للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب |
|
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
الحِكَمُ المحتملة في اختيار الله طريق عِلْمِ الإسناد و الجرح و التعديل لمعرفة الصحيح من سنة رسوله
الحِكَمُ المحتملة في اختيار الله طريق عِلْمِ الإسناد و الجرح و التعديل لمعرفة الصحيح من سنة رسوله
1) الاسلام هو القرآن و السنة: لاشك أن رسالة رسول الله محمد هي آخر رسالة ربانية للبشرية، و لاشك أن الله لم يتوفى محمدا صلى الله عليه و سلم حتى أتم تبليغ الرسالة كاملة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(سورة المائدة، 3). و لاشك أن رسالة الله للبشرية كامنة في القرآن و السنة، فلا يكتمل الاسلام إلا بهما، و من أنكر أَياًّ منهما، السنة أو القرآن، فقد كفر! عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَقَالَ : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا: كِتَابُ اللَّهِ ، وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ"(السنن الكبرى للبيهقي). و عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمَا يَعْدِلُهُ , يُوشِكُ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ ، يَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْكِتَابُ فَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَلالٍ أَحْلَلْنَاهُ , وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ وَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ , لا يَحِلُّ أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ , وَلا الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ , وَلا اللُّقَطَةِ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ إِلا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا , وَأَيُّمَا رَجُلٍ ضَافَ قَوْمًا فَلَمْ يَقْرُوهُ ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُغْصِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ "(سنن الدارقطني). و أكد القرآن كذلك بما لا مجال فيه للشك أن الايمان لا يتحقق إلا بطاعة الله (القرآن) و الرسول (السنة)، فلا تكاد تجد آيةً أمَرَ الله فيها بطاعته سبحانه إلا و ألصق بها أمْرَهُ بالطاعة المستقلة و الخاصة للرسول و ألزم الناس بذلك، فهناك عدة آيات تقول "أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ"، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}(سورة النساء 59)، {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}(سورة النور، 54)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}(سورة محمد، 33)، .... و لو كان الغرض طاعة الله فقط باتباع قرآنه لاقتصر الله على القول بِ {أَطِيعُوا اللَّهَ}، لكن إضافته لِ {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} برهان و دليل قطعي على أن الله أمر بطاعة الرسول، طاعته في شيئ إضافي و مستقل عن القرآن، و هاته الطاعة هي المتعلقة باتباع سنة محمد، و التي هي وحي من الله بالمضمون و المعنى لا باللفظ، لذلك قال صلى الله عليه و سلم: "أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ"(السنة للمروزي)، ... "وَمِثْلَهُ مَعَهُ" تعني وحيا آخر و إضافي غير القرآن. و قال الله {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(سورة النجم 3-4). فجاءت هذه الآية بلفظ العموم لتبين أن الوحي يشمل كل ما ينطق به الرسول، سواء القرآن أو السنة. و يأكد الرسول الامر ذاته في الحديث عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، حيث