عليهن، ولقسمتهن لا إله إلا الله.. كما في وصية نوحٍ عليه السلام - لما حضرته الوفاة - لابنه: " آمرك بلا إله إلا الله؛ فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهنَّ، ولو أن السماوات السبع والأراضين السبع كنَّ حلقة مبهمةً لقصمتهنَّ لا إله إلا الله.." [1]. ومع ذلك لم تتعرض كلمة - عبر التاريخ وإلى يومنا هذا - إلى التشويه والتحريف والتأويل الفاسد كما تعرضت له كلمة التوحيد.. لا إله إلا الله! فقد تسلطت عليها فِرَق الضلال والأهواء.. ابتداءً من العلمانيين الكافرين، مروراً بالصوفية المنحرفة، إلى أهل الإرجاء والتجهم، إلى بعض جيوب السلفية المعاصرة الذين جندوا أنفسهم وعلمهم للذود عن الولاة والسلاطين المجرمين! فقد أفرغوها - بكيدهم ومكرهم وتأويلاتهم الفاسدة الباطلة - من دلالاتها ومعانيها ومقاصدها.. وتعاملوا معها مجرد أحرف تردد على الألسن، مع طقطقة حبات المسبحة، في زوايا المساجد.. من دون أن تلامس حرارة القلوب، أو أن يكون لها أثراً فاعلاً في واقع حياة الناس وعملهم! لم يتعاملوا معها كما أُريد لها أن تكون.. منهج حياة، منهجاً متكاملاً في التغيير؛ تغيير المجتمعات من أوحال الشرك إلى نور التوحيد، ومن ظلم الجاهلية إلى عدل الإسلام، ومن العبودية للمخلوق - أياً كان هذا المخلوق - إلى عبادة الله تعالى وحده. أفرغوها من حقيقتها وحيويتها ومن الغاية التي أنزلت لأجلها.. وصوروها للناس على أنها مجرد أحرف باردة يتبرك بها عند الذكر أو التلاوة، لا مساس لها بواقعهم وحياتهم وأعمالهم.. ولا ينبغي لها أن تكون! قلها ولو باللسان مرة.. وليكن منك بعدها ما يكون من عمل.. والتكن بعدها كالوحش الداشر المتمرد على الطاعة والعبودية! قلها مرةً.. تكن من أهل النجاة والإيمان - في الدنيا والآخرة - وإن لم تعمل بها ولا بشيء من أركان الدين وواجباته! قلها مرةً.. واعبد بعدها ما تشاء من الآلهة، والأصنام، والطواغيت الآثمين! وما دمت قد قلتها - ولو مرة في العمر - فأنت في حصنٍ منيع من التكفير، ومن دخول النار.. وأنت فوق أن يُشكك بك وبدينك وإيمانك مهما كان منك من عمل! هكذا قالوا ويقولون للناس، فانعكس ذلك دماراً وسلباً على دينهم، وعبادتهم، وحياتهم.. فالناس في وادٍ وحقيقة هذا الدين في واد آخر، ومع ذلك فإن كثيراً منهم - بحكم تلبيس مرجئة العصر عليهم - يحسبون أنهم يُحسنون صنعا! فحظهم من الدين والتوحيد أنهم يتلفظون - مجرد تلفظ - بشهادة التوحيد في المناسبات وكلما طُلب منهم ذلك.. ومن دون أن يدروا شيئاً عن معانيها أو شروطها ولوازمها، أو يُلزَموا في واقع حياتهم وعملهم بشيءٍ من ذلك! ولما أصبح الأمر بهذه السهولة، وبهذا التسيب والهزل واللامبالاة.. هان على الجميع التلفظ والتستر بها، والإتيان بها كلما طُلبت منهم.. فطواغيت الحكم يتلفظون بها.. والزنادقة الباطنيين يتلفظون بها.. والعلمانيون يتلفظون بها.. وأهل الشرك من عبدة الأوثان يتلفظون بها.. حتى الشيوعيين الملحدين فإنهم يتلفظون بها.. بل ما من كافر وفاجر إلا ووجدناه يتلفظ بها.. وإذا تخاصم اثنان من أهل الفجور قال أحدهما للآخر - على وجه السب والإسكات - وحد الله يا زلمة.. أي اسكت، وكفَّ خصامك! هكذا يتعامل الناس - إلا من رحم الله - مع التوحيد، وهكذا تُذكر لا إله إلا الله! وهؤلاء كلهم كما يصور لهم أهل الإرجاء والتجهم - قاتلهم الله! - أنهم مسلمون مؤمنون، ومن أهل الجنة ولا بد.. لا يجوز لأحدٍ الخوض في صحة إيمانهم وإسلامهم، أو رمي بعضهم بالكـفر.. وأيما امرئٍ يفعل فهو عندهم من الخوارج وغلاة التكفيريين! معتمدين في ذلك على نصوص - لا حجة لهم فيها وهي عليهم لا لهم - يضعونها في غير موضعها، ويُنزلونها في غير منزلها الصحيح، ويحملونها من المعاني والتأويلات الفاسدة الباطلة ما يُخرجها عن دلالتها الشرعية التي أرادها الشارع عز وجل منها! من هذه النصوص التي سلطوا أهواءهم وأفهامهم السقيمة عليها، قوله صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله دخل الحنة ". فقالوا هذا نص في المسألة يفيد أن من أتى بالقول - مجرد القول - فهو من أهل الجنة! واستدلوا كذلك بحديث البطاقة الصحيح والذي جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعةً وتسعين سجلاً، كل سجلٍّ مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ يقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيُخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة، وما هذه السجلات؟! فقال: فإنك لا تُظلم. قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء " [2]. فقالوا - أي مرجئة العصر -: هذا دليل على صحة مذهبنا وقولنا.. وعلى فساد قول مخالفينا في المسألة! أقول: وهذا كله ليس لهم به حجة، بل هذه النصوص - كما سيظهر للقارئ - هي حجة عليهم وليست لهم! لذا من قبيل الرد على هذه الشبهة وغيرها من الشبهات التي ينثرها المرجئة وغيرهم بين عوام الناس وجهلتهم.. وقبل أن نُشرع في بيان شروط لا إله إلا الله التي لا بد من استيفائها وتحققها.. لا بد أولاً من ذكر بعض المقدمات الهامة الضرورية كتمهيدٍ ضروري بين يدي هذا البحث، التي توضح كثيراً من المعاني - ذات العلاقة بموضوع البحث - التي ينبغي للقارئ أن يعرفها ويتنبه لها. راجياً من الله تعالى السداد والتوفيق والقبول.. إنه تعالى سميع قريب مجيب. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم. [1] صحيح الأدب المفرد: 426. [2] أخرجه الترمذي، وابن ماجة، صحيح سنن الترمذي: 2127 . معنى لا إله إلا الله لا إله إلا الله تعني: أن لا مألوه ولا معبود بحق في الوجود إلا الله تعالى.. فهي تقوم على ركنين أساسيين: ركن يتضمن جانب النفي المطلق لوجود الآلهة التي تستحق أن تُعبد في شيء، وهو المراد من الشطر الأول من الشهادة " لا إله..". وركن آخر يتضمن جانب الإثبات؛ إثبات أن المعبود بحق هو الله تعالى وحده، وهو المراد من الشطر الثاني من الشهادة " إلا الله..". نفي أعقبه استثناء " إلا.." يُفيد غاية الحصر والقصر على أن المعبود بحق هو الله تعالى وحده لا شريك له. وهذا التعريف نسجل عليه الملاحظات والتعليقات التالية: 1) من أتى بجانب النفي من الشهادة دون جانب الإثبات لا يكون مؤمناً، ومن أتى بجانب الإثبات دون جانب النفي لا يكون مؤمناً كذلك، ولا يكون المرء مؤمناً حتى يأتي بالركنين معاً: النفي والإثبات اعتقاداً، وقولاً، وعملاً ظاهراً وباطناً. كما قال تعالى عن أصحاب الكهف: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف..} الكهف: 16. فهم أتوا بالركنين معاً: اعتزال المشركين وما يعبدون من طواغيت وآلهة مزيفة كاذبة.. إلا الله فهم لم يعتزلوا عبادته عز وجل لأنه الإله الأوحد المستحق للعبادة، الذي يجب أن تُصرف له الطاعة والعبادة. وكذلك قال تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} الزخرف: 26-27. وقال تعالى: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون. أنتم وآباؤكم الأقدمون. فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} الشعراء: 75-77. فهو عليه السلام يُعلن عداوته واعتزاله لجميع الآلهة التي تعبد إلا الله تعالى المعبود بحق فإنه داخل في عبادته وموالاته وحده. وهذه الآيات وغيرها تفيد أن المشركين من قبل كانوا يعبدون الله تعالى ولكن كانوا يُشركونه في العبادة مع آلهة أخرى.. لذا لو جاء البراء مطلقاً مما يعبدون من دون استثناء الخالق عز وجل المستحق للعبادة لعم البراء من جميع ما يعبدون: الله تعالى.. والآلهة الأخرى ! 2) قولنا " بحق " لتخرج بهذا الضابط الهام الآلهة الكاذبة التي تُعبد من دون الله بغير وجه حق عن وصفها وكونها آلهة تستحق أن تُعبد.. فهي إذ تُعبد من دون الله تعالى؛ تُعبد كآلهة مزيفة لا تستحق أن يُصرف إليها شيء مما يدخل في معنى العبادة، لأنها لا تملك حقيقة الخصائص والصفات التي ترقى بها إلى مستوى الألوهية والتي لأجلها يجوز أن تُصرف إليها العبادة من دون أو مع الله تعالى. وبالتالي فإن قيل: يوجد في الوجود آلهة وطواغيت تُعبد من دون الله تعالى؟! نقول لهم: توجد آلهة لكنها لا تملك خصائص وصفات الإلهية.. وبالتالي هي إذ تُعبد تُعبد بالباطل وبغير حق، وشهادة التوحيد لا تنفي مطلق الآلهة من الوجود، وإنما تنفي مطلق الآلهة التي تستحق وصف الإلهية، التي تستحق أن تُعبد من دون - أو مع - الله تعالى. فالشطر الأول من شهادة التوحيد لا إله.. أي لا إله بحق إلا الله.. فهو الإله الحق الذي يملك خصائص وصفات الإلهية، والذي يستحق أن يُعبد وحده لا شريك له، والذي يجب على العباد أن تصرف إليه عز وجل جميع ما يدخل في معنى العبادة الشرعية. 3) بهذا التعريف والتفسير لشهادة التوحيد ندرك فساد من يُعرِّف - وما أكثرهم في زماننا - شهادة التوحيد ويُفسرها بتوحيد الربوبية فقط؛ كقولهم معناها: لا خالق ولا ضار ولا نافع، ولا رازق، ولا مميت، ولا محيي، ولا مالك إلا الله عز وجل! وهذا المعنى وإن كان حقاً من جهة أن الله تعالى هو المتصف بجميع ما تقدم، إلا أنه ليس هو المعنى المراد وحده من شهادة التوحيد لا إله إلا الله! بل هذا المعنى كان المشركون من قبل يقرون به، ولا يُخالفون عليه الأنبياء، وإنما خالفوهم في الإله المستحق للعبادة، حيث صرفوا العبادة لآلهتهم وطواغيتهم وأصنامهم من دون الله تعالى مع علمهم وإقرارهم أن الخالق والمالك والضار والنافع هو الله وحده! لأجل ذلك كانوا كفاراً ومشركين، استحقوا الجهاد والقتال من قِبل الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم. كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنَّ الله} لقمان: 25. وقال تعالى: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون} المؤمنون: 84-85. ومع ذلك كانوا مشركين من جهة صرف العبادة لغير الله تعالى. وعليه من أتى بشهادة التوحيد وأراد منها هذا الجانب فقط لا يكون قد شهد شهادة التوحيد بحق كما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والتي تنفعه يوم القيامة.. وهو لا شك من المشركين. 4) شهادة التوحيد لا إله إلا الله تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات [8]. 5) مما يُلفت النظر في هذا الزمان.. أن كثيراً من الناس - ومنهم بعض الطواغيت - قد حفظوا التعريف السابق لشهادة التوحيد، حتى ما إن تسأل أحدهم عن معنى شهادة التوحيد إلا ويجيبك بسرعة ومن دون أدنى تلكؤ أو تردد: لا معبود بحق إلا الله! يأتون بهذا التعريف الصحيح من دون أن يعرفوا دلالاته ومعانيه، وما يترتب عليه من التزامات وتبعات! يأتون بهذا التعريف.. وهم بنفس الوقت يعبدون ويوالون آلهة أخرى مع الله تعالى! يأتون بهذا التعريف.. وهم أنفسهم يكونون آلهة مع الله أو من دونه! يأتون بهذا التعريف باللفظ فقط.. ليسلموا من مؤاخذة الآخرين لهم، وحتى لا يصفوهم بالجهل وعدم علمهم بالتوحيد! وهؤلاء مثلهم مثل من يأتي بشهادة التوحيد وهو لا يعلم معناها.. أو من يأتي بها وهو لا يلتزم بشيء من لوازمها ومتطلباتها! وهؤلاء لا ينتفعون بشيءٍ من شهادة التوحيد ولا من حفظهم لتعريفها، وهم لا يسلمون من المؤاخذة والمساءلة في الدنيا ولا في الآخرة! [8] زعم المشاغبون من أهل الإرجاء أن دعاة التوحيد في هذا الزمان قد أتوا بقسم رابع للتوحيد ما سبقهم إليه أحد، وأسموه توحيد الحاكمية!! أقول: هذا افتراء وظلم له ما بعده.. أرد عليه من أوجه: منها: أن هذا النوع من التوحيد المسمى بتوحيد الحاكمية حق لا يصح إيمان ودين المرء إلا به، ومعناه إفراد الله تعالى وحده في الحكم والتشريع؛ فله تعالى الحكم القدري والشرعي لا يُشركه في ذلك أحد من خلقه، فكما أن الخلق والتدبير كله لله، كذلك فإن الحكم والأمر كله لله تعالى.. وهذا المعنى قد دلت عليه كثير من نصوص الشريعة، كقوله تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} . وقال تعالى: {ولا يُشرك في حكمه أحداً} . وقال تعالى: {والله يحكم لا معقب لحكمه} . وقال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماًً لقومٍ يوقنون} . وقال تعالى: {إن الله يحكم ما يريد} . وقال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيءٍ فحكمه إلى الله} . وقال تعالى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} . وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} . وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله هو الحكَمُ، وإليه الحكم ". وغيرها كثير من النصوص الشرعية التي تدل على هذا النوع من التوحيد.. فمن رده رد الإيمان كله، ولزمه أن يرد جميع هذه النصوص المتقدمة الذكر وغيرها. ومنها: أن ما تقدم لا يعني ولا يستلزم اعتبار توحيد الحاكمية قسم رابع إضافة إلى أقسام التوحيد الثلاثة المعروفة، ولا أحد يقول بهذا.. وإنما الجميع يُدرجونه في توحيد الإلهية، ومنه ما يدخل في توحيد الربوبية، ومنه ما يدخل في توحيد الأسماء والصفات.. ولكن لما كثر الشرك في الأمة من جهة حكمها بغير ما أنزل الله، واحتكامها إلى شرائع الطاغوت.. تعين تنبيه العباد إلى هذا النوع من التوحيد وتخصيصه بالذكر. وهو كقول القائل للناس عليكم بتوحيد الطلب والدعاء، أو توحيد المحبة والطاعة، أو توحيد التذلل والخضوع لله تعالى وغير ذلك.. عندما يجد الناس قد وقعوا في الشرك والتفريط من جهة هذه الأشياء. فهذا قول حق، وكتب أهل العلم مليئة بمثل هذه الاطلاقات والتعابير.. ولكن لا أحد يقول: قد أتوا بتوحيد رابع أو خامس أو سادس.. فأقوالهم لا تخرج عن كونها مستمدة من أقسام التوحيد الثلاثة المعروفة، والذي حملهم على هذا التفصيل والتخصيص في الذكر هو لبيان الأهمية، ولحاجة الناس إلى ذلك، ومثل هذا لا ضير فيه إن شاء الله. كثير من الناس في هذا الزمان لو قلت لهم: عليكم بتوحيد الألوهية لا يعرفون ما تعني وما تريد منهم.. مما يحملك أن تفصل لهم وتقول: عليكم بتوحيد الدعاء والطلب والقصد.. عليكم بتوحيد المحبة.. فالمحبوب لذاته هو الله تعالى وحده لا سواه.. عليكم بتوحيد الطاعة.. وهكذا كذلك توحيد الحاكمية، وجعل الحكم لله وحده عندما تجد الناس قد انصرفوا عن الحكم بشرع الله تعالى إلى الحكم بشرائع الكفر والطاغوت! ومنها: إذا عرفت ما تقدم عرفت أنه لا مبرر لذلك الشغب الكبير الذي يثيره أهل الإرجاء في هذا العصر.. سوى أنهم يريدون أن يُقللوا من أهمية هذا النوع من التوحيد والإيمان، ليصرفوا الناس عنه! وهم يريدون أن يقولوا للناس كذلك: أن هذا الإجرام الذي يمارسه طواغيت الحكم من جهة حكمهم بغير ما أنزل الله، واستبدالهم لشرع الله تعالى بشرائع الكفر.. لا يُناقض التوحيد، ولا دخل له في العقيدة لأنه لا يندرج تحت أي قسم من أقسام التوحيد الثلاثة المعروفة، كما أنه لا يوجد شيء اسمه توحيد الحاكمية.. وبالتالي لا يجوز أن نرميهم بالكفر أو الخروج عن الدين!! فهم لا يريدون من وراء هذه الإثارة الجدال العلمي أو معرفة الحق.. وإنما أرادوا بذلك أن يجادلوا عن الطواغيت، ويقللوا من إجرامهم، ويُزينوا حالهم وحكمهم الباطل في أعين الناس.. وبخاصة أن أكثر هؤلاء الذين يثيرون الشغب حول هذه المسائل تجدهم إن فقدتهم جالسين على عتبات الطواغيت ينتظرون الفتات والعظام أن تُرمى لهم! ومما يُذكر في هذا المجال أنني ابتليت مرة بمجالسة أحد هؤلاء.. وكان مما قلت وحذرت منه: شرك القصور.. فما كان من جليسنا إلا أن انبرى معترضاً وقائلاً: من أين أتيت بهذا الشرك.. شرك القصور.. وما الدليل عليه.. نحن نعرف فقط شرك القبور.. لم نسمع من مشايخنا من حدثنا عن شرك القصور؟! فقلت له: ومن أين لك الدليل على شرك القبور؟! فقال: لما عبد الناس القبور من جهة الدعاء والتبرك والاستغاثة.. وهذا شرك.. فتعين تنبيه الناس من شرك القبور. فقلت له: قولك حق.. ولكن قل في القصور ما قلته في القبور! قال: ومن أين تُعبد القصور حتى نقول فيها ما قلناه في القبور؟ فقلت له: القصور تُعبد من دون الله من جهة احتكام العباد إلى ما يصدر عنها وعن ساكنيها من الطواغيت من أحكام وتشريعات تضاهي وتضاد شرع الله تعالى! وهي تعبد كذلك من جهة طاعة ساكنيها من الطواغيت لذواتهم في كل ما يصدر عنهم من أوامر وتعليمات.. بغض النظر عن مدى موافقتها للحق أو مخالفتها له. وهي تُعبد كذلك من جهة موالاتها وموالاة ساكنيها من الطواغيت والذود عنهم وعن سياساتهم وأنظمتهم الباطلة حتى الممات! فتأمل هذه الكلمات والعبارات التي ألفنا سماعها من القوم ومن وسائل إعلامهم: حراس القصر.. جنود القصر.. خدام القصر.. تقديم الطاعة والولاء للقصر.. سياسة القصر.. هذا ما صدر عن القصر.. أمن وسلامة القصر.. ميزانية القصر.. وغيرها من العبارات التي لو دققت فيها لوجدت الشرك يفوح من كل كلمة من كلماتها بل وكل حرف من أحرفها! وهي تُعبد كذلك من جهة الخوف والخشية منها ومن ساكنيها من الطواغيت.. فكثير من الناس يخشون القصور أكثر مما يخشون القبور!! وهي تعبد كذلك عندما تتعلق بها القلوب المريضة.. تستشرف وتنتظر ما يُرمى إليها من عطاء أو فُتات!! فهذه وجميع ما تقدم هو من العبادة، وهو من الشرك عندما يُصرف لغير الله تعالى.. فبهت المرجئ وما نطق! معنى الشرط الشرط: عرف الأصوليون الشرط بأنه هو ما يتوقف وجود الشيء على وجوده، ولا يلزم من وجوده وجود الشيء، لكن يلزم من عدمه عدم ذلك الشيء. فشهادة التوحيد من شروطها مثلاً: النطق والإقرار؛ لا تتحقق ولا تصح لا إله إلا الله إلا به، ولا يلزم من وجوده منفرداً - من دون بقية الشروط والأركان - وجود وتحقق لا إله إلا الله، ولكن عدم وجود هذا الشرط وغيابه يستلزم غياب وانتفاء لا إله إلا الله كلياً. وهكذا بقية شروط لا إله إلا الله - التي سنأتي على ذكرها بالتفصيل إن شاء الله - فوجودها شرط لصحة التوحيد، وشرط لوجوده إذا انتفى واحد منها انتفت معه لا إله إلا الله مباشرة، وانتفى الانتفاع بها، ولكن وجود هذا الشرط منفرداً لا يستلزم ولا يُفيد تحقق ووجود لا إله إلا الله.. ولتحققها وتحقق الانتفاع بها لا بد من استيفاء جميع شروطها وأركانها من دون انتقاص شيءٍ منها. وإليك الآن الحديث مفصلاً عن شروط لا إله إلا الله.. وهو ما دعوناك لأجله في هذا المبحث الهام. الشرط الأول: النطق والإقرار شروط لا إله إلا الله : لا إله إلا الله لها شروط عدة، لا يصح إيمان صاحبها إلا بها وهي: الشرط الأول: النطق والإقرار : حيث لا بد للمرء ابتداءً إن أراد الدخول في الإسلام، وأن يُجرى عليه حكمه ووصفه.. من أن يقر لفظاً بشهادة التوحيد، وصيغتها " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ". ومن أبى - مع القدرة - أن يقر بالشهادة لا يكون مسلماً معصوم الدم بالإسلام، كما في الحديث عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: لما حضرَت أبا طالب الوفاةُ، جاءه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عم قُل لا إله إلا الله، كلمة أشهدُ لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعرضها عليه ويُعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنهَ عنك " فأنزل الله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أُولي قُربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم}، وأنزل الله تعالى في أبي طالب قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنك لا تهدي مَن أحببتَ ولكن اللهَ يهدي من يشاء وهو أعلمُ بالمهتدين} . متفق عليه. ومن حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: " قل لا إله إلا الله أشهدُ لك بها يوم القيامة " قال: لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك! فأنزل الله: {إنك لا تهدي من أحببت ولكنَّ الله يهدي من يشاء} [9]. وقال صلى الله عليه وسلم: " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام وحسابهم على الله " متفق عليه. قال النووي في الشرح 1/212: فيه أن الإيمان شرطه الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما واعتقاد جميع ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم . اهـ. وقال ابن تيمية في الفتاوى 7/609: الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهيره علمائها. اهـ. قوله " مع القدرة " ليخرج بهذا القيد العاجز كالأبكم الذي لا يقدر على الكلام.. لأن العجز الذي لا يمكن دفعه يرفع التكليف عن صاحبه باتفاق جميع أهل العلم. قلت: من لوازم هذا الشرط التكفير بالقول.. فكما أن الإيمان يكون بالقول وغيره كذلك الكفر يكون بالقول وغيره. ولم يُخالف في هذا الشرط إلا جهم الضال وأتباعه الذي حصروا الإيمان في التصديق القلبي ولم يشترطوا لصحته النطق، مما حملهم ذلك على القول الآخر المعاكس وهو أن الكفر كذلك يكون محصوراً بالتكذيب القلبي وحسب، فأخرجوا بذلك إمكانية أن يكون الكفر بالقول فضلاً عن أن يكون بالعمل! وهذا القول رغم فساده وبطلانه ومخالفته للنصوص الشرعية الظاهرة المتواترة، ولما عليه عقيدة أهل السنة والجماعة فقد تأثر به عدد كبير من طلاب العلم المعاصرين ممن ينسبون أنفس زوراً وبهتاناً للعقيدة السلفية أو المنهج السلفي - والسلفية منهم براء - وغيرهم ممن تأثر بالمدرسة الإرجائية التي تؤصل لعقيدة الإرجاء في الإيمان والوعد والوعيد، كما هو حال كثير من المدارس والجامعات العلمية المعاصرة والموجودة في أمصار المسلمين [10]! وبشيءٍ من المتابعة والتدقيق يجد المرء أن حقيقة هؤلاء ليسوا جهميين في مسائل الكفر والإيمان سواء، بل هم إذا طرحت عليهم مسائل الكفر.. متى يكون المرء كافراً ومتى لا يكون، تراهم يجنحون ويميلون إلى عقيدة جهم في الإيمان والتي مفادها أن من يأتي بالتصديق القلبي فهو مؤمن مهما كان منه من عمل.. أو تلفظ بالكفر! فإذا قيل لهم هذا كافر لتصريحه بالكفر، ولشتمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والدين.. يقولون لك: هل استحل هذا الكفر في قلبه، المهم عندنا سلامة الاعتقاد والتصديق، فهذا كفر في ظاهره لا في باطنه.. ونحن لا سبيل لنا إلى باطنه واعتقاده.. لذا لا مناص من الحكم عليه بالإيمان؛ فهو مؤمن لا يجوز تكفيره مهما أتى بالاطلاقات والكلمات المكفرة..ما لم تكن هذه العبارات والاطلاقات تعبيراً صريحاً يدل على الكفر أو التكذيب القلبي! وإذا نوقشت معهم مسائل الإيمان، ومتى يكون المرء مؤمناً ومتى لا يكون.. تراهم يجنحون ويميلون إلى عقيدة مرجئة الكرامية؛ والتي مفادها أن من أتى بالإقرار فهو مؤمن وإن كان في باطنه منافقاً كافراً لم يأتِ بالتصديق والاعتقاد [11]! فإذا قيل لهم هذا شيوعي ملحد يعتقد الكفر والإلحاد وهو كافر حتى على أصول شيخكم الأول جهم بن صفوان الضال.. قالوا لك: إنه يشهد أن لا إله إلا الله.. كيف نكفر من قال لا إله إلا الله.. وكيف تريدنا أن نحكم عليه بالكفر، وظاهره يدل على الإيمان.. فنحن أُمرنا أن نحكم على الظاهر والله يتولى السرائر.. ولم نؤمر بشق البطون والتنقيب عما فيها! وإذا قيل لهم عن طاغوت من الطواغيت أنه يُظهر الكفر البواح.. اعترضوا عليك بعقيدة جهم.. وإذا قيل لهم عن طاغوت من الطواغيت هاقد أتاكم بالتكذيب والاستحلال القلبي للكفر.. اعترضوا عليك بعقيدة مرجئة الكرامية الضلال! فهم باطنيون جهميون إذا أتاهم من كان ظاهره الكفر البواح، ظاهريون كرَّاميون إذا أتاهم من كان باطنه الكفر والإلحاد لكنه يُظهر الشهادة ويُجريها على لسانه لو طُلبت منه!! وهؤلاء من أشر وأخبث ما ابتليت بهم الأمة والدعوة الإسلامية في قرنها المعاصر.. بحكم ما أتوا من قدرة على التلبيس والتضليل، وكثيراً منه ما يكون أحياناً باسم السلفية، أو باسم أهل السنة والجماعة لتروج أفكارهم على عوام الناس وجهلتهم.. والسلفية الحقَّة، وأهل السنة والجماعة منهم ومن أقوالهم براء كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام! مسألة: هل يُجزئ عن شهادة التوحيد شيء؟ الراجح أن المرء لا يُجزئه شيء عن التلفظ بشهادة التوحيد إلا الصلاة، فمن رؤي يُصلي ولم يُعلم عنه من قبل التلفظ بشهادة التوحيد، يُحكم عليه بالإسلام، وتُجرى عليه أحكامه ومتعلقاته من حقوق وواجبات، لورود النص في ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: " من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ذمة الله وذمة رسوله " البخاري. قال القرطبي في كتابه الجامع 8/207: الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة، قال إسحاق بن راهويه: ولقد أجمعوا في الصلاة على شيءٍ لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع، لأنهم بأجمعهم قالوا: مَن عُرف بالكفر ثم رأوه يُصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة ولم يعلموا منه إقراراً باللسان أنه يحكم له بالإيمان، ولم يحكموا له في الصوم والزكاة بمثل ذلك اهـ. فإن قيل: قد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد رضي الله عنه لما قتل أولئك الذين قالوا صبأنا، أرادوا الإسلام ولكن أخطأوا التعبير فبدلاً من أن يقولوا أسلمنا قالوا صبأنا.. فاعتبر ذلك عاصماً لدمهم فكيف نوفق بين ذلك وبين ما تقدم من أن المرء لا يدخل الإسلام إلا بالشهادة أو الصلاة؟ أقول: يوجد فرق بين الصيغة أو الشيء الذي يُدخل صاحبه الإسلام، وبين الصيغة أو الشيء الذي يرفع عن صاحبه السيف عند شروع القتال، وورود الظن. فالذي يُدخل صاحبه الإسلام هو ما تقدم ذكره وبيانه، أما الذي يرفع عن صاحبه السيف هو كل قرينة أو تعبير ينم على أن صاحبه يريد الإسلام، أو أنه مسلم لكن لم يُحسن التعبير عن ذلك، كقوله السلام عليكم ورحمة الله، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا} النساء: 94. أي تبتغون من وراء قتله سلبه والغنيمة، فلا يحملنكم ذلك على قتله قبل أن تتبينوا وتتثبتوا منه ومن إسلامه أو رغبته في دخول الإسلام {فعند الله مغانم كثيرةٌ كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم فتبينوا} أي فتثبتوا.. وهذا التكرار في آية واحدة لكلمة " فتبينوا " هو للتوكيد ولبيان أهمية الأمر. فهذا التعبير ونحوه يرفع عنه السيف إلى حين التثبت، لكن ليس هو التعبير الصحيح الذي يُدخله الإسلام.. فتنبه لذلك. كما أن هذا التعبير ونحوه إن ألقي على المسلمين في ديار الكفر من رجل معين فهو مدعاة لتحسين الظن به وعدم التسرع في إطلاق حكم الكفر عليه، فالتكفير كالقتل، كما في الحديث: " تكفير المسلم كقتله ". وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فهو كقتله " متفق عليه. و" قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " [12]. لذا فإن الذي يتسرع في إطلاق حكم الكفر عليه قبل أن يتبين أو يتثبت من حاله ومدى صدقه، كالذي يتسرع في قتله وسفك دمه من قبل أن يتبين أو يتثبت، لما يتبع التكفير من تبعات وآثار خطيرة لا تُحمد عواقبها، ولا تقل خطورة عن وزر سفك دمه بالحرام. المسألة الثانية: فيمن كان كفره من غير جهة الامتناع عن النطق بشهادة التوحيد، أينفعه النطق بشهادة التوحيد؟ الجواب: من كان كفره من غير جهة الامتناع عن النطق بالشهادة، كأن يكون مثلاً جاحداً لأمرٍ معلوم من الدين بالضرورة، فشهادة التوحيد والتلفظ بها لا تنفعه إلا بعد أن يقلع عما كان سبباً في كفره أو خروجه من الإسلام. فلو قال مثلاً صوم رمضان غير واجب، أو لم يُشرع صومه.. فهو يكفر بذلك، ولا ينفعه لو تلفظ بشهادة التوحيد قبل أن يقلع عن جحوده لفرضية صوم رمضان؛ لأن كفره لم يكن من جهة امتناعه عن التلفظ بالشهادة، فهو كان يتلفظ بالشهادة قبل جحوده لرمضان وبعده.. وكذلك الطاغوت المستبدل لشرع الله تعالى، المحارب لأوليائه ودينه.. فهو كافر بذلك، ولو أتى بالشهادة على وجه العادة - على مدار الساعة - لا تنفعه؛ لأنه لا يزال متلبس في الناقضة التي كانت سبباً في خروجه من الإسلام، وهذا وأمثاله لكي تقبل توبتهم، ويدخلوا في دين الإسلام من جديد لا بد مع التلفظ بالشهادة من الإقلاع والتوبة وإعلان البراءة من السبب الذي أدى بهم إلى الكفر والخروج من دائرة الإسلام. وهذا مثل تقيس عليه جميع الحالات الأخرى التي تكون سبباً في كفر صاحبها وخروجه من دائرة الإسلام. فإن أبا بكرٍ ومعه جميع الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا جاحدي الزكاة على أنهم مرتدون مع أنهم كانوا يقولون لا إله إلا الله، ويشهدون أن محمداً رسول الله.. قال الشيخ الكشميري في كتابه إكفار الملحدين: من كان كفره بإنكار أمر ضروري كحرمة الخمر مثلاً، أنه لا بد من تبرئه مما كان يعتقده، لأنه كان يقر بالشهادتين معه، فلا بد من تبرئه منه، كما صرح به الشافعية، وهو ظاهر " رد المحتار " من الارتداد، وفي جامع الفصولين، ثم لو أتى بكلمة الشهادة على وجه العادة لم ينفعه ما لم يرجع عما قال، إذ لا يرتفع بها كفره. انتهى. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: فمن عبد الله ليلاً ونهاراً ثم دعا نبياً أو ولياً عند قبره فقد اتخذ إلهين اثنين ولم يشهد أن لا إله إلا الله؛ لأن الإله هو المدعو.. ومن رفع رجلاً في رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل دمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة [13] اهـ. مراده أن الشهادتان لا تنفعه ولا تمنع عنه حكم الكفر والردة حتى يُقلع عن السبب الذي أدى به للخروج من دائرة الإسلام. [9] أخرجه مسلم. أقول: عدم إيمان أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم .. فيه آية عظيمة من آيات الله تعالى لمن تدبرها وعقلها، وذلك أن القائم على دعوة أبي طالب إلى الإسلام كان شخص النبي صلى الله عليه وسلم ذاته.. فرغم ما أوتي صلى الله عليه وسلم من علم وحكمة وخلق عظيم، ورغم إلحاحه الشديد على عمه أن يقبل منه الهداية.. إلا أنه لم يتمكن من تحقيق ذلك، ويأبى الله تعالى إلا أن يُميت أبا طالب على الكفر وملة الشرك!! وذلك ليعلم الجميع أن الأمر كله بيد الله تعالى وحده لا يُشركه فيه أحد، فهو وحده سبحانه يهدي من يشاء، ويُضل من يشاء.. وهذا ليس لأحدٍ سواه، حتى نبينا صلى الله عليه وسلم - على ما أوتي من فضل وعلم - لا يملك أن يهدي أحداً إلا أن يشاء الله له الهداية، كما قال تعالى: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم} آل عمران: 128. فنبينا صلى الله عليه وسلم ليس له إلا هداية البيان والإرشاد، أما هداية التوفيق فهي لله تعالى وحده. [10] قد بحثنا فساد هذا القول مفصلاً بالأدلة الشرعية في كتابنا " الانتصار لأهل التوحيد.."، وكذلك كتاب " تهذيب شرح العقيدة الطحاوية.." انظرهما إن شئت. [11] عرفنا ذلك منهم من كتاباتهم التي كثرت في الآونة الأخيرة.. وكذلك من خلال مناقشاتنا لهم، واحتكاكنا بهم وبمن تأثر بقولهم الباطل. ومما يُذكر في هذا المقام ما نقله الشيخ محمد قطب - حفظه الله - في كتابه القيم " لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة " ص158، عن أحد هؤلاء حيث يقول: وإن كنت ما زلت أعجب لرجل - طيب مفرط في الطيبة رحمه الله - قال ذات يوم وهو في موضع قيادي من العمل الإسلامي: لا نكفر أحداً قال لا إله إلا الله ولو كان شيوعياً! رحم الله القائل وغفر له! اهـ. فتأمل، فإذا كان هذا في موقع القيادة للعمل الإسلامي يقول مثل هذا القول الذي هو عين مذهب مرجئة الكرامية..فكيف بالأتباع والرعاع ممن يقلدونه من غير بصيرة أو دليل..؟!! وإن كان لنا عتب فعتبنا على الشيخ - حفظه الله - كيف يكرر هذا الترحم الذي يُستفاد منه التهوين من خطأ وجرم ذاك المدعو والمعروف بأنه رجل قيادي في العمل الإسلامي الذي لا يكفر الملحد الشيوعي لكونه يُظهر - ولو لمرة واحدة في العمر - شهادة التوحيد..؟!! وكان ينبغي للشيخ في أقل الأحوال أن يذكر مقولة الرجل الشنيعة لكن لا بمدح له ولا ذم، ولا دعاء له ولا دعاء عليه!! قال ابن تيمية في مرجئة الكرامية كما في الفتاوى 7/548: الكرامية أصحاب محمد بن كرام يزعمون أن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب اهـ. وقد عدهم من فرق المرجئة! [12] أخرجه النسائي وغيره، صحيح الجامع: 4361. [13] الرسائل الشخصية: ص166، ومجموعة التوحيد: ص82. الشرط الثاني: الكفر بالطاغوت من شروط صحة التوحيد الكفر بالطاغوت، إذ لا إيمان إلا بعد الكفر بالطاغوت ظاهراً وباطناً، وإليك الدليل على صحة هذا الشرط: قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} البقرة: 256. والعروة الوثقى هنا كما نص على ذلك أهل العلم والتفسير هي: شهادة أن لا إله إلا الله؛ أي من أتى بالكفر بالطاغوت ثم أتبعه إيماناً بالله تعالى فهو الـذي يكون قد استمسك بالعروة الوثقى " لا إله إلا الله ". أما من لم يكفر بالطاغوت وإن آمن بالله تعالى لا يكون قد استمسك بالعروة الوثقى، ولا ممن وفوها حقها وشروطها. قال ابن كثير في التفسير: أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يُعبد من دون الله، ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أي فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم.. فقد استمسك من الدين بأقوى سبب، وشُبه بالعروة الوثقى التي لا تنفصم في نفسها محكمة مبرمة قوية، وربطها قوي شديد. قال مجاهد: العروة الوثقى يعني الإيمان. وقال سعيد بن جبير والضحاك: يعني لا إله إلا الله.. اهـ. ولا تنافي بين هذه الأقوال ولله الحمد. وقال القرطبي في التفسير: قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله} جزم بالشرط.. وقوله تعالى: {فقد استمسك بالعروة الوثقى} جواب الشرط.. اهـ. وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل: 36. فهذه هي مهمة الأنبياء والرسل على مدار الزمن، ومهمة وغاية كل من سار على نهجهم وطريقهم من الدعاة إلى الله تعالى. وفي الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال لا إلـه إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ". فقوله صلى الله عليه وسلم: " وكفر بما يُعبد من دون الله " هو الكفر بالطاغوت.. فإن قيل: شهادة لا إله إلا الله يتضمن شطرها الأول المتضمن للنفي " لا إله.." جانب الكفر بالطاغوت، فعلام خص ثانية بالذكر كما ورد في الحديث الآنف الذكر؟ أقول: ذلك لتوكيد الأمر وبيان أهميته، كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: فقوله " وكفر بما يعبد من دون الله تأكيد للنفي، فلا يكون معصوم الدم والمال إلا بذلك، فلو شك أو تردد لم يعصم دمه وماله.. واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمناً إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} [14]. وكونه غير معصوم المال والدم لهو دليل صريح على عدم إيمان من لم يكفر بالطاغوت وإن كان يقول لا إله إلا الله، ويكرر ذكرها على لسانه على مدار الساعة، فهو في ذلك مثله مثل من يقول بالشيء وضده في آنٍ معاً، يقول لا إله إلا الله وفي نفس الوقت يعبد آلهة أخرى مع أو من دون الله تعالى. وقد تقدم أن الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك لا يمكن أن يجتمعان في قلب امرئٍ واحد كما ورد في الحديث: " لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئٍ " وقد تقدم. فإن قيل علام قُدم جانب النفي على جانب الإثبات في شهادة التوحيد وغيرها من النصوص التي تفسر شهادة التوحيد، وما الحكمة من ذلك؟ أقول: هذا التقديم لجانب النفي على جانب الإثبات في شهادة التوحيد وغيرها من النصوص التي تناولت تفسير الشهادة له فوائد وحكم عديدة هامة ومرادة لذاتها شرعاً: منها: أن من لا يأتي بهذا التقديم ويُراعه في نفسه ودينه يلزمه أن يأتي بالشرك والتوحيد معاً، يأتي بعبادة الطاغوت وعبادة الله تعالى في آنٍ واحد.. وهذا دين أهل الشرك الذين جمعوا بين عبادة الله تعالى وبين عبادة الطاغوت.. فهم آمنوا بالله وهم مشركون، كما قال تعالى عنهم: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} يوسف: 160. ومنها: أن عدم مراعاة هذا التقديم من لوازمه - ولا بد - حبوط العبادة وجميع الطاعات التي يقدمها المرء لله تعالى؛ فهو إذ دخل في عبادة الله تعالى دخل في العبادة والطاعة قبل أن يتبرأ من الشرك وعبادة الطاغوت وينخلع منه.. وقد تقدم أن الشرك يحبط العمل كلياً، ويحرم صاحبه من الانتفاع به، وهو كالسد المنيع الذي يحيل بين العمل وقبوله وصعوده إلى السماء! وعليه من دخل في عبادة الصلاة أو الصوم أو الحج أو الزكاة أو غيرها من العبادات قبل أن يأتي بالكفر بالطاغوت والبراء منه ومن عبادته وحزبه.. لا تنفعه عبادته تلك في شيء، ولا تُقبل منه، وهو نصَب يرتد عليه بالخسران والندم ولات حين مندم. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: فمن عبد الله ليلاً ونهاراً، ثم دعا نبياً أو ولياً عند قبره، فقد اتخذ إلهين اثنين ولم يشهد أن لا إله إلا الله؛ لأن الإله هو المدعو، كما يفعل المشركون عند قبر الزبير أو عبد القادر أو غيرهم.. ومن ذبح لله ألف ضحيةٍ ثم ذبح لنبي أو غيره فقد جعل إلهين اثنين: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له} [15]. معنى الطاغوت : بعد أن عرفنا الدليل على صحة شرط الكفر بالطاغوت كشرط لصحة الإيمان، لا بد أن نعرف معنى الطاغوت لنعرف من يدخل فيه ومن لا يدخل، وأن نعرف كذلك صفة الكفر بالطاغوت لنعرف صفة الكافر بالطاغوت من غيره. فأقول في معنى الطاغوت: هو كل ما عبد من دون الله ولو في وجه من أوجه العبادة، وهو راضٍ بذلك [16]. فمن عُبد من دون الله من جهة الركوع والسجود، وصرف النُّسك.. فهو طاغوت.. ومن عُبد من دون الله من جهة الدعاء والطلب.. فهو طاغوت.. ومن عُبد من دون الله من جهة الخوف والرجاء.. فهو طاغوت.. ومن عُبد من دون الله من جهة الطاعة والتحاكم.. فهو طاغوت.. ومن عُبد من دون الله من جهة المحبة، والولاء والبراء.. فهو طاغوت. فكل مطاعٍ لذاته - من دون الله تعالى - فهو طاغوت.. ويدخل في ذلك حكام الكفر والجور، والأحبار والرهبان، والشيوخ، ورؤساء الأحزاب والجماعات وغيرهم.. والمطيع لهم لذواتهم عابد للطاغوت من دون الله علم بذلك أم لم يعلم! وكل محبوب لذاته - من دون الله تعالى - فهو طاغوت.. والمحبوب لذاته هو الذي يُعقد الولاء والبراء فيه ولذاته - وليس في الله ولذاته عز وجل - بغض النظر عن موافقته أو متابعته للحق أو الباطل! كثير هم الذين يحسبون أنفسهم على شيءٍ وأنهم أحرار - يعيشون في زمن العالم الحر! - وهم في حقيقة أمرهم عبيد للطواغيت.. عبيد لعبيد هم أحط منهم قدراً وشأنا! قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 28/200: فالمعبود من دون الله إذا لم يكن كارهاً لذلك طاغوت، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام طواغيت في الحديث الصحيح لما قال: " ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت "، والمطاع في معصية الله، والمطاع في التباع غير الهدى ودين الحق سواء كان مقبولاً خبره المخالف لكتاب الله أو مطاعاً أمره المخالف لأمر الله هو طاغوت، ولهذا سُمي من تحوكم إليه ممن حاكم بغير كتاب الله طاغوت، وسمى الله فرعون وعاداً طغاة اهـ. وقال ابن القيم رحمه الله: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعوه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته اهـ. قلت: إذا كان هذا حال الناس في زمن ابن القيم رحمه الله فكيف الحال في زماننا وقد تكاثرت الطواغيت واستشرفت وتنوعت.. وقد دلت السنة أن ما من عام إلا والذي بعده أشر منه، نسأل الله تعالى السلامة وحسن الختام؟! وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: الطاغوت عام في كل ما عُبد من دون الله - ورضي بالعبادة - من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله فهو طاغوت اهـ. وقال سيد رحمه الله في الظلال عند تفسيره لقوله تعالى {وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت}: إن الطاغوت هو كل سلطان لا يستمد من سلطان الله، وكل حكم لا يقوم على شريعة الله، وكل عدوان يتجاوز الحق، والعدوان على سلطان الله وألوهيته وحاكميته هو أشنع العدوان وأشده طغياناً، وأدخله في معنى الطاغوت لفظاً ومعنى.. وأهل الكتاب لم يعبدوا الأحبار والرهبان، ولكن اتبعوا شرعهم وتركوا شريعة الله، فسماهم الله عباداً لهم وسماهم مشركين. فهم عبدوا الطاغوت أي السلطة الطاغية المتجاوزة لحقها، وهم لم يعبدوها بمعنى السجود والركوع، ولكنهم عبدوها بمعنى الاتباع والطاعة، وهي عبادة تُخرج صاحبها من عبادة الله ومن دين الله اهـ. فاحذر يا عبد الله أن تكون من عبدة الطاغوت، ومن أنصاره وجنده - وأنت تدري أو لا تدري - فيحبط عملك، وتبوء بإثمك، فتخسر دنياك وآخرتك! صفة الكفر بالطاغوت : بعد أن عرفنا الطاغوت وما يدخل في معناه وحكمه، لا بد أن نعرف صفة الكفر بالطاغوت، وكيف يكون الكفر به.. ليعلم كل واحدٍ منا هل هو ممن يكفرون بالطاغوت حقيقةً، أم أنه يكفر بالطاغوت زعماً باللسان فقط! أقول: الكفر بالطاغوت ليس بالتمني ولا بزعم اللسان من غير برهان أو عمل.. وصفته أن يُكفر به اعتقاداً وباطناً، وقولاً وعملاً. 1) صفة الكفر الاعتقادي بالطاغوت: أن يُضمر له العداوة والبغضاء والكره في القلب، ويعتقد كفره وكفر من يدخل في عبادته من دون الله تعالى. وهذا الحد من الكفر بالطاغوت لا يُعذر أحد بتركه لأنه أمر مقدور عليه يستطيع كل امرئٍ أن يأتي به من دون أدنى ضرر أو حرج، لا سلطان لبشر يمكنه من الحيلولة بينه وبين اعتقاده هذا، وبالتالي لا يُعذر أحد بالإكراه فيما يضمر أو يعتقد لو اعتقد أو أضمر الكفر والرضى بالطاغوت، لأن الإكراه سلطانه على الجوارح الظاهرة لا الجوارح الباطنة. فهو أمر لا بد منه لأن خلافه يقتضي الرضى بالكفر.. الرضى القلبي بالطاغوت وإجرامه وكفره.. والرضى بالكفر كفر بلا خلاف. 2) صفة الكفر القولي بالطاغوت: يكون ذلك بإظهار كفره وتكفيره باللسان، وإظهار البراءة منه ومن دينه وأتباعه وعبيده، وبيان ما هم عليه من باطل وشعوذة وكفر. كما قال تعالى: {قل يا أيها الكافرون..} حيث لا بد من مواجهتهم بهـذه الكلمة الساطعة والواضحة الدلالة والمعاني من غير التواء أو تلجلج أو ضعف التي تصف حقيقة حالهم وما هم عليه: يا أيها الكافرون.. يا أيهـا المشركون المجرمون ! وقال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} الممتحنة: 4. فإبراهيم عليه السلام ومن آمن معه من المؤمنين أسوة حسنة لنا، في ماذا؟ في قولهم للمشركين ولطواغيتهم الذين يعبدونهم من دون الله: إنا برآء منكم ومن دينكم، ومن طواغيتكم.. كفرنا بكم وبما تعبدون من دون الله! قد بدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً.. وهو تعبير يفيد غاية الظهور والوضوح والإستعلان.. فهي عداوة مستمرة أبداً - عداوة وبغضاء الجوارح الظاهرة والباطنة - التي لا يمكن أن تهدأ، أو يخفت نارها إلا بشرط واحد: هو أن تنخلعوا كلياً من عبادة الطواغيت وتدخلوا في سلم العبودية لله تعالى وحده. وقال تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} الزخرف: 26-27. هذه ملة إبراهيم عليه السلام لا بد لكل من يرتضي ملته الحنيفية من أن يأتي بهذا القول والإعلان والبراء.. ولا يرغب عن ملته والاقتداء به إلا السفيه الذي لا عقل له، كما قال تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} البقرة: 130. وفي الحديث عن معاوية بن حيدة قال: قلت يا نبي الله، بما بعثك ربك إلينا؟ قال: " بالإسلام " قال: قلت وما آيات الإسلام؟ قال: " أن تقول: أسلمت وجهي إلى الله عز وجل وتخلّيت، وتُقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعدما أسلم عملاً، أو يُفارق المشركين إلى المسلمين " [17]. فقوله صلى الله عليه وسلم " وتخليت "؛ أي تخليت وأقلعت عن الشرك وعبادة الطواغيت من دون - أو مع - الله تعالى. فمن الإمارات والعلامات الدالة على صدق إسلامك أن تقول - بكل وضوح وثبات ومن دون أدنى تلجلجٍ أو تردد - لجميع الطواغيت في الأرض: قد تخليت عنكم، وعن عبادتكم! قال ابن تيمية رحمه الله: فلا يكون المرء موحداً إلا بنفي الشرك والبراءة منه وتكفير من فعله. اهـ. 3) صفة الكفر بالطاغوت عملاً: يكون ذلك باعتزاله واجتنابه وجهاده، وجهاد أتباعه وجنوده، وقتالهم إن أبوا إلا القتال، وعدم اتخاذهم أعواناً وأولياء، كما قال تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد} الزمر: 16. وقال تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم} التوبة: 12. وأئمة الكفر هم الطواغيت. وقال تعالى: {وليجدوا فيكم غلظة} التوبة: 123. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء} النساء: 144. وقال تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} المائدة: 51. وقال تعالى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} الممتحنة: 1. وغيرها كثير من النصوص التي توضح معالم وصفات الكفر بالطاغوت قولاً وعملاً. وبعد، هذه صفة الكفر بالطاغوت فمن أتى بها كاملاً غير منقوصة فهو الذي يكون قد كفر بالطاغوت وقد وفى الشرط حقه.. ومن لم يأت بهذه الصفة المتقدم ذكرها لا يكون قد كفر بالطاغوت وإن زعم بلسانه ألف مرة أنه كافر بالطاغوت! وإن كنت أعجب فأعجب لأناس يزعمون بألسنتهم الكفر بالطاغوت، ويستهجنون أن يكونوا من عبيد الطواغيت.. وفي نفس الوقت في لسان الحال والعمل - وربما في لسان القال كذلك - تراهم يوالون الطواغيت، ويُكثرون الجدال عنهم، ويذودون عنهم، ويدخلون في خدمتهم ونصرتهم، وجيوشهم، والتحاكم إليهم.. ومنهم من يعادي الموحدين لأجلهم! فهؤلاء لم يحققوا شرط الكفر بالطاغوت مهما زعموا بلسانهم خلاف ذلك.. فواقعهم ولسان حالهم يكذبهم ويرد عليهم زعمهم وادعاءهم. مسألة: هل يصح إطلاق كلمة الطاغوت على المسلم، أم أن هذه الكلمة لا يجوز أن تُطلق إلا على الكافر الذي له صفة الطاغوت كما تقدم؟! أقول: الطاغوت على صيغة فعلوت؛ وهو من البغي والعدوان ومجاوزة الحد.. فمن كان بغيه وعدوانه وظلمه دون الكفر يُطلق عليه وصف الطاغوت على اعتبار معناه ودلالاته اللغوية وهي البغي والعدوان ومجاوزة الحد.. كما أطلق بعض السلف على الحجاج وغيره وصف الطاغوت أو الطاغية.. وأرادوا من ذلك المعنى اللغوي الآنف الذكر، ولم يريدوا أنه طاغوت بمعنى أنه كافر ويُعبد من دون الله. أما إن كان هذا البغي والظلم والعدوان.. بلغ بصاحبه درجة الكفر بالله تعالى، فإن وصف الطاغوت يُحمل عليه بمعناه الاصطلاحي وهو المعبود من دون الله، وبمعناه اللغوي وهو العدوان ومجاوزة الحد. وللتميز بين الطاغوتين عند قراءة كتب أهل العلم والاستماع إليهم لا بد من النظر إلى مجموع سياق الكلام، والقرائن الواردة فيه التي تُعينك على تحديد نوع الطاغوت المراد من كلامهم. إلا أنني قد تتبعت كلمة الطاغوت في القرآن الكريم وفي السنة.. فكلها جاءت بمعنى الطاغوت الكافر الذي يُعبد من دون الله تعالى.. والله تعالى أعلم. [14] مجموعة التوحيد: 10- 35. [15] الرسائل الشخصية: 166. [16] قيد الرضى لا بد منه لنخرج بذلك الملائكة والأنبياء، والصالحين - الذين يُعبدون من دون الله - من وصف وحكم الطاغوت، لكرههم الشديد لذلك ونهيهم عنه، ولعدم رضاهم في أن يُعبدوا في شيءٍ من دون أو مع الله عز وجل .. وفي مثل هذه الحالة يقتصر البراء والكفر بالعابدين وبعبادتهم الشركية فقط من دون أن يطال ذلك المعبودين الذين يستحقون منا التوقير والموالاة في الله من غير جنوح إلى إفراطٍ أو تفريط. [17] صحيح سنن النسائي: 2408. الشرط الثالث: العلم العلم بالتوحيد شرط لصحته؛ لأن جاهل التوحيد كفاقده، وفاقد التوحيد لا يعتقده، ومن لا يعتقد التوحيد لا يكون مؤمناً ولا مسلماً، وهو كافر بلا خلاف. والدليل على صحة هذا الشرط قوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} محمد: 19. وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة " مسلم. مفهوم الحديث أن من مات وهو لا يعلم التوحيد لا يدخل الجنة، ومن لا يدخل الجنة لا يكون مسلماً؛ لأن المسلم يدخل الجنة، كما مر معنا في الحديث المتفق عليه: " لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ". وتأتي أهمية هذا الشرط كذلك من جهة كونه يتقدم العمل بالتوحيد، وهو لازم له؛ لأن التوحيد لا يمكن العمل به إلا إذا تقدمه العلم.. فالعلم يتقدم العمل في كل شيءٍ، ولا يصح العكس في ذلك. ومن عكس القاعدة فقدم العمل على العلم عبد الله عن جهل وغير بصيرة.. وهذا مؤداه - ولا بد - إلى الانحراف والضلال والإحداث في الدين والعياذ بالله. وعليه من حُرم العلم بالتوحيد لزمه تباعاً أن يُحرم العمل به ولا بد، لذا كان الصحابة رضي الله عنهم يعنون تعلم التوحيد الأهمية والأولوية قبل أي علم آخر. كما في الحديث عن جندب بن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان، فتعلمنا الإيمان - أي التوحيد - قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً [18]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل أحداً من أصحابه إلى أي بلدٍ من البلدان يأمره بأن يدعوا أهلها أولاً إلى التوحيد قبل أن يدعوهم إلى أي شيءٍ آخر، كما في الحديث المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: " إنك تقدم على قومٍ أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله - وفي رواية لا إله إلا الله - فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلواتٍ في يومهم وليلتهم..". وقوله صلى الله عليه وسلم "فإذا عرفوا الله "؛ أي عرفوا الله بأسمائه وصفاته وخصائصه عز وجل، وعرفوا حقه عليهم من التوحيد وإفراده في العبادة، وأطاعوك في ذلك.. فبعدها أخبرهم أن الله تعالى فرض عليهم خمس صلواتٍ في يومهم وليلتهم إلى آخر ما جاء في الحديث. وهذا بخلاف ما عليه كثير من الدعاة المتأخرين، حيث تراهم أول ما يبتدئون به الناس دعوتهم إلى الصلاة والصوم والزكاة قبل أن يدعوهم إلى التوحيد الخالص، ويُعرفهم على معناه.. بل ومن دون أن يدعوهم إلى التوحيد، أو يعنوه اهتمامهم! لذا لا تفاجأ لو رأيت بعض هؤلاء الدعاة يقعون في الشرك ويمارسونه وهم يدرون أولا يدرون.. فالشرك لا يلفت انتباههم ولا يثير حفيظتهم لأنهم لا يعرفونه، كما أن التوحيد لا يُعنى منهم الاهتمام والدراسة لجهلهم لفضله وقيمته. فكم من شرك يطرأ على الأمة يمرون عليه مر الكرام، وفي كثير من الأحيان لا يلقى منهم إلا المباركة والتأييد؛ كالشركيات التي تأتي من جهة الديمقراطيات الحديثة التي تؤله المخلوق، وتعبد العبيد للعبيد.. والتي تمارس في كثير من أمصار المسلمين وغيرها [19]. وكالشركيات التي تأتي من جهة طغيان طواغيت الحكم، ومن جهة قصورهم وتحكيم قوانينهم الوضعية! وكالشركيات التي تأتي من جهة فرق الضلال المحسوبة على الإسلام كالشيعة الروافض وغيرهم من فرق الباطنية الغلاة! كم هم المشايخ الذين صفقوا للشيعة الروافض ولثورتهم الشيعية، وارتموا في أحضانهم يستجدون منهم العون والمدد من غير فائدة تُذكر.. على ما عند الآخرين من شركيات وكفريات يعلمها عنهم القاصي والداني.. وهذا كله بسبب جهلهم للتوحيد! وكذلك الشركيات التي تأتي من جهة فرق التصوف المنتشرة - بدعم من الطواغيت - في أمصار المسلمين! فهذه الشركيات السائدة وغيرها لا تكاد تلفت نظرهم فضلاً عن أن يعملوا على تغييرها وإنكارها، وهذا مرده كله إلى جهلهم بحقيقة التوحيد، وجهلهم لشروط ومتطلبات شهادة التوحيد لا إله إلا الله.. وفهمها وتفسيرها على غير مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. وانشغالهم عنها بالفروع وبالمباحات، وبما هو دونها أهمية من مسائل العلوم الأخرى! قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: دين النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد؛ وهو معرفة لا إله إلا الله محمد رسول الله، والعمل بمقتضاها، فإن قيل: كل الناس يقولونها: قيل منهم من يقولها ويحسب معناها أنه لا يخلق إلا الله ولا يرزق إلا الله وأشباه ذلك، ومنهم لا يفهم معناها، ومنهم من لا يعمل بمقتضاها، ومنهم من لا يعقل حقيقتها، وأعجب من ذلك من عرفها من وجه وعاداها وأهلها من وجه ! وأعجب منه من أحبها وانتسب إلى أهلها ولم يفرق بين أوليائها وأعدائها .. يا سبحان الله العظيم أتكون طائفتان مختلفتين في دين واحد وكلهم على الحق؟! كلا والله.. فماذا بعد الحق إلا الضلال. اهـ. قلت: كم هؤلاء الذين يدعون في زماننا وصل التوحيد، ويكثرون الحديث عن العقيدة الصحيحة.. وهم في نفس الوقت يوالون أعداء التوحيد، ويجادلون عنهم ويوسعون لهم ساحة التأويل والأعذار.. بينما في المقابل يعادون أهل التوحيد، ويُسيئون بهم الظن، ويرمونهم بأقذع الألقاب والعبارات، ويُضيقون عليهم ساحة الأعذار أو التأويل! من هنا تأتي أهمية بيان المراد من العلم الوارد ذكره في الشرط الآنف الذكر.. هل هو العلم المعرفي النظري الذي لا يلامس حرارة القلوب، أم أنه العلم الذي يحمل صاحبه على الالتزام والعمل بالتوحيد ومقتضياته؟ أقول: لا شك أن المراد من العلم هو العلم الذي يزيد صاحبه إيماناً ويقيناً، ويحمله على العمل والحركة من أجل إعلاء كلمة هذا الدين.. العلم الذي يحمل صاحبه على أن يوالي في الله ويُعادي في الله، ويحب في الله ويبغض ويجافي في الله.. العلم الذي يحمله على معاداة أعداء التوحيد وأهله، وموالاة أهل التوحيد وجنده.. العلم الذي يؤدي بصاحبه إلى الفهم الحقيقي لدلالات التوحيد ومتطلباته.. العلم الذي يحمله على العمل والالتزام.. العلم المستقى من الكتاب والسنة بعيداً عن إسلوب أهل الكلام ومسائلهم وتعقيداتهم الكلامية! أما المعرفة النظرية المجردة الباردة، التي لا تلامس حرارة القلوب واليقين.. ولا تحمل صاحبها على الالتزام والعمل فهي لا تغني عنه شيئاً، وهي لا تزيده إلا وزراً وإثماً! هذه المعرفة كان يتصف بها إبليس عليه لعائن الله، وأحبار ورهبان أهل الكتاب ومع ذلك ما نفعتهم في شيء، كما قال تعالى عنهم: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} البقرة: 146. ومع ذلك لما لم يتبعوا هذه المعرفة بالمتابعة والانقياد لتعاليم وهدي الشريعة فلم تنفعهم معرفتهم شيئاً. قال ابن كثير في التفسير: يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده من بين أبناء الناس كلهم. ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقيق والاتقان العلمي ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم {وهم يعلمون} اهـ. وقال ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل 1/242: الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر، أو الامتناع عن المتابعة مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم. اهـ. فالمعرفة المجردة للتوحيد شيء، والعلم بالتوحيد الذي يحمل صاحبه على الالتزام والعمل والفهم الصحيح شيء آخر، وهو المطلوب من حديثنا عن شرط العلم المتقدم. فإن قيل - وقد قيل - قد عقدت الأمور يا أبا بصير، فدع الناس على إيمان العوام وعقيدة العجائز، فإن بعض أهل العلم كالجويني وغيره قد أُثر عنهم قولهم: أنهم ودوا أن يموتوا على إيمان وعقيدة عجائز نيسابور، وعقيدة عوام الناس! فكيف نوفق بين ذلك وبين ضرورة التفقه بالتوحيد كما قدمت؟! أجيب على هذا السؤال بما يلي: أولاً: أن شرط العلم بلا إله إلا الله وبمتطلباتها وحقوقها.. قد دلت عليه نصوص الكتاب والسنة كما تقدم، وهو ليس قولاً لبشر يمكن رده وعدم الالتفات إليه. ثانياً: أن هذه المقولة التي نقلت عن الجويني وغيره من أهل العلم إنما أرادوا منها بيان سوء ما وصل بهم انشغالهم بعلم الكلام والفلسفة - بعيداً عن هدي الكتاب والسنة - وما أدى بهم ذلك إلى الحيرة والقلق والشك، مما حملهم على التمني لو أنهم ماتوا على عقيدة عجائز نيسابور أو عقيدة عوام المسلمين - الذين لم يتلوث إيمانهم بشبهات وأهواء أهل الكلام - وما اشتغلوا بهذا النوع من العلم الساقط.. وليس أن إيمان العجائز أو العوام غاية تُطلب أو أنه خير من إيمان علماء التوحيد الذين أخذوا علومهم من الكتاب والسنة، أو من إيمان من يتفقه بالتوحيد من الكتاب والسنة.. فهذا ليس مرادهم، وإليك بعض أقوالهم في ذلك لتدرك مرادهم وقصدهم من مقولتهم تلك، التي استغلت أسوأ استغلال من بعض أصحاب ضعاف النفوس المريضة ! قال ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية: انتهى أمر الغزالي - رحمه الله - إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فمات وصحيح البخاري على صدره. وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: وأرواحنا في وحشةٍ من جسومِنا وحاصل دُنيانا أذى ووبالُ ولم نستفِد من بحثنا طولَ عمرنا سوى أن جمعنا فيه: قيلَ وقالوا! ولقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات: {الرحمن على العرش استوى} طه: 5. {إليه يصعد الكلم الطيب} فاطر: 10. واقرأ في النفي: {ليس كمثله شيء} الشورى: 11. {ولا يحيطون به علماً} طه: 110. ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي! وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيَّرت طرْفي بين تلك المعالم فلم أرَ إلا واضعاً كفَّ حائرٍ على ذقنٍ أو قارعاً سِنَّ نادِم! وكذلك قال أبو المعالي الجويني: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفتُ أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به. وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضمَّ، وخليتُ أهل الإسلام وعلومَهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور! وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي لبعض الفضلاء: ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون، فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقنٌ به؟ فقال: نعم، فقال: أشكرِ الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد.. وبكى حتى أخضلت لحيته! قال ابن أبي العز معلقاً على ما تقدم: وتجدُ أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيكونون في نهايتهم - إذا سلموا من العذاب - بمنزلـة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب [20]! قلت: قد عرفت أيها القارئ من خلال ما تقدم أن هذه المقولة التي نقلت عن بعض أهل العلم إنما هو لبيان سوء ما وصلوا إليه، وبيان سوء طلب العلم - وبخاصة منه العقائد ومسائل التوحيد - على طريقة أهل الكلام والفلسفة، وأن العلم الحق يُطلب من مظانه المحصورة في الكتاب والسنة وحسب. وقد علمت كذلك أن هذه المقولة لا متعلق صحيح بها لدعاة الجهل بالتوحيد.. كما أنه لا يجوز أن تكون دليلاً أو سبباً يبرر القعود عن التفقه بالتوحيد من مظانه الشرعية الصحيحة. مسألة هامة في بيان حال وحكم جاهل التوحيد : اعلم أن هذه المسألة من جملة المسائل التي أخطأ فيها كثير من الناس؛ حيث فريق منهم جنح ومال فيها إلى الإفراط وفريق آخر جنح ومال إلى التفريط! كما أن هذه المسألة لا يصح فيها قول واحد - معذور أو غير معذور، كافر أو غير كافر - من دون تفصيل يوضح وجهة الحق في المسألة، والمنهج الوسطي الذي دلت عليه النصوص الشرعية، والذي عليه عقيدة أهل السنة والجماعة. وعليه فأقول: جاهل التوحيد قسمان كافر أصلي، ومسلم من أهل القبلة. والكافر الأصلي الجاهل للتوحيد قسمين كذلك: قسم معذور بالجهل، وقسم غير معذور بالجهل. الكافر الجاهل المعذور بالجهل: هو الكافر الذي لم تبلغه نذارة الرسل بأي وجه من الوجوه، ولم يتمكن من الوقوف عليها بنفسه لظروف قاهرة تحيل بينه وبين ذلك. فهذا الراجح فيه أنه لا يُجزم له بعذاب ولا جنة، وأن له حكم أهل الأعذار الذين يعتذرون على الله تعالى يوم القيامة؛ كالأصم الذي لم يسمع شيئاً، والأحمق الخرف، وصاحب الفترة الذي مات في الفترة ولم تبلغه نذارة الرسل كما ورد في شأنهم الحديث المشهور الذي أخرجه أحمد وغيره عن أبي هريرة وغيره من الصحابة.. ولكن عدم الجزم بلحوق الوعيد والعذاب به لا يمنع عنه أن يُحكم عليه في الدنيا بأنه كافر يطاله اسم الكفر ووصفه [21]. أما القسم الآخر: وهو الذي لا يعذر بالجهل وإن كان جاهلاً، وحكم الكفر يطاله في الدنيا والآخرة، ويُجزم له بالعذاب لو مات على كفره وشركه؛ وصفته أن تبلغه الدعوة ولكن لا يرفع بها رأساً ولا يُحرك لأجلها ساكناً، فهو تراه يؤاثر الخمول والجهل على العلم والتعلم! وكذلك الكافر الذي يقع في الجهل وهو قادر على دفعه لو أراد لكنه لا يفعل إيثاراً للدنيا ومشاغلها، أو لأي سبب آخر! فهذا والذي قبله وإن كان جاهلاً بحقيقة التوحيد إلا أن جهله - بعد بلوغ النذارة إليه - لا يمنع عنه لحوق الوعيد في الآخرة، وحكم الكفر يُحمل عليه في الدنيا والآخرة.. فليس كل جهل يكون عذراً لصاحبه، كما أنه ليس كل جهل لا يكون عذراً لصاحبه. أما المسلم الجاهل فهو كذلك أقسام: 1) قسم دخل الإسلام لكنه يجهل بعض أصول التوحيد أو بعض ما يدخل في معنى العبادة لعجزٍ لا يمكن دفعه؛ كالذي يكون حديث عهدٍ بالإسلام، أو كالذي يسكن في منطقة نائية عن العلم ومظانه؛ لا العلم يصله، ولا هو يستطيع أن يصل العلم.. فهذا وإن وصف ما وقع فيه من مخالفة بالكفر إلا أن حكم الكفر لا يطاله بعينه في الدنيا، ولا تُجرى عليه أحكامه وتبعاته، وكذلك حكم الوعيد في الآخرة فإنه لا يطاله إلا بعد قيام الحجة الرسالية عليه، وإزالة الموانع عنه التي حالت بينه وبين تعلم التوحيد. 2) قسم يجهل بعض أصول التوحيد وشروطه الضرورية - التي لا يصح الإيمان إلا بها - عن غير عجزٍ، أو عن عجز يمكن له دفعه لو أراد، لكنه لا يفعل إيثاراً للدعة أو الدنيا وملذاتها.. فهذا وأمثاله وإن كان كفره من جهة الجهل لما هو ضروري من الدين والتوحيد فإنه لا يُعذر بالجهل، وحكم الكفر يطاله بعينه في الدنيا، وفي الآخرة لو مات عليه، ولا يُشترط لتكفيره قيام الحجة عليه؛ لأن الحجة قائمة عليه وهي معروضة عليه صباح مساء لكنه هو الذي لا يأتيها ولا يطلبها! 3) قسم وقع في مخالفة بعض ما يدخل في فروع العقيدة والتوحيد، كالكلام على بعض مسائل الصفات كما هو حال الأشاعرة وغيرهم.. فإنهم آثمون يطالهم وصف الضلال والإحداث في الدين دون وصف وحكم الكفر. أما حكمهم في الآخرة.. فهم وغيرهم من العصاة من أهل القبلة لا يُشهد لهم - على وجه التعيين - بعذاب ولا جنة، وأمرهم إلى الله تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم عز وجل .. مع بقاء القول على العموم أن أصحاب هذا القول أو أصحاب هذه المعاصي يستحقون عليها الوعيد والعذاب يوم القيامة لورود النصوص العديدة في ذلك. 4) أما من يقع في هذا النوع من المخالفة عن تأويل أو اجتهاد معتبر، أو جهل مُعذر فإنه لا يطاله بعينه وصف الضلال والإحداث في الدين، وإن كان الفعل ذاته هو من الضلال والإحداث.. حتى تقوم عليه الحجة الشرعية، التي تدفع عنه العجز في إدراك مراد الشارع فيما قد خالف فيه. هذا تقسيم وتفصيل ضروري لمن أراد أن يخوض في مثل هذه المسائل، أوردناه هنا بإيجاز شديد، فمن لم يقنع به وأراد التفصيل والأدلة على ما ذُكر فعليه بكتابنا " العذر بالجهل " وكذلك " قواعد في التكفير ".. عسى أن يجد فيهما ما يبتغيه ويريده. ضوابط قيام الحجة على الجاهل؟ لقيام الحجة على الجاهل المخالف ضوابط، منها: 1) أن يكون الجاهل المخالف ممن يُعذرون بالجهل؛ وصفته أنه يقع في المخالفة الشرعية عن جهل معجز لا يمكن له دفعه! أما إن كان جهله عن غير عجزٍ، أو عن عجزٍ يمكن لصاحبه دفعه لكنه لا يفعل.. فهذا مما لا يُعذرون بالجهل، ولا يُشترط لتكفيره - لو وقع في الكفر البواح - قيام الحجة؛ لأن الحجة معروضة عليه، وهو الذي لا يريدها ولا يُحرك ساكناً نحوها! 2) تقوم الحجة الشرعية على الجاهل المخالف ببلوغ المعلومة الشرعية الصحيحة التي تحسم مادة الجهل عنده فيما قد خالف فيه. فلو كان كفره مثلاً من جهة استحلاله للخمر، فبلغه الخطاب الشرعي في حرمة الزنى، والربى أو غير ذلك.. فالحجة الشرعية لا تكون قد قامت عليه حتى يبلغه الخطاب الشرعي الذي يفيد حرمة الخمر؛ وسبب ذلك أن الخطاب الشرعي الذي يفيد حرمة الزنى لا يدفع عنه العجز في جهل حرمة الخمر.. 3) يشترط في الحجة أن تصل الجاهل بلغة يفهمها ويفهم المراد منها، ولا يُشترط أن يقتنع بها، ففهم الخطاب شيء وهو شرط، والاقتناع المؤدي إلى الالتزام شيء آخر وهو ليس شرطاً. 4) المهم في قيام الحجة أن تصل الجاهل بلغة يفهم المراد منها بغض النظر عن الوسيلة التي تنقل إليه هذه المعلومة الشرعية التي بها يندفع جهله. فهذه الوسيلة - الحاملة للحجة - قد تكون كتاباً، أو مجلة، أو عن طريق المذياع أو مواقع الإنترنت، أو الدعاة إلى الله.. أو غير ذلك. المهم في هذه الوسيلة أن تملك المعلومة الشرعية الصحيحة التي تدفع عنصر الجهل عند الجاهل وهذا شرط، ولا يُشترط في الذي يقيم الحجة أن يكون عالماً مجتهداً أصولياً إلى آخر القائمة التي يفترضها مرجئة العصر من بنات عقولهم وأهوائهم! لكن إن قيل يُشترط فيمن يُقيم الحجة أن يكون عالماً بالمسألة التي يريد أن يُقيم بها الحجة على الجاهل المخالف.. فهو قول حق؛ لأن جاهل الشيء كفاقده، وفاقد الشيء لا يُمكن أن يعطيه للآخرين. 5) يكفي لقيام الحجة الشرعية على الكافر الأصلي - الذي لم تبلغه من قبل نذارة الرسل - أن يسمع العبارة التالية، وهي: أن محمداً رسول الله للعالمين، يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله.. فإن بلغته هذه العبارة بلغة يفهمها فقد قامت عليه الحجة الشرعية، ولم يعد يُعذر بالجهل لو قابل هذه الدعوة بالرد أو الإعراض أو الإهمال.. وهو كافر في الدنيا والآخرة، يطاله الوعيد ويُشهد له به لو مات على كفره. والدليل على ما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمدٍ بيده لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة، يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت إلا كان من أصحاب النار " مسلم. فدل الحديث أن من سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم على نحو ما تقدم ولم يؤمن به إلا هو من أهل النار الخالدين فيها. 6) أما الصيغة التي تُقام بها الحجة على المسلم الجاهل فهي تختلف بحسب نوع المخالفة التي وقع فيها؛ وبحسب ظروف الجاهل والشبهات المحيطة به فهناك مثلاً مخالفة تُقام فيها الحجة بعبارة واحدة أو أن يبلغه فيها حديث أو آية واحدة، وهناك مخالفات قيام الحجة فيها قد تحتاج إلى بيان وشرح وتفصيل، وربما إلى مناظرات ومراجعات بحسب نوع الشبهات وحجمها.. كما أن هناك مخالفات حمالة أوجه، والكفر فيها غير صريح ولا بواح.. وفي مثل هذه الحالات لا بد من مراعاة قصد صاحبها، والنظر هل يُريد ويقصد منها الوجه المكفر أم لا، وبخاصة إن صدرت هذه المخالفات عمن عرف بالعلم والاجتهاد، وسابقة جهاد وابتلاء في سبيل هذا الدين.. فمثل هؤلاء لا بد من توسيع دائرة التأويل في حقهم ومراعاة قصدهم والنظر ابتداءً ما الذي حملهم على المخالفة.. قبل إصدار الأحكام المتسرعة بحقهم! ومثل هذه المراعاة للقصد لا يجوز أن تقال عند ورود الكفر البواح الصريح ووقوع المرء فيه.. فتنبه لذلك! [18] صحيح سنن ابن ماجة: 52. [19] إن أردت أن تعرف الشركيات التي مصدرها الديمقراطيات الحديثة، ومن من المشايخ الذين باركوها وأيدوها وانتصروا لها في كتاباتهم وندواتهم انظر كتابنا " حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية ". [20] تهذيب شرح العقيدة الطحاوية: 128. [21] مع الانتباه أن الكافر الذي لم تبلغه نذارة الرسل لا تجوز مبادأته بالقتال قبل بلوغ الدعوة إليه، بخلاف الكافر الذي بلغته الدعوة فقابلها بالرد والإعراض.. فهذا تجوز مبادأته بالقتال من دون سابق إنذار. الشرط الرابع: الصدق والإخلاص من شروط صحة التوحيد الصدق والإخلاص، لقوله صلى الله عليه وسلم: " ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار " البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: " أبشروا وبشروا من وراءكم أنه من شهد أن لا إله إلا الله صادقاً بها دخل الجنة " البخاري. مفهوم المخالفة أن من شهد أن لا إله إلا الله لكنه كان غير صادقٍ بها لا يدخل الجنة، وهو من أهل النار. وقال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً} الكهف: 110. فمن شروط صحة العبادة الإخلاص؛ وهو المراد من قوله تعالى: {ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً} ومن أخص ما يدخل في معنى العبادة التوحيد.. فمن أتى به على غير وجه الإخلاص كان منافقاً ولا يُقبل منه. وفي قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} الملك: 2. قال أهل العلم والتفسير: أي أصوبه وأخلصه. وقال تعالى: {وما أُمروا إلا ليعبدوا اللهَ مخلصين له الدين حنفاء} البينة: 5. فالله تعالى أمر عباده أن يعبدوه ويوحدوه على وجه الإخلاص والصدق، ومن عبده ووحده لكن على غير وجه الإخلاص لا يُقبل منه، ولم يأتِ بالتوحيد الخالص! ومن الأدلة على صحة هذا الشرط أن من لوازم انتفائه تحقيق النفاق الأكبر الذي يجعل صاحبه في الدرك الأسفل من النار كما قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً} النساء: 145. وقال تعالى: {وعدَ اللهُ المنافقين والمنافقات والكفارَ نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم} التوبة: 68. ومما يُستفاد من هذا الشرط بطلان مذهب مرجئة الكرامية الذين قالوا: من أقر بلا إله إلا الله لفظاً هو مؤمن وإن لم يأتِ بالتصديق أو الاعتقاد القلبي.. وقد تقدمت الإشارة إليهم، وإلى من يقول بقولهم من مرجئة العصر، وإن لم يسم نفسه باسمهم! وهذا مذهب باطل كفري لأن مفاده أن المنافق الزنديق الذي يأتي بشهادة التوحيد لفظاً - بينما هو يضمر لها في قلبه التكذيب والعداوة - هو مؤمن ومن أهل الجنة.. وهذا فيه ما فيه من تكذيب صريح لنصوص الشريعة العديدة التي تبين أن المنافقين لا يدخلون الجنة وهم في الدرك الأسفل من النار! ويُستفاد منه كذلك أن هؤلاء الذين يقولون لا إله إلا الله على وجه الهزل واللعب والتمثيل، أو الإسكات، وعلى غير وجه الجد.. ليسوا بمؤمنين ولا مسلمين لأنهم لا يقولونها صادقين مخلصين. وكذلك الذي يقولها من الطواغيت من قبيل السياسة والتضليل للشعوب، ليموهوا عليهم حقيقة كفرهم وطغيانهم، وأنهم مسلمون تجب لهم الطاعة والموالاة.. معتمدين في ذلك التضليل على بطانتهم السيئة من مشايخ الإرجاء الذين يقومون بالنيابة عنهم في إقناع الناس أن هؤلاء الحكام مسلمون ماداموا يصرحون بشهادة التوحيد! أقول: هؤلاء الطواغيت الذين ينطقون بالشهادة - على وجه السياسة والتكتيك - فإنها لا تنفعهم في شيء؛ لأنهم لا يقولونها على وجه التصديق والإخلاص. وكذلك الذي ينطق بشهادة التوحيد من أصحاب الدعوات العلمانية وغيرهم من زنادقة العصر.. فإنهم لا ينتفعون بها في شيء لإضمارهم الكفر والنفاق الذي يُضادها وينفيها. الشرط الخامس: انتفاء الشك وحصول اليقين من شروط شهادة التوحيد: انتفاء الشك، وحصول اليقين بها وبمتطلباتها وشروطها، كما قال تعالى: {وقالوا إنا كفرنا بما أُرسلتم به وإنا لفي شكٍّ مما تدعوننا إليه مريب. قالت رسلُهم أفي الله شكٌّ فاطِرِ السماوات والأرض} إبراهيم: 9-10. فهم كفروا لأنهم شكوا في صحة دعوة الرسل لهم؛ ودعوة الرسل لهم على ممر الأزمان هي التوحيد، والدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله.. كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} الأنبياء: 25. وما من رسول إلا قال لقومه: {اعبدوا الله مالكم من إله غيره} الأعراف: 59. وكما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل: 36. وهم لما شكُّوا بالتوحيد لزمهم الشك بذات الله تعالى الذي خلقهـم وفطرهم فأحسن خلقهم، كما قال تعالى: {أفي الله شكٌّ فاطرِ السماوات والأرض} ؛ فهم لم يشكوا بوجود الله تعالى وإنما شكوا بتوحيده عز وجل فلزمهم أن يشكوا به تعالى أنه المألوه المستحق للعبادة. وعليه فمن يشك بالتوحيد أو بأي أمر معلوم من الدين بالضرورة فهو في حقيقة أمره يشك بالله تعالى، وبصدق أنبيائه ورسله الذين بلغوا عنه عز وجل ما أوحاه إليهم من الدين! وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة " مسلم. مفهوم الحديث أن من لقي الله تعالى بشهادتي التوحيد شاكاً فيهما أو بشيءٍ من لوازمهما ومقتضياتهما لا يدخل الجنة ولا يكون من أهلها، ولا ممن يشهدون شهادة الحق بحق. وقال صلى الله عليه وسلم: " من يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة " مسلم. مفهوم الحديث أن من يشهد أن لا إله إلا الله وهو غير مستيقن قلبه بها وبمتطلباتـها لا تبشره بالجنة، ومن يُحرم الجنة لا مسكن له إلا نار جهنم أعاذنا الله منها. واليقين بالتوحيد: هو العلم الجازم - الذي ينتفي عنه أدنى شكٍّ أو ريب - بأن الله تعالى واحد أحد في خصائصه وإلهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، لا شريك له في شيءٍ من ذلك، وأنه تعالى وحده المستحق للعبادة. الشرط السادس: العمل بها ومن شروط صحة شهادة التوحيد العمل بها وبمتطلباتها ظاهراً وباطناً، وهو الغاية منها ومن نزولها على الأنبياء والرسل، كما قال تعالى: {وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويُقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} البينة: 5. وقال تعالى: {ومـا خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} الذاريات: 56. أي ليوحدون.. فمن أبطل العمل بالتوحيد كشرط لصحته أبطل الدين وأمات روحه، وأبطل حق الله على العبيد، والغاية التي لأجلها خلق الله الخلق وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} الأنبياء: 25. وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل: 36. هذه الآيات وغيرها تفيد حصر مهام وغاية الرسل جميعاً في تحقيق التوحيد حق الله تعالى على العبيد، وكأنهم ليس لهم مهمة سوى تحقيق ذلك، كما قال الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه لطاغوت فارس عندما استجوبه عن الغاية من انبعاثهم وغزوهم لدياره: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن سجن الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ! وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يُعذب من لا يُشرك به شيئاً " قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: " لا تبشرهم فيتكلوا " متفق عليه. فحق الله على العبيد أن يعبدوه ظاهراً وباطناً ولا يُشركوا به شيئاً ظاهراً وباطناً، وهو المراد من شهادة أن لا إله إلا الله؛ يوضح ذلك الرواية الأخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه ومعاذ رديفه على الرحل، قال يا معاذ: ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار، قال: يا رسول الله، أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟ قال: " إذاً يتكلوا " متفق عليه. هذا الحديث قد فسره الحديث الذي قبله وبين المراد من التشهد بالشهادة؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: " ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار "، فسره صلى الله عليه وسلم في قوله الآخر: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً ". لأن في كلا الحديثين ينهى النبي صلى الله عليه وسلم فيهما معاذاً أن يخبر الناس بما قاله له حتى لا يتكلوا ويتركوا العمل الزائد عن التوحيد.. مما دل أن المراد من الحديث الآخر: " ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله.." ليس المراد مجرد التلفظ بالشهادة من دون تحقيق التوحيد حق الله على العبيد عملاً، وظاهراً وباطناً.. فالأحاديث تفسر بعضها البعض، والإنصاف يقتضي إعمالها جميعاً جنباً إلى جنبٍ من دون إهمال أو ترك شيءٍ منها. ولو كان الأمر ينتهي عند حد القول دون العمل لما امتنع كفار قريش عن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى دعوته، ولأعطوه " لا إله إلا الله " لفظاً مع بقائهم على شركهم وعاداتهم الوثنية، ولاستراحوا وأراحوا، ولما بذلوا أرواحهم وكل ما يملكون مقابل دفع كلمة التوحيد وعدم الاستجابة لها! ولكن لما علموا أن من لوازم الإقرار بشهادة التوحيد العمل بها وبمضمونها.. من لوازمه تكسير الأصنام والأوثان واعتزال عبادتها.. والانخلاع كلياً من الشرك وعبادة الأنداد.. من لوازمه تغيير العادات الوثنية الجاهلية المنافية لروح وتعاليم لا إله إلا الله.. من لوازمه أن تتحول الآلهة المزيفة إلى عبيد يتساوون في العبودية لله تعالى مع عبيدهم ومماليكهم.. من لوازمه ذوبان جميع الفوارق بين الناس..