قَالَ : كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أُرِيدُ حِفْظَهُ ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ بَشَرٌ ، يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : " اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا حَقٌّ"(اخرجه الامام أحمد و الدارمي و أبو داود و غيرهم). و سنة رسول الله تتجلى في أفعاله و تقريراته و أقواله المتعلقة بالتشريع و الحكم! ..... و هذا الامر بطاعة الرسول، الطاعةٌ الإضافية لطاعة القرآن، يأكدها الله في آيات اخرى نذكر منها: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(سورة الحشر، الاية 7)! ... بل أكثر من ذلك، فاتباع القرآن (طاعة الله) لا يترتب عليه تلقائيا اتباع السنة، ... بل اتباع السنة هو اتباعٌ مستقل و إضافي و مكمل لاتباع القرآن، فلا تكتمل طاعة الله -طاعة قرآنه- إلا باتباع سنة محمد، لذلك تعمدت الآيات القرآنية إضافة الامر بطاعة الرسول كلما أمرت بطاعة الله سبحانه {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، تأكيدا على أن الاسلام لا يكتمل إلا باتباع القرآن و السنة معا، و إلا لكان كافيا الامر بطاعة الله. ... و في المقابل، و هذا في غاية الأهمية، تترتب على طاعة الرسول -السنة- بداهة و تلقائيا طاعة الله و تكتمل، حيث يقول سبحانه و تعالى ذكره {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(سورة النساء 80)، ... بل و أكثر من هذا كله، فقد جعل الله حبه هو سبحانه لا يتحقق إلا باتباع الرسول -السنة-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(سورة آل عمران، الآية 31)، ... 2) تكفل الله بحفظ الاسلام، قرآنا و سُنَّةً: لما كان الاسلام هو آخر رسالة من رب العالمين و محمد آخر نبي و رسول، اقتضت مشيئة الله أن يحفظ دينه و يسخر تبليغه الى الأجيال اللاحقة حتى قيام الساعة، لِكَي لا تكون حجة للناس على الله أنهم لم تَصِلهم رسالته {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}(سورة النساء، 165)، فيقولون له يوم القيامة إذا أراد عقابهم على ضلالهم أو كفرهم: {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}(سورة طه، 134). فالله تكفل بحفظ آخر رسالة سماوية تُبعث للبشر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(سورة الحجر، 9). و لما كان الوحي يشمل القرآن و السنة كما بينا، و كانت السنة نفسها وحي من عند الله، ... و لما كانت طاعة الله و عبادته لا تكتمل و لا تصح إلا بطاعة الرسول - أي باتباع سنته-، كان لزاما و ضروريا و بدهيا أن تشمل كلمة "الذِّكْر المحفوظ" القرآن و السنة. ... فكيف يمكن التصور أن تستقيم و تكتمل إقامة حجة الله على الناس إذا حُفظ القرآن دون السنة، و السنة هي المبينة لمعاني القرآن و المفصلة لأوامره و أحكامه و مناط حكمها و المستقلة في تشريع كثير من الأحكام الواجبة الاتباع و الغير الواردة في القرآن؟؟ ... ألم يقل الله:*{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(سورة النحل، 64)، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(سورة النحل، 44)، {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}(سورة النساء، 105). 3) كيفية حفظ القرآن و السنة: حكمة الله سبحانه و تعالى و مشيئته اقتضت أن تخضع حياة الانسان لِسُنَنٍ كونية تتحرك فيها كل الأمور بسبب و مسبب حسب قوانين يمكن للبشر إدراكها و الأخذ بأسبابها لِتَسْبيب الأفعال و الاحداث الخ ...