لا فرق بين الشريف والوضيع، ولا بين السيد والمسود.. إلا على أساس التقوى والالتزام بأخلاق وتعاليم هذا الدين الحنيف.. من لوازمه أن ينخلعوا كلياً من أهوائهم وشهواتهم، ومكاسبهم التي كانوا يجنونها من وراء تعبيد العبيد للعبيد.. ويبرؤوا من ذلك كله لله رب العالمين. لما كان الإقرار بالتوحيد من لوازمه حصول جميع ما تقدم - ولن يرضى الشارع عز وجل بأقل من ذلك - قابلوها بهذا الحرب وبهذا العناد والإعراض الذي لم يعرف التاريخ مثيلاً له! ولأجل ذلك كله كذلك بذلوا للنبي صلى الله عليه وسلم كل غالٍ ونفيس من مالٍ وملكٍ ورياسة، وعرضوا عليه كل ما تستشرفه النفوس وتتمناه مقابل أن يعفيهم من الإقرار والانصياع لشهادة التوحيد لا إله إلا الله.. فأبى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يُجيبوه أولاً إلى لا إله إلى الله، إلى التوحيد الخالص وخلع الأنداد والأوثان، راداً عليهم جميع عروضهم وما بذلوه من ترغيب [22]! أبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل منهم شيئاً إلا بعد أن يجيبوه أولاً إلى التوحيد بشموليته: اعتقاداً وقولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً! مسألة : مما يدخل في الأعمال التي تُعتبر من شروط صحة التوحيد والإيمان الصلاة، حيث لا يصح إيمان المرء إلا بها، فمن تركها فقد نقض التوحيد وخرج من الملة، ووقع في الكفر والشرك، كما في الحديث الصحيح: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة.. فإذا تركها فقد كفر "، وفي روايةٍ: " فإذا تركها فقد أشرك "، وغيرها كثير من النصوص التي تفيد كفر تارك الصلاة وخروجه من الملة، مع انتفاء النصوص أو القرائن الشرعية الأخرى التي تصرف هذا الحكم عن ظاهره إلى الكفر الأصغر، أو الكفر دون كفر [23]. مسألة ثانية : اعلم أن الإنسان يصير كافراً - من جهة ترك الأعمال - في حالتين: الحالة الأولى: أن يترك جنس العمل والطاعة، فلا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يزكي ماله، ولا يفعل شيئاً من الطاعات.. فهذا كافر خارج من الإسلام مهما زعم بلسانه أنه مسلم أو من المؤمنين. قال ابن تيمية في الفتاوى 7/209: قال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت [24]، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً. إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} . وقال حنبل سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله [25] اهـ. وقال الإمام الآجري رحمه الله في كتابه أخلاق العلماء: فالأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله؛ مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه، ورضي لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل - لم يكن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقاً منه لإيمانه، فاعلم ذلك. هذا مذهب علماء المسلمين قديماً وحديثاً، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث، احذره على دينك، والدليل على هذا قول الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [26]. وقال ابن تيمية في الفتاوى 7/287: لو قُدر أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شكٍّ ونقر بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيءٍ مما أمرت به ونهيت عنه، فلا نصلي ولا نصوم، ولا نحج، ولا نصدُق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم بل نقتلك أيضاً، ونقاتلك مع أعدائك، هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة ويُرجى لكم أن لا يدخل أحد منك النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك. اهـ. فليحذر مرجئة العصر بأي نار هم يلعبون؛ وبأي باطل هم يميدون، وأي قول هم يقولون عندما يخرجون جنس العمل كشرط لصحة الإيمان! ورحم الله الشافعي إذ يقول: لأن أتكلم في علم يُقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أتكلم في علم يُقال لي فيه كفرت اهـ. وليحذروا أن يُحمل عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " صنفان من أمتي لا يردان علي الحوض: القدرية، والمرجئة " [27]. أعاذنا الله من الكفر والخسران! الحالة الثانية: أن يأتي بجنس العمل ولا يُحرم مطلق الطاعات العملية، لكنه يترك العمل بالتوحيد.. فأيضاً هذا كافر خارج من الإسلام، لا ينتفع بشيءٍ من الأعمال والطاعات الأخرى التي قام بها كما تقدم. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختلف شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما اهـ. [22] في هذا تنبيه وتذكير لأولئك الذين يترامون على عتبات الطواغيت يستجدون منهم الفتات والعظام المجردة عن لحومها وشحومها باسم الدين، وباسم تحصيل المصالح للدعوة على حساب أعلى وأجل المصالح ألا وهي مصلحة تحقيق التوحيد!! فيه تنبيه لأولئك الذين أخروا لا إله إلا الله من أولوياتهم وبرامجهم الحزبية أو الدعوية، وقدموا عليها - رهبة أو رغبة - الاشتغال بالمندوبات والمباحات، والقيل والقال.. ثم بعد ذلك يحسبون أنفسهم أنهم يُحسنون صنعاً، أو أنهم يسيرون على طريقة ونهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله تعالى! فيه تنبيه لأولئك الذين يقولون للطاغوت كل شيءٍ، إلا أنهم لا يجرؤون أن يأمروه بالتوحيد، ولا أن يذكروه له، فضلاً عن أن يُطالبوه بتحكيمه والانصياع له!! [23] على تفصيل ذكرناه في كتابنا " حكم تارك الصلاة "، وقد رددنا فيه على شبهات وأدلة المخالفين دليلاً دليلاً، وشبهة شبهة.. فلينظره من لم يقنع بما تقدم. [24] وهو أفضل ممن لا يصلي قط! [25] من قال هذا فقد كفر بالله ورد على رسوله أمره، فكيف بالذي لا يفعل هذا، وينتفي عنه جنس العمل والطاعة.. لا شك أنه أولى بالكفر والمروق من الدين. [26] عن كتاب ظاهرة الإرجاء للشيخ سفر الحوالي: 2/647. [27] أخرجه الطبراني في التهذيب، وابن أبي عاصم في السنة وغيرهما، السلسلة الصحيحة: 2748. الشرط السابع: المحبة المنافية للكره والبغض من شروط صحة شهادة التوحيد محبتها ومحبة أهلها، وبغض أعدائها وما يضادها من الشرك والتنديد؛ وصفة هذه المحبة أن يكون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما، وأن يكون الله تعالى وحده هو المحبوب لذاته، وما سواه فهو محبوب له وفيه عز وجل ، لا يُحب مع الله أحد وإنما يُحب فيه ولأجله.. وإن أحب المرء شيئاً لا يُحب ما يكرهه الله عز وجل، وإن كره شيئاً لا يكره ما يُحبه عز وجل وبخاصة التوحيد حق الله تعالى على العبيد. فإن وقع المرء في محبة الأنداد والشركاء، وكره ما أنزل الله تعالى على أنبيائه ورسله من التوحيد والدين.. وقع في الشرك والكفر، وخرج من دائرة الإسلام والإيمان، ولا ينفعه ما قدم من طاعات وأعمال. والدليل على ما تقدم، قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله} البقرة: 165. فمن أحب مخلوقاً لذاته بحيث يوالي فيه ويعادي فيه، ويوالي من يواليه ويعادي من يُعاديه - بغض النظر عن موافقتهم للحق أو مخالفته - فقد اتخذوا هذا المخلوق نداً لله تعالى، ودخلوا في عبادته من دون الله تعالى؛ لأن المحبوب لذاته هو الله تعالى وحده وما سواه يُحب له وفيه.. قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 10/267: لا يجوز أن يُحب شيء من الموجودات لذاته إلا هو سبحانه وبحمده، فكل محبوب في العالَم إنما يجوز أن يُحب لغيره لا لذاته، والرب تعالى هو الذي يجب أن يُحب لنفسه، وهذا من معاني إلهيته {ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، فإن محبة الشيء لذاته شرك فلا يُحب لذاته إلا الله، فإن ذلك من خصائص إلهيته فلا يستحق ذلك إلا الله وحده، وكل محبوب سواه لم يُحب لأجله فمحبته فاسدة اهـ. وقال ابن القيم رحمه الله في المدارج 1/99: فالله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته، مع الخضوع له والانقياد لأمره. فأصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يُحب معه سواه، وإنما يُحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه كمحبة من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبه. اهـ. وقال تعالى: {قالوا وهم فيها يختصمون. تالله إن كنا لفي ضلالٍ مبين. إذ نسويكم برب العالمين} الشعراء: 96-98. فهم إذ كانوا يسوون الأنداد والطواغيت برب العالمين لم يكونوا يسوونهم به عز وجل في خاصية القدرة على الخلق أو التصرف في الكون أو الخلق إيجاداً وضراً ونفعاً، فهم أعجز من ذلك بكثير.. وإنما كانوا يسوونهم بالله من جهة الطاعة والمحبة فيحبونهم كحب الله تعالى وأشد، ويقدمون أمرهم وطاعتهم على أمره وطاعته عز وجل، فحصلت بذلك تلك المساواة الشركية. قال ابن القيم رحمه الله: ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل، وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يسوى التراب برب الأرباب؟! وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب؟! وقال: هذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه في أفعاله وصفاته وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها في المحبة والعبودية والتعظيم.. ولم تكن تسويتهم لهم بالله في كونهم خلقوا السماوات والأرض أو خلقوهم أوخلقوا آباءهم، وإنما سووهم برب العالمين في الحب لهم كما يُحب الله فإن حقيقة العبادة هي الحب والذل.. اهـ. وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان " [28]. أي من كان هذا ديدنه وشأنه في جميع شؤونه وتعامله مع الآخرين فقد استكمل التوحيد والإيمان.. فالناس يتفاوتون في الإيمان والتوحيد تبعاً لتفاوتهم في الحب في الله، والبغض في الله وغير ذلك من الطاعات. أما من انتفى عنه مطلق الحب في الله، والبغض في الله.. فقد انتفى عنه مطلق التوحيد، ومطلق العبودية لله تعالى. وقال صلى الله عليه وسلم: " أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله تعالى " [29]. قلت: إذا كان أوثق عرى الإيمان والتوحيد: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله.. فإن مفهوم المخالفة يقتضي أن يكون أوثق عرى الكفر والشرك: الموالاة في المخلوق، والمعاداة في المخلوق، والحب في المخلوق، والبغض في المخلوق.. أيَّاً كان هذا المخلوق، وكانت صفته. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن عبد حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين "، وفي رواية: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " مسلم. والإيمان لا ينتفي إلا لنوع شرك وعبادة تصرف لغير الله تعالى، ونوع الشرك هنا يكمن في تقديم محبة وطاعة الآخرين على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته الذي أمر الله تعالى بمحبته وطاعته لطاعته لله تعالى في كل ما يصدر عنه؛ كما قال تعالى عنه صلى الله عليه وسلم: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} وهذه ليست لأحدٍ بعده صلى الله عليه وسلم . وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله " مسلم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما فيه طاعة لله تعالى، ولا ينهى إلا عما فيه معصية لله تعالى . قال أبو سليمان الخطابي في شرحه لحديث " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولد ه ووالده والناس أجمعين ": معناه لا تصدق في حبي حتى تفنى في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك اهـ. ومن الأدلة كذلك على صحة شرط المحبة للتوحيد، أن انتفاء المحبة من لوازمه حصول ضدها من البغض والكراهية للتوحيد.. وكره أو بغض التوحيد كفر أكبر مخرج لصاحبه من الملة، كما قال تعالى: {والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم. ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} محمد: 8-9. فعلل كفرهم وحبوط أعمالهم - ولا يُحبط العمل إلا الكفر والشرك - بأنهم كرهوا ما أنزل الله على أنبيائه ورسله من الدين؛ وأعظم ما أنزل الله تعالى على أنبيائه شهادة التوحيد: لا إله إلا الله. وقال تعالى عن الكافرين وهم يستغيثون في جهنم ولا مغيث: {ونادَوا يا مالك ليقضِ علينا ربك قال إنكم ماكثون. لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون} الزخرف: 77-78. فعلل سبب مكثهم في جهنم أنهم كانوا للحق الذي جاءهم من عند ربهم كارهون؛ وأعظم ما جاءهم من الحق شهادة التوحيد لا إله إلا الله.. فكانوا لها كارهين، فاستحقوا بذلك العذاب والخلود في نار جهنم. وقال تعالى: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر} محمد: 25-26. فهؤلاء ارتدوا وكفروا بعد أن ظهر لهم الإيمان ودخلوا فيه بسبب أنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر مما فيه مُضاهاةٍ وتكذيبٍ لشرع الله تعالى وتوحيده.. فكفروا وارتدوا بسبب مقولتهم هذه! فكيف بمن يقول لهم - كحال طواغيت العصر الذين قالوا لليهود والنصارى - سنطيعكم في كل الأمر؟! فكيف بالذين يدخلون في طاعة طواغيت الحكم وموالاتهم - كحال المتزلفين الذين هان عليهم دينهم - ويقولون لهم سنطيعكم في كل الأمر، وفي كل ما يصدر عنكم من تعليمات وأوامر وقوانين تضاهي شرع الله تعالى؟! فكيف بالذين كرهوا ما نزل الله تعالى ذاتهم؟! لا شك أنهم أولى بالكفر والارتداد ممن قال للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر وليس كله! وعليه فمن يأتي بشهادة التوحيد وهو لها ولأهلها كاره مبغض فهو كافر مرتد، مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار.. لا ينفعه شيء مما قدم من أعمال وطاعات. علامات المحبة الصادقة : سهل على كل أحد وهو متكئ على أريكته أن يدعي حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحب التوحيد وأهله.. ولكن هل لهذا الإدعاء من برهان يصدقه أو يكذبه؟ أقول نعم لكل ادعاء علامات وبراهين تصدقه أو تكذبه، وللمحبة الصادقة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم علامات أهمها: 1) حصول المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم : فمن أصدق علامات المحبة المتابعة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته؛ حيث كلما كملت المتابعة كلما قويت المحبة لله تعالى، وكلما نقصت المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم وللشريعة التي جاء بها من عند ربه كلما ضعفت المحبة، فعلى قدر الاتباع والمتابعة تكون المحبة ارتفاعاً وانخفاضاً، ومن زعم المحبة من غير اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كذاب أشر مهما زعم بلسانه أنه يحب الله ورسولَه. قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} آل عمران: 31. قال ابن كثير في التفسير: هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله اهـ. وقال ابن تيمية في الفتاوى 8/360: فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب، وليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه، كدعوى اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين اهـ. وقال تلميذه ابن القيم في المدارج 1/99: وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة، ولهذا جعل اتباع رسوله علَماً عليها، وشاهداً لمن ادعاها، فقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، فجعل اتباع رسوله مشروطاً بمحبتهم لله، وشرطاً لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذاً ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم .. اهـ. ومن دلالات الآية الكريمة أن من ينتفي عنه مطلق المتابعة الظاهرة لا يكون مؤمناً ولا محباً لله تعالى .. فهي دليل آخر على كفر من ينتفي عنه جنس العمل بالشريعة وإن أتى بالإقرار والتصديق ! 