، فمثلا من أراد الحصول على مال لا يمكنه القعود و انتظار المال لينزل عليه من السماء، .... و كذلك العِلمُ لا ينزل وحيا من السماء على الناس (ما عدى من خصهم الله بذلك من الانبياء)، فمن أراد تحصيل العلم يجب عليه الجد و الكد في القرأة و الدراسة و البحث و النقاش، .... و من أراد الحفاظ على ماله من السرقة فلا يضعه في مكان عامٍّ متوكلا على حفظ الله لماله، بل وجب عليه وضعه في مكان آمن لا يصله الآخرون، .... و من أراد الطيران فلا يجوز له القول بأن الأعمار بيد الله فيقفز من مكان عالٍ دون الأخذ بالأسباب التي تجعله يتغلب على جاذبية الارض و تمكنه من التحرك في الهواء، .... و كذلك لما بعث الله محمدا، فإنه و لو منحه الله بعض المعجزات المادية كبرهان على نبوته، إلا أن دعوته صلى الله عليه و سلم للإسلام و إنشاءه لدولةٍ و جهاده ضد الأعداء و الانتصارات في الحروب الخ ... هذا كله حققه الرسول ليس بمعجزات خارقة للعادة، و لكن بالأخذ بالأسباب و الجد و الكد و الصبر، .... و كذلك لما وعد الله بحفظ الاسلام، قرآناً و سنةً، فإنه جعل لذلك أسبابا من جنس حياة البشر و طبيعة القوانين التي يعلمونها و يدركونها بل و هُمْ -اي البشر- أهم عنصر و سبب للحفاظ على وحي رسول الله. فالقرآن و السنة ليسوا محفوظين، مثلا، بنحت الله لها نحتا أبديا على صخور أو ألواح أو جبال بحيث لا يستطيع أحد تحريفها أو القضاء عليها مهما حاول تدمير تلك الألواح أو الجبال أو محو ما عليها، .... و لا يحفظ الله القرآن و السنة بإعادة إرسالها، إذا ماذا ضاعت، و ذلك بقذف نصوصهما في صدور آحادٍ من الناس ....، بل حكمة الله اقتضت أن يتكفل بحفظ القرآن و السنة عن طريق وسائل من صنع البشر و في متناول البشر و بجعل المسلمين هم انفسهم من يحرصون على الحفاظ عليهما، و هذا في حد ذاته، من ناحية قمة في الإعجاز و في إرادة الله و قدرته على تدبير الامور و تسييرها و تسخيرها، إِذْ رغم أن البشر هم الوسيلة لحفظ القرآن و السنة فلا يستطيع العالم و إن اجتمع على ذلك إيقاع أي ضياع منهما أو تحريفٍ فيهما، و من ناحية أخرى ففي هذه الوسيلة لِحِفْظ القرآن و السنة - اي بجعل المسلمين هم أنفسهم أهم وسيلة لذلك- تشريفٌ و تكريمٌ للمسلمين، و لاشك جزاء عظيم في الآخرة لكونهم مَنَّ الله عليهم ليكونوا وسيلة و سببا لحفظ الوحي! ... فَحِفظ الوحي، قرآنا و سنةً، لا يتأتى إلاَّ بأخذ المسلمين بالأسباب لذلك، ... و أهم وسائل حفظ القرآن و السنة هي: كتابة نصوصهما و تدوينها و تحميلها على شتى أنواع الملفات الإلكترونية، و تعليمهما للناس و حفظهما في الصدور، و نشرهما على أوسع نطاق عبر الكتب و المنشورات الورقية و الالكترونية .... الخ، .... و حفظ القرآن و السنة مضمون كذلك بعدم خلو أي عصر من العصور أو جيل من الأجيال من علماء يجِدُّون و يَكِدُّون في معرفة نصوص القرآن و السنة و تدريسها و تبليغها للناس و كشف الدخيل عليها، .... الخ ، ... فَكَوْن القرآن و السنة تكفل الله بحفظهما لا يعني أن طريقة حفظهما و تبليغهما للناس تكون بوسائل خارقة للعادة و بمعجزات، بل كل ذلك يتم بطرق بشرية، ... يتم بالأخذ بالأسباب، و قضاء الله يتمثل في تسخيره سبحانه و تعالى للأسباب و الناس الذين يستخدمهم لذلك الغرض، ... و لذلك كان من بين آخر ما وصى به الرسولُ المسلمينَ حين خطب فيهم و ذَكَّرَهم ببعض أحكام الاسلام: "أَلَا لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ"(رواه البخاري)! .... فالذي يُبلِغ الاسلام بعد وفاة الرسول هم المسلمون، و مِنْ أهم الشروط لِلْقُدرة على التبليغ هو ضرورة الحفاظ على ما يُرَادُ تبليغه -الاسلام-، .... فما ضاع لا يمكن تبليغه! و ما يُحتمل ضياعه أو تحريفه لا يصح أن تقوم به الحجة على الناس {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}(سورة النساء، 165)، و لا يٓقطع خَبَره العذر و لَصَحَّ احتجاج أهل الكفر و الضلال يوم القيامة إذا أراد الله عقابهم {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}(سورة طه، 134). و ليس المقام هنا للحديث عن تاريخ كتابة القرآن و السنة و لا متى بُدِئَ في كتابتهما و تدوينهما، لكن أكتفي فقط بالقول في هذا الشأن بأنه ليس القرآن وحده الذي بدأت كتابته في عهد الرسول، بل السنة كذلك. و الذين يزعمون، متأثرين بالمستشرقين، أن الحديث لم يُكتب في عهد الرسول يستدلون بالحديث عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ قَالَ هَمَّامٌ أَحْسِبُهُ قَالَ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"(اللفظ لمسلم). و هذا الاستدلال باطل، لأن مقابل هذا الحديث هناك أحاديث أخرى كثيرة أجاز فيها الرسول كتابة الحديث، بل حَثَّ على ذلك و أمر أحيانا بذلك. و قد أشار الامام النووي الى عدد من هذه الأحاديث و علق تعليقا قيما على حديث سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الذي ذكرناه فوق. يقول النووي: [.... وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي النَّهْيِ ، ..... وَتُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِالْإِبَاحَةِ عَلَى مَنْ لَا يُوْثَقُ بِحِفْظِهِ كَحَدِيثِ : اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ وَحَدِيثِ صَحِيفَةَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَحَدِيثِ كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ ، وَحَدِيثِ كِتَابِ الصَّدَقَةِ وَنُصُبِ الزَّكَاةِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ .*وَقِيلَ : إِنَّ حَدِيثَ النَّهْيِ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ ، وَكَانَ النَّهْيُ حِينَ خِيفَ اخْتِلَاطُهُ بِالْقُرْآنِ فَلَمَّا أَمِنَ ذَلِكَ أَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ ، وَقِيلَ : إِنَّمَا نَهَى عَنْ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ مَعَ الْقُرْآنِ فِي صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِئَلَّا يَخْتَلِطَ ، فَيَشْتَبِهُ عَلَى الْقَارِئِ فِي صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .]اهـ و نُحِيل القارئ الى ما أُلِّفَ من كتب قيمة بخصوص تدوين السنة نذكر منها على سبيل المثال: "تاريخ تدوين السنة وشبهات المستشرقين" لِحَاكم عبيسان المطيري. 4) الحِكَمُ المحتملة في اختيار الله طريق عِلْمِ الإسناد و الجرح و التعديل لمعرفة الصحيح من سنة رسوله: كما تقدم فالقرآن و السنة كلاهما وحي من عند الله، إلا أن هناك بعض الفروق بينهما. إحداها -و كما سبق الذكر- هو أن السنة معناها و مضمونها وحي من عند الله لكن، و خلافا للقرآن، فالرسول عَبَّر عن وحي السنة بألفاظ من عنده. ثانيا، الآيات القرآنية، و إن نزلت بعض كلماتها بسبعة أحرف (أي سبعة أوجه لقرأة و نطق بعض الكلمات)، إلا أن كل آية -بأحرفها المتعددة- تحمل نفس المحتوى و تؤدي نفس المعنى. لكن فيما يخص أحاديث الرسول فقد يتحدث صلى الله عليه و سلم بشأن مسألة معينة في أماكن و أوقات مختلفة، و قد يزيد أو ينقص كل مرة في الحديث حسب الحاجة لذلك: انسجاما مثلا مع صيغة السؤال المطروح عليه في المسألة و مناطها،....! و الرسول كثيرا ما كان يكرر الحديث أو أطرافا منه في المجلس الواحد ثلاث مرات و أحيانا كل مرة بلفظ آخر، .... و بالتالي يترتب على كل ما تقدم ذكره أن كل صحابي ينقل صيغةً معينةً