2) إيثار الله ورسوله في حال حصول الاختيار : من العلامات الدالة على المحبة الصادقة إيثار جانب الله تعالى ورسوله في حال حصل له الاختيار بين طاعة الله ورسوله وبين طاعة ما سواهما من الخلق وكل ما يتجاذبه من فتنة الحياة الدنيا.. فإن آثر جانب طاعة الله ورسوله وحبهما على كل ما يتجاذبه من زينة الحياة الدنيا وفتنتها فقد صدق في دعواه للمحبة، وإن آثر الطرف الآخر بكل زينته وفتنته على الله ورسوله وقدم طاعته على طاعتهما، فقد كذب في دعواه المحبة وكان من المشركين. قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} التوبة: 24. فهذه الأشياء من زينة الحياة الدنيا لو جمعت كلها في جانب - وهذا ما يقتضيه حرف العطف الوارد في الآية الكريمة - فقدمت على طاعة الله ورسوله وعلى حبهما لكان من المشركين الفاسقين الذين خسروا الدنيا والآخرة. قال ابن القيم في المدارج 1/100: دل على أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما؛ فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه ألبتة، ولا يهديه الله، قال الله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} . فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحدهم على معاملة الله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وإن قاله بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بخلاف ما هو عليه، وكذلك من قدم حكم أحدٍ على حكم الله ورسوله، فذلك المقدَّم عنده أحب إليه من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. اهـ. 3) البلاء والصبر عليه : فمن علامات الإيمان وصدق المحبة البلاء والصبر عليه كما قال تعالى: {أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون} العنكبوت: 2. أي أحسب الناس أن يدعوا المحبة وأنهم من أهل التوحيد والعبودية الخالصة لله تعالى ثم هم لا يُفتنون ولا يُبتلون في دينهم وفي سبيل نصرة هذه الدعوة.. ليميز منهم الصابر المجاهد الصادق في دعواه أنه من المؤمنين من غيره ممن ينقلب على عقبيه من أول فتنة تنزل في ساحته ! كما قال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَا أخبارَكم} محمد: 31. فصبرهم على البلاء هو علامة صادقة على صدق المحبة والعبودية،وصدق الجهاد في سبيل الله.. أما أولئك الذين يزعمون الإيمان والتوحيد ثم هم ينقلبون على أعقابهم لأدنى فتنة تصيبهم، أو تنزل في ساحتهم قال تعالى عنهم: {فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} العنكبوت: 10. وقال تعالى: {وإن أصابته مصيبة انقلب على عقبيه خسر الدنيا والآخرة} الحج: 11. فالمرء يُبتلى على قدر دينه وإيمانه وتوحيده، وصدق محبته فإن قوي إيمانه وصدق في توحيده لله تعالى وحبه له عز وجل، اشتد عليه البلاء وصبَّره عليه، كما في الحديث: " يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ". وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الصالحين يُشدد عليهم..". وقال صلى الله عليه وسلم: " كما يُضاعف لنا الأجر كذلك يُضاعف علينا البلاء ". لذلك فإن الأنبياء - لكمال إيمانهم وصدق عبوديتهم لله تعالى - فإنهم أشد الناس بلاءً في الله وصبراً على البلاء، كما في الحديث: " أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل "، وقال صلى الله عليه وسلم: " ما أوذي أحد ما أوذيت في الله تعالى ". وعن أبي سعيد الخدري أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك، وعليه قطيفة فوضع يده عليه، فوجد حرارتها فوق القطيفة، فقال أبو سعيد: ما أشدُّ حُمَّاك يا رسول الله! قال: " إنا كذلك يشتد علينا البلاء ويُضاعف لنا الأجر ". فقال يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: " الأنبياء ثم الصالحون..". وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله يا رسول الله إني أحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن البلايا أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه " [30]. أي توقع البلاء إن كنت صادقاً فيما تقول.. فعلامة حبك لي، أن تُبتلى في الله وتصبر على البلاء! وبعد، هذه علامات ودلالات المحبة الصادقة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم: الاتباع.. والإيثار.. والبلاء.. فمن عدمها عدم صدق المحبة وصدق التوحيد والعبودية لله تعالى وحده. وإن زعم بلسانه خلاف ذلك، وتشبع بما لم يُعط، وأظهر أنه من المؤمنين ومن الموحدين الذين يحبون الله تعالى ورسوله فواقع حاله ولسان عمله يحكم عليه بكل وضوح وصراحة: أنه من الكاذبين.. وأنه من المنافقين الكافرين ! [28] أخرجه أبو داود وغيره، السلسلة الصحيحة: 380. [29] أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع الصغير: 2539. [30] أخرجه ابن حبان، السلسلة الصحيحة: 1586. قلت: وجميع ما تقدم من أحاديث عن البلاء هي صحيحة ولله الحمد. ومن هذه الأحاديث وغيرها نستفيد أن المبتلى في الله تعالى - وبخاصة منهم الذين يشتد عليهم البلاء في الله - يجب أن توسع في حقهم ساحات التأويل والأعذار في حال وقوعهم في الزلات والأمور المتشابهات.. وأن يُقدم في حقهم تحسين الظن على إساءة الظن بهم.. وهذا خلق سني نبوي شريف حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا وقع أحد من أصحابه في زلة وشبهة مريبة.. أقال عثرته وتأول له، وتذكر له الساحات التي ابتلي فيها في الله تعالى .. لا يا عمر، إنه من أهل بدر .. بينما من لم يُعرف عنه بلاء في الله كانت تضيق في حقه ساحة التأويل والأعذار.. وهذه قاعدة جليلة ينبغي التنبه لها عند الخوض في المسائل الكبار كمسائل الكفر والإيمان. الشرط الثامن: الرضى بها والانقياد والتسليم لها لا يكفي العمل بالتوحيد حتى ينضاف إليه الرضى، والانقياد والتسليم - الباطن منه والظاهر - الذي ينافي مطلق التعقيب أو الاعتراض.. قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليماً} النساء: 65. لا يكفي لتحقيق الإيمان أن تحتكم إلى التوحيد الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه إلا إذا أضفت إليه انتفاء الحرج وحصول الرضى {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت}، ثم لا يكفي ذلك كذلك إلا إذا أضفت إليه التسليم المطلق - ظاهراً وباطناً - الذي يتنافى معه أدنى اعتراض أو تعقيب {ويُسلموا تسليماً}. قال ابن كثير في التفسير: يُقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا مناعة اهـ. وقال ابن تيمية في تفسير الآية في كتابه الفتاوى 28/471: فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا، وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه، ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة. اهـ. وقال ابن القيم في التبيان 270: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع، وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض. اهـ. ويقول سيد في الظلال: {فلا وربك لا يؤمنون..} ، ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحد الإسلام، يقرره الله سبحانه بنفسه ويُقسم عليه بذاته، فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام ولا تأويل لمؤول، اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام، وإذا كان يكفي لإثبات الإسلام أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله.. فإنه لا يكفي في الإيمان هذا ما لم يصحبه الرضى النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب والجنان.. اهـ. وقال تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} النور: 47-48. فهؤلاء أتوا بالقول، ولئن سألتهم ليقولن أمنا بالله وبالرسول وأطعنا.. ولكن في واقع العمل يكذبون هذا الادعاء وهذا القول؛ وذلك إذا دعوا إلى الطاعة عملاً وإلى الاحتكام إلى الله والرسول أعرضوا وأدبروا وولوا.. وكأن الأمر لا يعنيهم في شيء، وهؤلاء بنص التنزيل: {وما أولئك بمؤمنين}. قال الطبري في التفسير18/156: {وما أولئك بالمؤمنين} ؛ وليس قائلوا هذه المقالة، يعني قوله {آمنا بالله وبالرسول وأطعنا} بالمؤمنين لتركهم الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عنه إذا دعوا إليه. اهـ. وإذا كان الحكم بغير ما أنزل الله تعالى منه ما يكون كفراً أكبر، ومنه ما يكون كفراً أصغر دون ذلك بحسب صفة الحكم والقرائن المحيطة بكلٍّ منهما.. على تفصيل معروف عند أهل العلم، إلا أن الحكم بغير ما أنزل الله في التوحيد ليس له إلا وجه واحد: وهو الكفر الأكبر المخرج من الملة والعياذ بالله. قال الشيخ سليمان آل الشيخ رحمهما الله تعالى: تحقيق معنى الآية أن الحكم بغير ما أنزل الله إن كان في الأصل من التوحيد وترك الشرك، أو كان في الفروع ولم يقر اللسان وينقد القلب فهو كفر حقيقي لا إيمان معه.. اهـ. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} الحجرات: 1-2. إنه الاستسلام المنافي لأدنى تقديم بفهم أو رأي أو قول بين يدي حكم الله تعالى وحكم رسوله.. فمن الله تعالى الرسالة، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ، ومنا القبول والرضى والاستسلام من غير اعتراض ولا تقديم أو تعقيب. وإذا كان رفع الصوت - مجرد الصوت - فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم يُخشى على صاحبه أن يحبط عمله، ولا يُحبط العمل إلا الشرك والكفر.. فكيف بمن يرفع حكمه وقوله وقانونه - كما هو شأن المشرعين في مجالسهم النيابية التشريعية - على حكم وقول وقانون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقدمه عليه.. لا شك أنه أولى بالكفر والشرك، وأن يحبط عمله! قال ابن القيم رحمه الله في الأعلام 1/51: فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه، أليس هذا أولى أن يكون مُحبطاً لأعمالهم. اهـ. وقال تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} الأحزاب: 36. فمن لوازم الإيمان وشروطه انتفاء الاختيار على حكم الله تعالى ورسوله.. فإذا نزل حكم الله تعالى ليس لهم أن يختاروا غيره - ثم يزعموا أنهم مسلمون - إلا في حال آثروا الكفر على الإيمان، وارتضوا لأنفسهم حكم واسم الكافرين المشركين. قال تعالى: {فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذاب أليم} النور: 63. والفتنة هنا يُراد منها الشرك والكفر.. قال الإمام أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: {فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة} وجعل يكررها، ويقول: وما الفتنة؟ الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه. وقيل له: إن قوماً يدَعون الحديث، ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ! فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصِحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ! قال الله تعالى: {فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة} وتدري ما الفتنة؟ الكفر.قال الله تعالى: {والفتنة أكبر من القتل}، فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي! [31]. قلت: هذا حكم الإمام أحمد فيمن يدع قول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول سفيان أو غيره من أهل العلم.. فكيف بمن يدع قول النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه إلى قول وحكم الأحبار والرهبان من المشرعين في المجالس النيابية التشريعية وغيرها.. لا شك أنه أولى بالفتنة وفي الوقوع في الزيغ والكفر! [31] عن الصارم المسلول لابن تيمية: 56. الشرط التاسع: الموافاة عليها ثم بعد كل ذلك لا بد له من أن يموت عليها لكي ينتفع بها، فإن مات على ضدها من الشرك والكفر لم تنفعه مجموع الشروط السابقة، أو الطاعات الأخرى.. وذلك أن العبرة بالموافاة وبما يُختم به على المرء؛ فإن ختم له بالتوحيد فهو من أهل الجنة والنجاة مهما كان منه من عمل طالح قبل ذلك، وإن ختم له بالشرك والكفر ومات عليه هلك وهو من أهل النار مهما كان منه من عمل صالح قبل ذلك. قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} البقرة: 217. وقال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، خالدين فيها لا يُخفف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون} البقرة: 161-162. فعلق عز وجل عذابهم في النار وخلودهم فيها بالموت على الكفر المناقض للتوحيد.. وفي الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة " مسلم. فعلق دخول الجنة بالموت على التوحيد.. وقال صلى الله عليه وسلم: " فوالذي نفسي بيده إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تعجبوا بعمل أحدٍ حتى تنظروا بما يُختم له، فإن العامل يعمل زماناً من دهره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملاً سيئاً، وإن العبد ليعمل زماناً من دهره بعمل سيء لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملاً صالحاً وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله قبل موته فوفقه لعمل صالح، ثم يُقبض عليه " [32]. قال النووي رحمه الله: فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل، هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة اهـ. نسأل الله تعالى الثبات، وأن يثبت قلوبنا على دينه وتوحيده، وأن يُحسن خاتمتنا بأحب الأعمال إليه.. إنه تعالى سميع قريب مجيب. وبعد، فهذه هي شروط صحة التوحيد، فمن وفاها كاملة غير منقوصة نفعته شهادة التوحيد، ومن أنقص منها شيئاً لم تنفعه شهادة التوحيد في شيء. ومبدأ التوفيق والأخذ بمجموع النصوص ذات العلاقة بالموضوع يلزمنا بأن نقول: من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله، وكان عالماً بشهادة التوحيد ومتطلباتها، وصادقاً مخلصاً بها، مستيقناً غير شاك فيها، ومحباً لها ولأهلها، وعاملاً بها وبمقتضياتها، منقاداً لها ولحكمها، ثم بعد كل ذلك مات عليها.. إلا أدخله الله الجنة. هذا ما يقتضيه مبدأ النظر والأخذ بمجموع النصوص ذات العلاقة بشهادة التوحيد لا إله إلا الله. [32] أخرجه أحمد وغيره، السلسلة الصحيحة: 1334. تنبيهات هامة وضرورية تتمة للفائدة، وتوضيحاً لما قد يُشكل على القارئ فهمه، نشير إلى التنبيهات الضرورية التالية: التنبيه الأول: أن ما تقدم من شروط لشهادة التوحيد لا إله إلا الله، هي شروط لا بد من استيفائها وتحققها لانتفاع صاحبها منها في الآخرة، وحتى يكون من أهل الجنة والنجاة من العذاب يوم القيامة، أما في الحياة الدنيا لكي تُجرى على المرء أحكام الإسلام ويُعامل معاملة المسلمين.. يكفي له أن يقر بشهادة التوحيد لفظاً، وأن لا يأتي بما يضادها من الأقوال والأعمال الظاهرة الكفرية والشركية. فإن وفَّى بهذين الشرطين فقط عومل معاملة المسلمين، وجرت عليه أحكامهم وحقوقهم وواجباتهم. وهذا لا يستلزم أن يكون مؤمناً على الحقيقة لاحتمال وجود النفاق.. فليس كل مسلم هو مؤمن على الحقيقة، ولكن كل مؤمنٍ على الحقيقة هو مسلم، وهذه قاعدة سنية معروفة دلت عليها نصوص الشريعة، وتناولها أهل العلم بالشرح والتفصيل. التنبيه الثاني: ما تقدم يحملنا على أن نشير إلى الفارق بين ما يدخل به المرء الإسلام، وبين الوصف الذي به يستمر له حكم الإسلام. أما ما يدخل به الإسلام هو إقراره بشهادة التوحيد على تفصيل قد تقدم، أما الوصف الذي يجب أن يستمر عليه لكي يبقى في دائرة الإسلام هو أن لا يأتي بالأعمال والأقوال الظاهرة التي تؤدي به إلى الخروج من دائرة الإسلام، فإن فعل وأتى بما يناقض الإسلام ينتقل وصفه وحكمه إلى وصف وحكم المرتد عن الدين حيث تُجرى عليه أحكامه وتبعاته. فإن قيل: رجل دخل الإسلام بشهادة التوحيد، ثم مات قبل أن يتمكن من فعل أي شيء مما يُعتبر شرطاً لصحة التوحيد.. فهل شهادة أن لا إله إلا الله تنفعه يوم القيامة بمفردها؟ أقول: قد دلت السنة - ولله الحمد - أن من كان هذا وصفه، فإنه ينتفع بشهادة التوحيد، وإن لم تتح له الفرصة على أن يعمل شيئاً من شروط صحة التوحيد، كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه أن رجلاً من الأنصار جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، ثم تقدم فقاتل حتى قُتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عمل يسيراً وأجر كثيراً ". وفي رواية عند البخاري: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله أقاتل أو أُسلم؟ قال: " أسلم ثم قاتل "، فأسلم ثم قاتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عمل قليلاً وأجر كثيراً ". وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن غلاماً يهودياً كان يضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه، ويُناوله نعليه، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا فلان قل لا إله إلا الله ". فنظر إلى أبيه، فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى أبيه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم. فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " الحمد لله الذي أخرجه بي من النار ". وفي حديث تلقين النبي صلى الله عليه وسلم شهادة التوحيد لعمه أبي طالب وهو يحتضر، لكي يتشفع له بها يوم القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح: " كلمة أُحاج لك بها عند الله تعالى.. "، هو كذلك مما يُستدل به في المسألة. قال ابن جرير الطبري في الجامع 3/345: لا خلاف بين جميع الحجة في أن كافراً لو أسلم قبل خروج نفسه بطرفة عين أن حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه والموارثة وسائـر الأحكام غيرهما، فكان معلوماً بذلك أن توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الإسلام. اهـ. قلت: هذه الطرفة عين التي ذكرها الطبري رحمه الله يجب أن تُحمل على أنها قبل الغرغرة والمعاينة؛ لأن التوبة عند الغرغرة لا تنفع صاحبها في شيء، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " [33]. وفي رواية: " من تاب إلى الله قبل أن يغرغرَ، قبل الله منه " [34]. التنبيه الثالث: ليس من شروط صحة التوحيد حفظ شروط صحة التوحيد الآنفة الذكر، أو حفظ الأدلة عليها.. فهذا من وجه لم يُشرع وإنما شُرع خلافه، ومن وجه آخر فيه تكليف لعموم العباد ما هو فوق الطاقة والمقدور. أخرج مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: كانت لي جارية ترعى غنماً لي قِبل أحدٍ والجوانيه، فاطلعت ذات يومٍ، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظَّم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: " ائتني بها " فأتيته بها، فقال لها: " أين الله؟ " قالت: في السماء، قال: " من أنا؟ ". قالت أنت رسول الله. قال: " أعتقها فإنها مؤمنة ". فحكم لها صلى الله عليه وسلم بالإيمان بهذا القدر من الأسئلة من دون أن يخوض معها في مسائل الأصول وتفريعاته، ويطالبها بالاستدلال على ذلك! وفي سنن أبي داود عن عبد الله ابن أبي أوفى، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يُجزئني منه، قال: " قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله ". قال: يا رسول الله هذا لله عز وجل فما لي؟ قال: " قل اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني " فلما قام، قال هكذا بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما هذا فقد ملأ يدَه من الخير " [35]. فهذا الصحابي لم يتمكن من حفظ شيءٍ من القرآن؛ حتى الفاتحة التي لا تصح الصلاة إلا بها فإنه لم يحفظها، لكن لعجزه وعدم استطاعته في أن يحفظ شيئاً عذره النبي صلى الله عليه وسلم ودله على البديل الأسهل عليه، ولم يقل له لا بد من أن تحفظ الفاتحة.. فضلاً عن أن يطالبه بحفظ الأصول والأدلة عليها! بل نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على خالد استعجاله في قتل أولئك النفر الذين لم يُحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا - بدلاً من ذلك - صبأنا، كما في صحيح البخاري عن سالم عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني حذيفة، فلم يُحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا: صبأنا.. صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، فأمر كل رجل منا أن يقتل أسيره! فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره ! فذكرنا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.. اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.. مرتين "! وفي ذلك تنبيه لخطأ الغلاة المكفرة الذين يحملون الآخرين على أن يذكروا أصولهم وتقريراتهم وشذوذاتهم بأدلتها.. ومن لم يجبهم إلى ذلك فهو عندهم ليس بمؤمنٍ، وحكم الكفر يلحق به مباشرة! فالمرء عندهم ليس بمؤمنٍ حتى يجيبهم أولاً على أكثر من مائة سؤال: ماذا تقول في كذا.. وما حكم كذا.. وما معنى كذا.. وما هي شروط كذا.. إلى آخر القائمة التي قد يعجز عن الإجابة عليها بأدلتها أهل العلم والفقه! قال ابن حجر في الفتح 13/439، نقلاً عن الغزالي رحمه الله: أسرفت طائفة فكفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لم يعرِّف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرروها فهو كافر، فضيقوا رحمة الله الواسعة وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة من المتكلمين! اهـ. وقال ابن حزم رحمه الله في المحلى 1/61: لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ بعثه الله تعالى إلى أن قبضه يقاتل الناس حتى يقروا بالإسلام ويلتزموه، ولم يكلفهم استدلالاً، ولا سألهم هل استدلوا أم لا، وعلى هذا جرى جميع الإسلام إلى اليوم اهـ. التنبيه الرابع: إن قيل إذا كان لا يجب عليه حفظ شروط التوحيد، ولا تقريره بها.. كيف يُعرف أنه قد وفَّى حقَّ لا إله إلا الله وأتى بشروطها، وكيف تكون صفة إحيائه لتلك الشروط التي لا يصح الإيمان إلا بها؟! أقول: أولاً لا يلزم ولا يشترط أن يعرف عنه العباد التزامه بتلك الشروط، ومدى التزامه بها، وهل حققها في نفسه على الوجه المطلوب أم لا..فهذا بينه وبين ربه عز وجل، لا دخل للعباد فيه، وليس من حقهم أن يستجوبوه أو يحققوا معه في ذلك. لكن إن أظهر لهم من الأقوال أو الأعمال ما يدل على مناقضته لشروط التوحيـد أو بعضها.. حينئذٍ يكون قد عرف عن نفسه بنفسه بأنه لم يأتِ بالتوحيد المطلوب، أو أنه جاهـل به.. وبذلك يكون قد جعل للآخرين عليه سلطاناً في أن يأمروه بالمعروف وينهوه عن المنكر.. ويزجروه - بالقوة إن أمكن - إن لم ينزجر بالنصح والتي هي أحسن. أما صفة التزامه بتلك الشروط كيف تكون؟ أقول: يكفيه أن يلتزم بها في واقع حياته، وأن لا يأتي بضدها من الكفر والشرك.. فهو يبغض الطواغيت ويعاديهم في الله، ويقاتلهم.. ولكن قد لا يحسن أن يقول لك من شروط صحة التوحيد الكفر بالطاغوت، وصفة الكفر بالطاغوت تكون بالاعتقاد والقول والعمل وبحسب التفصيل المتقدم! وهو كذلك يحب في الله ويبغض في الله.. ويتوجه في العبادة لله وحده.. يفعل ذلك كله من دون أن يحسن التعبير عنها، ويذكرها كشروط وبالتسلسل كما ذكرناها من قبل! وربما لو ذكرت بعض شروط التوحيد أمامه على وجه التفصيل.. لقال لك: هكذا أنا.. كأنك تتكلم عما في نفسي.. لكني لا أحسن دندنتك، ولا سردك وصفك للكلام [36]! التنبيه الخامس: قد يُقال إن من أهل العلم من عدَّ للتوحيد شروطاً ثمانية، ومنهم من حصرها في سبعة شروط.. فكيف عددتها تسعة شروط؟! أقول: لا تنافي بين تلك الأقوال ولله الحمد، وبيان ذلك: أن من عدها سبعة شروط أو ثمانية.. فهو يضمن شرطين في شرطٍ واحدٍ؛ كقول أحدهم: العمل بالتوحيد شرط لصحته، ولم يذكر شرط الكفر بالطاغوت منفرداً لدخوله في العمل بالتوحيد.. فكل من عمل بالتوحيد لزمه الكفر بالطاغوت، وليس كل من كفر بالطاغوت لزمه العمل بمطلق التوحيد. وبعضهم - كالشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبناءه رحمهم الله - ذكروه كشرط مستقل، لدلالة النصوص عليه، ولبيان أهميته.. كما يُذكر خاص من عام لبيان أهميته، وللضرورة التي تقتضي مثل هذا التفصيل. كذلك شرط انتفاء الشك وحصول اليقين.. أحياناً يُذكر على أنه شرطان: انتفاء الشك شرط.. وحصول اليقين شرط ثانٍ، ولا تنافي بين الحالتين ولله الحمد لتضمنهما نفس المعنى والدلالة.. وإن اختلفا في العدد، فهذا الاختلاف لا يؤثر ولا قيمة له. إلا أن شرط الموافاة على التوحيد لم أقف على قول عالم ذكره ضمن شروط صحة التوحيد.. لكنهم جميعهم - ومن دون مخالف - ذكروه مستقلاً، وأنه شرط للنجاة وصحة التوحيد النافع يوم القيامة.. لدلالة النصوص العديدة على ذلك، وقد تقدم ذكر بعضها. لأجل ذلك ذكرناه من ضمن شروط صحة التوحيد الآنفة الذكر! هذا وجه من أوجه الجواب، ووجه آخر أن الشرط يُعرف بدلالة النصوص الشرعية عليه فإذا وردت النصوص الدالة عليه تعيَّن القول به ولا بد، وإن غفل عن ذكره بعض أهل العلم ولم يعدوه من ضمن الشروط التي ذكروها.. فالحجة تقوم بالدليل الشرعي لا فيما قد غفل عن ذكره أهل العلم، والله تعالى أعلم. التنبيه السادس: يوجد فرق بين شروط صحة آحاد الأعمال الشرعية، وبين شروط صحة مجموع الأعمال والدين. فما تقدم ذكره عن شروط لا إله إلا الله.. هي شروط لصحة مجموع الدين والأعمال، أما شروط صحة آحاد الأعمال التعبدية فهي تنحصر في شرطين: أحدهما : المتابعة والموافقة لهدي وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعبد به.. فإذا جاءت العبادة بخلاف المشروع والمسنون لا تُقبل، وهي رد على صاحبها، كما في الحديث الصحيح: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد" متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ". وقال صلى الله عليه وسلم: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". وقال صلى الله عليه وسلم: " خذوا مناسككم عني " وغيرها من الأدلة التي تفيد وجوب الاتباع وحرمة وبطلان الابتداع. ولأن العبادة الأصل فيها الحظر والمنع ما لم يرد فيها نص يُفيد الإباحة والجواز، أو الوجوب. الثاني: أن يكون العمل خالصاً لوجه الله تعالى، لا يشوبه الشرك أو المراءاة، فإن جاء العمل موافقاً للسنة لكنه ابتغي به غير وجه الله تعالى، أو أحداً آخر مع الله.. رُدَّ العمل ولم يُقبل، كما في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشركه " مسلم. وفي رواية: " فأنا منه بريء وهو للذي أشرك ". ومن الأدلة الجامعة للشرطين قوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً} الكهف: 110. قال أهل العلم والتفسير: العمل الصالح هو ما وافق السنة.. {ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً} هو إخلاص العبادة لله تعالى . التنبيه السابع: قد يتوهم البعض أن شهادة أن لا إله إلا الله ترفع السيف عن قائلها أياً كان قائلها، وكانت صفته وحالته، معتمدين في ذلك على قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه لما قتل رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله، وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم الشديد عليه. كما في صحيح مسلم عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أقال لا إله إلا الله وقتلته؟! "، قال: قلت يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!" فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ. وفي الصحيح كذلك، عن المقداد بن الأسود أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يديَّ بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله، قال: فقلت يا رسول الله إنه قد قطع يدي ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال ". فقوله صلى الله عليه وسلم " فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال " أي إنه يصير بقوله للشهادة معصوم الدم مثلك قبل أن تقتله، وأنت تصبح مباح الدم مثله قبل أن يقول كلمة التوحيد لوجوب القصاص عليك. ولا يُفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: " وإنك بمنزلته.." أي تصير بمنزلته في الكفر كما فهم ذلك بعض الغلاة، فهذا بعيد ولا يصح. فإن قيل علام لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بذاك الرجل الذي قتله بعد أن قال لا إله إلا الله؟! أقول: لأن أسامة كان متأولاً وجاهلاً للحكم فأقال ذلك عثرته، بينما المقداد بعد أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم على سؤاله..لم يعد يُعذر بالجهل أو التأويل، لذلك قال له في المرة الثانية وبعد أن أجابه على سؤاله: " إنك - إن فعلت - بمنزلته قبل أن يقول كلمته ". هذه النصوص وغيرها تفيد أن الكافر المحارب لو قال لا إله إلا الله في أجواء القتال أو غيرها.. رُفع عنه السيف وعصم دمه وماله. قال ابن تيمية في الصارم: ولا خلاف بين المسلمين أن الحربي إذا أسلم عند رؤية السيف وهو مطلق أو مقيد يصح إسلامه وتقبل توبته من الكفر، وإن كانت دلالة الحال تقتضي أن باطنه خلاف ظاهره. اهـ. لكن ما تقدم هل يلزم منه أن كلمة التوحيد ترفع عن قائلها السيف، أياً كان قائلها وكانت صفته، وكان ذنبه؟! أقول: لا يلزم ذلك.. ولبيان ذلك يتعين علينا ذكر الحالات التي لا يُرفع فيها السيف عمن يقول لا إله إلا الله. الحالة الأولى: المرتد ردة مغلظة : وهو الذي يتبع ردته حرباً لله ولرسوله وللمؤمنين، فيزداد بذلك كفراً على كفر.. فمثل هذا لا تقبل توبته بعد القدرة عليه، ولا يُستتاب، ولو تاب وجهر بلا إله إلا الله لا يُقبل منه ولا يرتفع عنه السيف وحد القتل. قال تعالى: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون} آل عمران: 90. قال ابن تيمية في الصارم: أخبر سبحانه أن من ازداد كفراً بعد إيمانه لن تقبل توبته، وفرق بين الكفر المزيد كفراً والكفر المجرد في قبول التوبة من الثاني دون الأول، فمن زعم أن كل كفر بعد الإيمان تقبل منه التوبة فقد خالف القرآن. اهـ. وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رهطاً من عُكل ثمانية قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتووا المدينة، فقالوا: يا رسول الله أبغنا رِسْلاً، قال: ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود، فانطلقوا فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صحوا وسمنوا، وقتلوا الراعي واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فأتى الصريخ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبعث الطلب، فما ترجل النهار حتى أُتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فما يُسقون حتى ماتوا ". فعل بهم ذلك لأنهم أتبعوا ردتهم القتل، والنهب للأموال العامة للمسلمين.. فازدادوا بذلك كفراً. وعند البخاري كذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: " اقتلوه ". وقوله " متعلق بأستار الكعبة " أي تائباً يطلب الأمان.. ومع ذلك لم يُستتب ولم ينفعه ذلك في شيء، ولم ينفعه الأمان العام الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة، وبخاصة منهم من دخل المسجد الحرام.. بسبب أنه ارتد عن الإسلام، وضم إلى ردته القتل والشتم للرسول صلى الله عليه وسلم، والتحاقه بالمشركين! وكذلك فُعل بمقيس بن ضبابة، وابن سرح وغيرهم لما ضموا إلى ردتهم الحرب على لله وعلى رسوله والمؤمنين. قال ابن تيمية في الفتاوى 20/103: يُفرق في المرتد بين الردة المجردة فيقتل إلا أن يتوب وبين الردة المغلظة فيقتل بلا استتابة. اهـ. أما إن تاب قبل القدرة عليه، وجاء تائباً مستسلماً من تلقاء نفسه فالراجح أن توبته تقبل لقوله تعالى: {إنما جزاء الذين يُحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتلوا أو يُصلبوا أو تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب أليم. إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} المائدة: 33-34. فاستثنى الله تعالى مما تقدم التائب قبل القدرة عليه.. قال ابن تيمية في الصارم: إن الله سبحانه فرق بين التوبة قبل القدرة وبعدها، لأن الحدود إذا رُفعت إلى السلطان وجبت ولم يكن العفو عنها ولا الشفاعة، بخلاف ماقبل الرفع، ولأن التوبة قبل القدرة عليه توبة اختيار، والتوبة بعد القدرة توبة إكراه واضطرار، بمنزلة توبة فرعون حين أدركه الغرق، وتوبة الأمم المكذبة لما جاءها البأس، وتوبة من حضر الموت، فقال: إني تبت الآن فلم يُعلم صحتها حتى يسقط الحد الواجب، ولأن قبول التوبة بعد القدرة لو أسقط الحد لتعطلت الحدود وانبثق سدّ الفساد. اهـ. فإن قيل: التوبة قبل القدرة تُسقط حق الله وحق العباد معاً، أم أنه يوجد تفصيل وتفريق؟ أقول: الراجح من مجموع الأقوال الموافق لأدلة الشريعة أن المحارب إذا كان محارباً على وجه الردة، فتوبته قبل القدرة عليه تسقط حقوق الله وحقوق الآدميين معاً؛ وهذا ما جرت عليه سنة أبي بكر رضي الله عنه ومن معه من الصحابة مع أهل الردة الذين أعلنوا توبتهم وإيابهم إلى الحق والسمع والطاعة، وعندما أراد أبو بكر أن يأخذ منهم الفدية عن قتلى المسلمين، قال له عمر رضي الله عنه: إنهم - أي قتلى المسلمين - قاتلوا في سبيل الله وأجرهم على الله.. فامتنع أن يأخذ منهم الفدية، وعلى هذا جرى العمل بين الصحابة. أما إذا كان المحارب مسلماً - لكنه يقوم بعمل الحرابة والسطو وقطع الطريق - ثم تاب قبل القدرة عليه، فتوبته تسقط عنه حق الله وهو حد الحرابة دون حقوق الآدميين، فإن عليه القصاص وأداء الحقوق إلى أصحابها؛ فإن قتل يُقتل، وإن سلب المال أعاده إلى أصحابه إلا أن يعفوا عنه.. هذه إجابة مختصرة وتفصيلها له موضع آخر إن شاء الله. الحالة الثانية: الزنديق : الزنديق: هو المنافق الذي يُظهر كفره، فإن قامت عليه البينة القاطعة واستتيب أنكر وجحد. والراجح في الزنديق أنه يُقتل من غير استتابة - مهما تظاهر بالإسلام وقال لا إله إلا الله - لأن الاستتابة تكون من شيء، والزنديق لا يعترف بشيء فمما يُستتاب؟! قال تعالى: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذابٍ من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون} التوبة: 52. قال ابن تيمية في الصارم: قال أهل التفسير {أو بأيدينا} بالقتل إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلناكم، وهو كما قالوا؛ لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لا يكون إلا القتل لكفرهم، ولو كان المنافق يجب قبول ما يُظهر من التوبة بعدما ظهر نفاقه وزندقته لم يمكن أن يُتربص بهم أن يُصيبهم الله تعالى بعذابٍ من عنده بأيدينا؛ لأنا كلما أردنا أن نعذبهم على ما أظهروه أظهروا التوبة! ولأنه لو قبلت علانيتهم دائماً مع ثبوت ضدها لم يمكن إلى الجهاد على النفاق سبيل، فإن المنافق إذا ثبت عنه أنه أظهر الكفر فلو كان إظهار الإسلام حينئذٍ ينفعه لم يمكن جهاده. اهـ. وقال ابن القيم في زاد المعاد: وها هنا قاعدة يجب التنبه عليها لعموم الحاجة إليها وهي أن الشارع إنما قبل توبة الكافر الأصلي من كفره بالإسلام لأنه ظاهر لم يُعارضه ما هو أقوى منه فيجب العمل به لأنه مقتضى لحقن الدم والمعارض منتفٍ، فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه، فإظهاره - بعد القدرة عليه - للتوبة والإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية ولا ظنية.. ويا لله العجب! كيف يُقاوم دليل إظهاره للإسلام بلسانه بعد القدرة عليه أدلة زندقته وتكررها منه مرة بعد مرة، وإظهاره كل وقت للاستهانة بالإسلام والقدح في الدين والطعن فيه في كل مجمع، مع استهانته بحرمات الله واستخفافه بالفرائض وغير ذلك من الأدلة؟! ولا ينبغي لعالم قط أن يتوقف في قتل مثل هذا، ولا تُترك الأدلة القطعية لظاهرٍ قد تبين عدم دلالته وبطلانه. وقال: ومما يدل على أن توبة الزنديق بعد القدرة لا تعصم دمه، قوله تعالى: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذابٍ من عنده أو بأيدينا} قال السلف في الآية: أو بأيدينا؛ أي بالقتل إن أظهرتم ما في قلوبكم، وهو كما قالوا؛ لأن العذاب على ما يبطنون من الكفر بأيدي المؤمنين لا يكون إلا بالقتل، فلو قبلت توبتهم بعدما ظهرت زندقتهم لم يكن المؤمنين أن يتربصوا بالزنادقة أن يُصيبهم الله بأيديهم، لأنهم كلما أرادوا أن يُعذبوهم على ذلك أظهروا الإسلام فلم يُصابوا بأيديهم قط. اهـ. الحالة الثالثة: شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم : من كانت ردته من جهة شتم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يُقتل كفراً وحداً ومن دون أن يُستتاب؛ فإن تاب من الكفر - وصدق في توبته - بقي عليه حد الشتم، وحد الأنبياء القتل ولا بد؛ إذ لا يحق لأحدٍ أن يتشفع في حق هو ليس له، وإنما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن تيمية في الصارم: المرتد يستتاب من الردة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قتلوا الساب ولم يستتيبوه، فعُلم أن كفره أغلظ، فيكون تعيين قتله أولى.. إن قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان قتل كافراً، فهو حد من الحدود ليس قتلاً على مجرد الكفر والحراب، لما تقدم من الأحاديث الدالة على أنه جناية زائدة على مجرد الكفر والمحاربة ومن أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمروا فيه بالقتل عيناً.. وقد ثبت أن حده القتل بالسنة والإجماع. اهـ. هذا مختصر مفيد فمن لم يقنع به وأراد التفصيل مع ذكر الأدلة مفصلة فليراجع كتابنا " تنبيه الغافلين إلى حكم شاتم الله والدين "، فإن لم يقنع به وأراد المزيد فعليه بالكتاب العظيم " الصارم المسلول على شاتم الرسول " لشيخ الإسلام ابن تيمية، فقد أفاد وأجاد رحمه الله. الحالة الرابعة: فيمن يجب عليه حد القتل : فمن وجب عليه القتل لوقوعه في جريمة القتل بغير حق ونحو ذلك.. فإنه يُقتل حداً من حدود الله إلا أن يعفوا أولياء المقتول، وشاهدنا هنا: أن الجاني لو قال لا إله إلا الله قبل أن يُقتل فإنها لا ترفع عنه حكم القتل ولا السيف. وبعد، هذه بعض الحالات التي لا يرفع فيها السيف عن صاحبها وإن أتى بشهادة التوحيد: لا إله إلا الله قبل القتل.. أردنا الإشارة إليها على وجه الإيجاز لكي لا يلتبس الأمر على القارئ، فيحمل حديث أسامة بن زيد الآنف الذكر على جميع الحالات والأشخاص فيضل.. والله تعالى من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل. [33] أخرجه أحمد والترمذي، وابن ماجه وغيرهم، صحيح الجامع: 1903. [34] أخرجه الحاكم وغيره، صحيح الجامع: 6132. [35] صحيح سنن أبي داود: 742. [36] ذُكر لي أن رجلاً من عوام المسلمين يمتهن صناعة الأحذية، وكان ماهراً جداً في مهنته، وكان يحب النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، ويكثر من الصلاة عليه.. ومرة أخذ يتنهد ويتحسر لو أنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم .. فقيل له: ماذا كنت فاعلاً..؟ قال ببراءة العامي البسيط: كنت سأصنع للنبي صلى الله عليه وسلم أجمل حذاءٍ في العالم!! هذا هو أسلوبه.. وهذه هي بيئته.. وكل له طريقته في التعبير عن حبه للرسول صلى الله عليه وسلم! مثل شهادة التوحيد في القرآن الكريم قبل أن نودع القارئ الكريم.. نعود به ثانيةً إلى الحديث عن لا إله إلا الله.. وعن فضلها.. وعن مثَلها كما جاء في القرآن الكريم. قال تعالى: {ألم ترَ كيف ضرب اللهُ مثلاً كلمةً طيبةً كشجرة طيبةٍ أصلها ثابتٌ وفرعُها في السماء تؤتي أُكلها كُلَّ حينٍ بإذن ربها ويضربُ الله الأمثالَ للناسِ لعلَّهم يتذكرون} إبراهيم: 24. وهو مثل ضربه الله تعالى للعباد ليستمعوه، ويفقهوه، ويتأملوه، ويعملوا بدلالاته ومراميه.. ومن الدلالات الذي أفاده هذا المثل العظيم الذي ضربه الله تعالى للعباد عن شهادة التوحيد: 1) طيب العطاء.. فكما أن هذه الشجرة الطيبة لا تعطي إلا طيباً.. فهي طيبة في ثمارها.. طيبة في ظلها وأوراقها.. طيبة في رونقها وما تضفيه من جمالٍ بديع على الطبيعة والكون.. كذلك الكلمة الطيبة.. كلمة التوحيد فهي لا تعطي ولا تجني على صاحبها وعلى الوجود كله إلا طيباً وخيراً.. خير الدنيا والآخرة. بل هي التي تعطي للحياة معنى وقيمة.. فالدنيا من دون لا إله إلا الله لا قيمة لها ولا غاية شريفة.. وهي قاحلة مظلمة جدباء وإن بدت للعيان المغشي عليها غير ذلك! 2) وكما أن هذه الشجرة ثابتة ضاربة الجذور في الأرض وفي التاريخ لا يؤثر فيها الريح ولا العواصف.. ولا الزمن ولا الأيام.. بل الأيام لا تزيدها إلا ثباتاً ورسوخاً وعمقاً وشموخا.. كذلك كلمة التوحيد فهي ضاربة الجذور في قلب المؤمن الموحد.. أما من حيث الزمن والتاريخ فهي موجودة قبل الوجود.. يُغذي زرعها في الأرض الأنبياء والرسل والمجاهدون بالعرق والدم والجهاد، وبكل غالٍ ونفيس. 3) على قدر الثبات وعمق الجذور يكون العطاء ويكون الشموخ في السماء.. فكلما امتدت جذور الشجرة الطيبة في الأرض وتمكنت من شعابها وشروخها كلما كانت أقدر على امتصاص الغذاء والماء.. وكلما كان عطاؤها أوفر وأطيب وأجمل وأظهر شموخاً وارتفاعاً.. فطيب الثمر الذي يظهر للعيان، وكذلك هذا الشموخ للفروع والغصون هو من طيب الغذاء والتربة والماء! كذلك شهادة التوحيد.. فعلى قدر ثباتها وعمق جذورها في قلب المؤمن تظهر آثارها وفروعها على جوارحه ويكون العطاء.. تظهر في صورة انقياد البدن كله إلى الطاعة والعبادة وامتثال تعاليم الشريعة الغراء. فكلما تمكنت شهادة التوحيد من قلب المؤمن وتشعبت جذورها في قلبه إلى أن تستحوذ عليه من كل جوانبه وأطرافه.. كلما كان العطاء أكمل على فروع البدن والجوارح. وكذلك عندما يضعف التوحيد في القلب، ويصعب عليه التمدد في جميع أنحاء القلب وتشعباته - بسبب المعاصي والذنوب - يكون عطاؤه على الجوارح ضعيفاً.. إلى أن يبلغ بأحدهم - لضعف التوحيد في القلب - أن لا يعمل من الخير إلا ما يزن ذرة أو نحوها، كما جاء ذلك في الحديث. فالعطاء وانقياد الجوارح يزيد وينقص، يقوى ويضعف بحسب قوة وضعف التوحيد في القلب! من هذا الدليل وغيره نص أهل العلم على أن الإيمان يزيد وينقص، يقوى ويضعف.. بحسب ما تمده من الأعمال، فإن غذيته ومددته بالطاعات قوي الإيمان وازداد، وإن غذيته بالمعاصي والذنوب ضعف الإيمان وذبل بحسب ما تمده به! 4) فكما أن ثمار وفروع الشجرة تتأثر سلباً وإيجاباً بعمق وثبات الجذور في الأرض، كذلك الجذور الضاربة في الأرض فهي تتأثر بما يطرأ على الفروع والغصون وبما تمدها به.. فلو حُبست الشمس عن الغصون والأوراق، وكذلك لو حُبس عنها الماء أو الهواء.. نرى أن الجذور في الأرض تتأثر مباشرة بما قد طرأ على قسمها الظاهر منها، فتضعف وتذبل. ثم تأمل لو أن هذه الشجرة غُذيت بمياه المجاري وبالمياه الملوثة كيف أن طعم ثمارها يتغير ويسيء.. والعكس كذلك لو غذيت بالمياه النظيفة والأغذية النافعة.. ولم يُمنع عنها الماء والهواء. ترى كيف أن طعم ثمارها يتغير إلى الأطيب والأفضل.. وكيف أن جذورها تزداد قوة وعافية وثباتا. كذلك التوحيد والإيمان في القلب فإنه يؤثر ويتأثر، يؤثر بالجوارح الظاهرة بحسب قوته وضعفه كما تقدم، كذلك فإنه يتأثر من هذه الجوارح بحسب ما تمده به من أعمال.. فإن أمدته بالطاعات والأعمال الحسنة قوي الإيمان والتوحيد في القلب، وإن أمدته بالمعاصي والذنوب ضعف الإيمان وذبل بحسب ما تمده به الجوارح.. فهو يؤثر بالجوارح ويتأثر منها. وهو المراد من القاعدة السُّنية التي دلت عليها نصوص الشريعة التي تشير إلى علاقة الظاهر بالباطن وتأثر كل منهما بالآخر. كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسدُ كله، ألا وهي القلب " البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن العبد إذا أخطأ خطيئة - وفي رواية: إذا أذنب ذنباً - نُكتت في قلبه نُكتةٌ سوداء، فإذا نزَعَ واستغفر وتاب سُقِلَ قلبه، وإن عاد زيدَ فيها حتى تعلو قلبَه، وهو الران الذي ذكر الله {كلاَّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [37]. وقال صلى الله عليه وسلم: " تُعرض الفتنُ على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلبٍ أشربها نُكتت فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلبٍ أنكرها نُكتت فيه نكتة بيضاء.." مسلم. فتأمل كيف أن القلب يؤثر بالجوارح كما في حديث البخاري المتقدم، وكيف أنه يتأثر بأي ذنبٍ ترتكبه الجوارح الظاهرة كما في الحديثين الآخرين. وهذا يدل على فساد عقيدة أهل التجهم والإرجاء حيث يتصورون إمكانية أن تسير الجوارح الظاهرة في اتجاه.. والقلب في اتجاه آخر.. الجوارح تمارس الكفر البواح.. والباطن مطمئن بالإيمان.. ظاهر كافر وباطن مؤمن! لذا فإن الكفر عندهم هو شيء واحد هو كفر القلب وتكذيبه أو ما يدل دلالة صريحة - كالتعبير بالقول - على كفره وتكذيبه! وهذا قول خبيث باطل مردود عليه بصريح المنقول والمعقول.. ولأهل العلم كلام غليظ على هذا المذهب الضال وعلى أهله وأنصاره، ذكرناه في مواضع أخرى من أبحاثنا. 5) كذلك من خصائص هذه الشجرة الطيبة المباركة التي ضُربت مثلاً للتوحيد.. أنها دائمة العطاء على مدار الساعة والزمن.. فهي ليست كبقية الأشجار موسمية العطاء تُعطي في فصل ويتوقف عطاؤها في بقية الفصول.. بل عطاؤها مستمر على مدار الفصول، والأيام والساعات.. {تؤتي أُكلها كل حينٍ بإذن ربها..}. وهكذا شهادة التوحيد لا إله إلا الله.. فهي دائمة العطاء والخير لصاحبها على مدار الوقت.. فهي ليست كبقية العبادات كالصلاة أو الصوم، أو الحج، أو الزكاة عطاؤها محصور في وقت معين، وزمن محدد.. لا ! بل هي معه في الحل والترحال.. معه في السلم والحرب.. في الولاء والبراء.. في العزلة والخلطة.. وهو في عمله أو بيته أو أي مكان آخر.. توجهه وترشده إلى صواب القول والمواقف.. فهو حركاته وسكناته كلها مضبوطة وموجهة بموجه شهادة التوحيد.. لا إله إلا الله ! يُحسن ما تُحسنه لا إله إلا الله.. ويُقبح ما تُقبحه لا إله إلا الله.. يوالي فيها ويُعادي عليها.. فهي بذلك تكون كما وصف ربنا تيارك وتعالى: {تؤتي أكلها كلَّ حينٍ بإذن ربها..} وليس في حين دون حين! جميع هذه المعاني ينبغي أن نتذكرها ونتدبرها كلما مررنا على تلاوة هذه الآية الكريمة.. ووقفنا على هذا المثل العظيم الذي ضُرب لشهادة التوحيد، وهو المراد من قوله تعالى: {ويضرب الله الأمثال للناس لعلَّهم يتذكرون}. [37] صحيح سنن الترمذي: 2654. خاتمة قبل أن نختم هذا البحث الهام فقد آثرنا أن نودع القارئ بكلمات كتبت - عن لا إله إلا الله - بمداد من العرق والدم، علقت صاحبها على أعواد مشانق الطواغيت، للشيخ الشهيد - نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله - سيد قطب رحمه الله، اقتبسناها من كتابه القيم النافع " الظلال " وغيره.. عسى الله أن يهدي بها من ضل سواء السبيل ممن يحسبون أنهم على شيء أو يُحسنون صنعاً، إنه تعالى على ما يشاء قدير. قال رحمه الله: كل من ينطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لا يُقال له إنه شهد إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلهاً، ومن ثمّ لا يتلقى الشريعة إلا من الله.. ولن يكون الإسلام إذن هو النطق بالشهادتين دون أن يتبع شهادة أن لا إله إلا الله معناها وحقيقتها؛ وهي توحيد الألوهية وتوحيد القوامة، ثم توحيد العبودية وتوحيد الاتجاه.. هذا هو الإسلام كما يريده الله، ولا عبرة بالإسلام كما تريده أهواء البشرية في جيل منكود من أجيال الناس، ولا كما تصوره رغائب أعدائه المتربصين به وعملائهم هنا وهناك {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} . وأي تعديل في هذا المنهج - ودعك من العدول عنه - هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضرورة، يُخرج صاحبه من هذا الدين، ولو قال باللسان ألف مرة: أنه من المسلمين! والإسلام منهج للحياة كلها من اتبعه فهو مؤمن وفي دين الله، ومن اتبع غيره ولو في حكم واحد فقد رفض الإيمان واعتدى على ألوهية الله، وخرج من دين الله مهما أعلن أنه يحترم العقيدة وأنه مسلم، فاتباعه شريعة غير شريعة الله يكذب زعمه ويدفعه بالخروج من دين الله! {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} .. إن من أطاع بشراً في شريعة من عند نفسه ولو في جزئية صغيرة فإنما هو مشرك، وإن كان في الأصل مسلماً ثم فعلها فإنما خرج بها من الإسلام إلى الشرك أيضاً، مهما بقي بعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه، بينما هو يتلقى من غير الله ويطيع غير الله! المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم، إنها تتمثل في وجود أقوامٍ من الناس من سلالات المسلمين في أوطانٍ كانت في يومٍ من الأيام داراً للإسلام، يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته ثم إذا هذه الأرض وهذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقةً وتعلنه اسماً، وإذ هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً، وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً، فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله.. وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق هذا الكون المتصرف فيه، وأن الله وحده هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله، وأن الله وحده هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله.. وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله بهذا المدلول، فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد [38]. كائناً ما كان اسمه ولقبه ونسبه، وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله بهذا المدلول فهي أرض لم تدن بدبين الله ولم تدخل في الإسلام بعد. وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين وهم من سلالات المسلمين، وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام.. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله بذلك المدلول، ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول! إننا نجد في القرآن أن الله سبحانه لا يُعلم المسلمين العبادات والشعائر فحسب، ولا يُعلمهم الآداب والأخلاق فحسب - كما يتصور الناس الدين ذلك التصور المسكين - إنما هو يأخذ حياتهم كلها جملة، ويعرض كل ما تتعرض له حياة الناس من ملابسات واقعية، ولا يقبل من الفرد المسلم، ولا من المجتمع المسلم أقل من أن تكون حياته بجملته من صنع هذا المنهج وفق تصرفه وتوجيهه، وعلى وجه التحديد لا يقبل من الفرد المسلم ولا من المجتمع المسلم أن يجعل لحياته مناهج متعددة المصادر: منهجاً للحياة الشخصية وللشعائر والعبادات والأخلاق والآداب مستمداً من كتاب الله، ومنهجاً للمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية مستمداً من كتاب أحدٍ آخر، أو من أي تفكير بشري على الإطلاق.. وإلا فلا إيمان أصلاً ولا إسلام، ولا إيمان ابتداءً ولا إسلام لأن الذين يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد الإيمان ولم يعترفوا بعد بأركان الإسلام وفي أولها شهادة أن لا إله إلا الله التي ينشأ منها أن لا حاكم إلا الله ولا مشرع إلا الله. نجد كثيرين في كل زمان يقولون: إنهم يؤمنون بالله، ولكنهم يشركون معه في غيره في الألوهية حين يتحاكمون إلى شريعة من صنع غيره، وحين يطيعون من لا يتبع رسوله وكتابه، وحين يتلقون التصورات والقيم والموازين والأخلاق والآداب من غيره، فهذه كلها تناقض القول بأنهم يؤمنون بالله.. ولا يستقيم مع شهادة الله سبحانه بأنه لا إله إلا هو. وأعجب العجب أن ناساً من الناس يزعمون أنهم مسلمون ثم يأخذون في منهج الحياة البشرية عن فلان وفلان من الذين يقول عنهم سبحانه إنهم عمي، ثم يظلون يزعمون بعد ذلك أنهم مسلمون! وليس لأحد من عباده أن يقول إنني أرفض شريعة الله، أو أنني أبصر بمصلحة الخلق من الله، فإن قالها - بلسانٍ أو فعل - فقد خرج من نطاق الإيمان. فما يمكن أن يجتمع الإيمان وعدم تحكيم شريعة الله، أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة.. والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم مؤمنون، ثم هم لا يحكمون شريعة الله في حياتهم، أو لا يرضون حكمها إذا طبق عليهم، إنما يدعون دعوى كاذبة، وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع {وما أولئك بالمؤمنين}. لن يكون الإنسان مؤمناً بهذا الدين حتى يجعل مقوماته وموازينه هي الحاكمة في كل أمر وفي كل حال. ولن يكون مؤمناً بهذا الدين وهو يرى أن هناك تصوراً آخر، أو ميزاناً آخر، من وضع البشر واصطلاحهم، يجوز أن يتحاكم هو إليه - مع جاء به هذا الدين - فضلاً عن أن يتحاكم إليه هذا الدين! ومن باب أولى لن يجد المسلم نفسه لحظة واحدة في موقف المعتذر عن حكم من أحكام دينه أو مقوم من مقومات تصوره.. لن يجد نفسه - بدينه - في موقف الدفاع ! إن دينه هو الأصل، هو الدين الذي لا يقبل الله من الناس غيره، هو الميزان الذي ليس معه ميزان.. وهو حين يعتذر لحكم من أحكام دينه، أو حين يقف - بدينه - موقف الدفاع، إنما يفترض أن هناك ميزاناً آخر - غير الميزان الذي يقيمه دينه - يجوز الاعتراف به بل يقبل أن يحاكم دينه إليه! والأمر هنا يتعلق مباشرة بالعقيدة.. يتعلق بها وجوداً وعدماً.. وهو من ثم مزلق خطر يستحق الانتباه.. إن دينه هو الذي يقرر؛ لأن ما يقرره دينه هو ما يقرره الله دون سواه. إن هناك في جميع أنحاء الأرض، في جميع الأزمنة والأعصار قاعدتين اثنتين لنظام الحياة لأن هناك في جميع أنحاء الأرض في جميع الأزمنة والأعصار، قاعدتين اثنتين لتصور الحياة: قاعدة تفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان.. ومن ثم يقوم عليها نظام للحياة يتجرد فيه البشر من خصائص الألوهية والربوبية والقوامة والسلطان، ويعترفون بها لله وحده فيتلقون منه التصور الاعتقادي، والقيم الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية والمناهج الأساسية للحياة الواقعية، والشرائع والقوانين التي تحكم هذه الحياة، ولا يتلقونها من أحد سواه.. وبذلك يشهدون أن لا إله إلا الله. وقاعدة ترفض ألوهية الله سبحانه وربوبيته وقوامته وسلطانه.. إما في الوجود كـله - بإنكاره وجوده - وإما في شئون الأرض وفي حياة الناس، وفي نظام المجتمع وفي شرائعه وقوانينه، فتدعي أن لأحد من البشر: فرداً أو جماعة، هيئة أو طبقة، أن يزاول - من دون الله أو مع الله - خصائص الألوهية والربوبية والقوامة والسلطان في حياة الناس.. وبذلك لا يكون الناس الذين تقوم حياتهم على هذه القاعدة قد شهدوا أن لا إله إلا الله. هذه قاعدة. وتلك قاعدة.. وهما لا تلتقيان، لأن إحداهما هي " الجاهلية " والأخرى هي " الإسلام "، بغض النظر عن الأشكال المختلفة، والأوضاع المتعددة والأسماء المتنوعة التي يطلقها الناس على جاهليتهم.. يسمونها حكم الفرد أو حكم الشعب.. يسمونها شيوعية أو رأسمالية.. يسمونها ديمقراطية أو ديكتاتورية.. يسمونها أوثقراطية أو ثيوقراطية.. لا عبرة بهذه التسميات ولا بتلك الأشكال؛ لأنها جميعها تلتقي في القاعدة الأساسية قاعدة عبادة البشر للبشر، ورفض ألوهية الله سبحانه وربوبيته وقوامته وسلطانه متفرداً في حياة البشر. انتهى. وبعد : هذا ما أردت تسطيره في هذا البحث الهام، راجياً من الله تعالى القبول، وأن ينفع به العباد والبلاد، وأن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم لا نبتغي منها سمعة ولا شهرة، ولا رياءً. إنه تعالى سميع قريب مجيب. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين [38] لعل مراده أن يقول: هو يدخل بها الإسلام، لكنه لم يدخل الإسلام على الحقيقة التي تنفعه والتي يريدها الشارع منه.. وهو يدخل بها الإسلام لكن لا يستمر له وصفه وحكمه إن لم يأت بمدلولها ومقتضاها الآنف الذكر، والله تعالى أعلم. |
أدوات الموضوع | |
|
|