للحديث بحسب ما سمع في المجلس و الموقف الذي حضره هو. ... و مادامت ألفاظ الحديث ليست وحيا و إنما المعنى الذي تحمله الألفاظ و العبارات فقد كان بعض الصحابة ينقلون معنى الحديث بزيادة أو نقصان أو تغيير في بعض الألفاظ لكن دون المساس بمعنى الحديث و رسالته. و هكذا، و نظرا لهذه الطبيعة و الخاصية للسنة، فإن تبليغ السنة الى الناس يعتمد على الروايات المتعددة للصحابة للحديث، و يستوجب القدرة على إسناد الحديث بالتسلسل المتصل الى الرسول عبر الصحابة، كما يستوجب التحقق من مدى دقة نَقْلِ من نَقَلَ الرواية عن الصحابي (التابعي)، و دقة نَقْلِ من نَقَلَ الرواية عن من نَقَلَ عن الصحابي (تابعي التابعي)، .... الخ. و لذلك لا تجد متنا لحديثٍ للرسول إلا و مسبوق بسنده "عن فلان، عن فلان، .... عن الرسول"، أو "قال فلان، قال فلان، .... قال الرسول"، ..... الخ. و هكذا فإن نقل سنة رسول الله يعتمد على علم الإسناد (و السند هو سلسلة الرواة الذين نقلوا المتن -القول و الكلام- عن مصدره الأول)، و علم الجرح و التعديل، العلم الذي يبحث في معرفة أحوال الرُّواة من حيث مدى عدالتهم و صدقهم و ضبطهم، و بالتالي الحكم على وجوب قبول رواياتهم أو ردها. فالسنة لم تصلنا إلاَّ عن طريق السند، و بدون علم الإسناد و الجرح و التعديل، و بدون مقارنة الروايات المختلفة لنفس الحديث من كل طرق تخريجه لا يمكن معرفة السند المتصل من المنقطع و لا أمانة و دقة نقل الراوي للحديث، و من تم لا يمكن معرفة صحيح الحديث من ضعيفه و مكذوبه، و لا يمكن معرفة الشذوذ أو العلة في الحديث بحيث يُأْخَذُ بالجزء الصحيح من الحديث و يترك الجزء الشاذ أو المعلول. ... فليست هناك سُنَّة وصلت بطريقة غير هذه. و هناك من الناس من عنده مشكلة مع هذه الطريقة لنقل السنة و لا يستوعب الحكمة في ذلك فيذهب الى إنكار السنة أو غالبية الأحاديث النبوية لعدم استطاعته استيعاب هذه الطريقة لنقل الحديث و الحكم على صحته، و تزداد حيرته كلما وجد اختلافا في روايات بعض الأحاديث. لكن إذا استخدم هؤلاء عقولهم و تدبروا أمر السنة النبوية أدركوا ببساطة حِكَمًا عظيمة من هاته الطريقة لنقل السنة، تزيدهم خشوعا و تواضعا و تسليما لأمر الله و إيمانا به و طلبا للتقرب منه، بدلا من جحد أحاديث رسول الله و التيه في غيابات الضلال. فالسنة لم تصلنا إلاَّ عن طريق السند، فليست هناك سنة غير التي وصلتنا بهذه الطريقة، و السنة تحتاج إلى علم الإسناد و الجرح و التعديل للتعرف على الحديث الصحيح من الضعيف و الموضوع. و إذا أيقنَّا عِلم اليقين أن السنة وحي من عند الله تكفل سبحانه بحفظها، و أنها جزء لا يتجزأ من الاسلام و لا يكتمل الدين و لا يصح إلا بها، و أن حلال الله و حرامه لا يُعْرَفُ و لا تُدرك تفاصيله و مناطاته إلا بالسنة، و أيقنَّا أن إقامة حجة الله على الناس لا تتم و تصح بالقرآن وحده و لكن بالسنة أيضاً، و إذا سَلَّمنا أننا لسنا نحن العباد من يحدد طريقة نقل و إيصال وحي الله و سلمنا أن الأمر كله متروك لله {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107)}(سورة هود)، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)}(سورة الانبياء)، ... أقول، إذا أيقنَّا كل هذا عِلْمَ اليقين بالأدلة القطعية التي ذكرنا بعضًا منها في هذا المقال، فإننا نستنتج عن طريق العقل و بداهة و ضرورة أن نقل السنة بالطريقة و الشروط التي نعلمها و ذكرناها فوق هي من إرادة الله و اختياره سبحانه! ... إذن الانطلاق من مقدمات صحيحة ثابتة يقينية يُمَكِّنُنا من الوصول الى نتائج صحيحة و يحفظنا من التيه و الضلال! فالعاقل لما يدرك بالأدلة القطعية حجية السنة و أنها وحي الله المحفوظ، و أنه ليس هو من يحدد لله طريقةً معينة لتبليغ السنة و نقلها و إيصالها للناس، بل يسلم لإرادته سبحانه، استنتج، منطقيا و عقليا و بداهة، أن الطريقة التي اختارها الله لتصل إلينا بها سنة رسوله لا يجوز أن تكون سببا في تشكيكنا في الأحاديث النبوية، بَقَدْرِ ما يجب أن تكون مدعاة للتسليم لإرادة الله في اختيار الطريقة التي شاء أن تُنقل بها السنة، و مدعاةً للتدبر في حكمة الله من اختياره سبحانه لهذه الطريقة في تبليغ السنة. و البديل الوحيد لهذا الاستنتاج، إذا لم يَرُقْ للبعض الطريقة هاته لنقل السنة و احتجوا على اختلاف بعض الروايات بخصوص بعض الأحاديث و احتجوا على شروط علم الجرح و التعديل لقبول الحديث، ... البديل الوحيد لمن هذا حالهم هو رد السنة النبوية كلها أو أجزاء كبيرة منها، و هذا البديل و الموقف لا يتأتى إلا إذا أنكر هؤلاء أن الله لم يتكفل بحفظ السنة، و بالتالي أنكروا أن السنة وحي من الله، و هذا هو عين الضلال الذي قد يؤدي بصاحبه الى الكفر و العياذ بالله! ... فهل كان (و يكون) بإمكان الله أن يختار طرق أخرى لنقل سنة رسوله غير الطريقة التي نعرف؟ الجواب قطعا نعم، فالله كما قال عن نفسه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82)}(سورة يس)، {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}(سورة البقرة)، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)}(سورة فاطر)، .... فلو شاء الله لبعث وحيه، قرآنا و سنة، الى محمد عن طريق نقش نصوصهما على ألواح مثلا و لم يترك كتابتهما و نقلهما للبشر، و لتكفل بحفظ تلك الألواح مدى الحياة لتبقى مرجعا لأخذ الحديث و الآيات القرآنية، ألم يبعث الله بعض كلامه و شريعته الى موسى منقوشة على ألواح من حجر بمحض قدرة الله تعالى و ليس بفعل أي إنسان: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)}(سورة الأعراف)، ... لكن الله شاء أن يكون تبليغ سنة رسوله محمد و نقلها عن طريق الرواة و عن طريق التحري في صحة الحديث بتطبيق علم الإسناد و الجرح و التعديل! .... فما هي الحِكَمُ المحتملة من اختيار الله أن تصلنا السنة بهذه الطريقة؟ الحكمة الأولى المحتملة هو أن الله يريد من الناس أن يسعوا هم الى معرفته، أن يسعوا هم الى حبه و طاعته، و حبه و طاعته سبحانه لا تتحقق إلا بالسعي لمعرفة ما يرضيه سبحانه، لا تتحقق إلا بالسعي لمعرفة أوامره و نواهيه، ... طاعته لا تتأتى إلا بمعرفة القرآن و السنة! .... إذن، الله يريد أن يَمُنَّ بالرضوان و الجنة على عباده الذي يسعون لطاعته {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19)}(سورة الإسراء)، ... و السعي لا يتحقق إلا إذا اجتهد المرء و كَدَّ من أجل الحصول على ما يسعى إليه، فبدرجة السعي و الاجتهاد يُعرفُ المستحق من غير المستحق، و الصادق من الكاذب، و المتوكل على المتواكل، .... الخ! ... أما أن يُمنح المرء شيئا هدية جاهزة دون عناء منه فهذا ليس سعيا و لا اجتهادا! ... و لذلك لام الله رسوله حين أقبل عليه عبد الله بن أمّ مكتوم يطلب منه أن يُعَلِّمه مما علَّمه الله، فأعرض عنه وعبس في وجهه و أقبل صلى الله عليه و سلم على كبار و أشراف قريش طمعا في إسلامهم: {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (7) وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ (8) وَهُوَ يَخْشَىٰ (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ (10)}(سورة عبس)..... {وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى}، فالله يرفع في هذه الآية من شأن من يسعى لمعرفة دين الله و لام رسوله على إعراضه عنه! و كذلك لعلَّ في قصة*احتباس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم تزكية لنفس الرسول ليكون هو من يسعى لتحمل وظيفة النبوة و أعبائها، .... فعند إنزال أول وحي على الرسول لم يكن له صلى الله عليه و سلم أي إرادة أو اختيار لقبول وظيفة النبوة، .... فحبس الله بعد ذلك الوحي على الرسول مرتين حتى أحس صلى الله عليه و سلم بشيء في نفسه و بات يسعى بشوق الى مجيء جبريل و استقبال الوحي، ... فعن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: "مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا، فَنَزَلَتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا}(سورة مريم، الآية 64)"(رواه البخاري)، .... و رَوَى أبو حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ : أَبْطَأَ جِبْرِيلُ فِي النُّزُولِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يَا جِبْرِيلُ مَا نَزَلْتَ حَتَّى اشْتَقْتُ إِلَيْكَ"، قَالَ (أي جبريل): أَنَا كُنْتُ أَشْوَقَ إِلَيْكَ، وَلَكِنِّي مَأْمُورٌ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى جِبْرِيلَ قُلْ لَهُ : {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}الآية، .... و قال الله سبحانه: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)}(سورة الضحى)! ... هكذا تحقق سعي الرسول لتلقي الوحي و تحمل أعباء النبوة! فالسنة النبوية وحي من الله، و الله تكفل بحفظها، لكن الله اختار طريقةً لنقلها تستلزم من المسلمين السعي لمعرفة الأحاديث الصحيحة من غير الصحيحة، ... فالأحاديث الصحيحة محفوظة، و لم، و لن تضيع بإذن الله و مشيئته، ... لكنها -أي الأحاديث الصحيحة- تحتاج لمن يسعى لمعرفتها و استخراجها من بين الأحاديث الضعيفة و المكذوبة، .... إذن حكمة الله المحتملة التي نستقرئها من طريقة نقل السنة هو معرفة من يسعى فعلا الى حب الله و طاعته، يسعى لمعرفة شريعة الله و أحكامها! ... فلو لم تكن هناك أحاديث موضوعة و أخرى ضعيفة أو مكذوبة، و لو لم يكن هناك اختلاف في متن بعض الروايات لبعض الأحاديث، .... لو لم يكن هذا كله و غيره، أين هي إمكانية اختبار سعي المسلم لحب الله؟ ... لو شاء الله أن تُنقل الأحاديث الصحيحة فقط و توضع بين يدي المسلم السنة الصحيحة كاملة دون الموضوعة و الضعيفة، فحتى لو أقبل المسلم في هذه الحال على السنة و عمل بها، فذلك يكون دون عناء و سعي منه لمعرفة ما يريد الله (و لو كان له أجر العمل بها) لأنه توصل بصحيح الحديث دون عناء، .... فالنجاح الأعظم في اختبار الحياة الدنيا و الايمان بالله و حبه يتطلب أن يسعى الانسان و يَكِدّ لمعرفة ما يريد الله فعلا، فالبِتَّحَري و التنقيب عن الأحاديث الصحيحة و الابتعاد عن الهوى خلال البحث، و ذلك بإخضاع الروايات لمقاييس شرعية، و ليست عقلية، يُقام بها الدليل على صحة الحديث من ضعفه، ... بهذا التحري و الجد و الكد يكون المسلم سعى فعلا الى الله، و كَدَّ و جد لمحاولة معرفة ما يريد الله، .... سعى لحب الله و نيل رضوانه، فَنِعْم السعي إذن {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19)}(سورة الإسراء)، و الحكمة الثانية المحتملة من وصول السنة إلينا بالطريقة المعلومة هو أن الله يريد من الناس أن يجتهدوا و ينشط عندهم التفكير و يرفع من همتهم و نشاطهم العلمي، .... فالعقل إذا تُرِكَ بدون توظيف أو بدون توظيف سليم انحدر بالإنسان الى أقل من درجة الحيوانات! ... و لذلك كانت من حكمة الله أن يجعل السنة تصلنا بالطريقة التي نعرفها ليحمل الناس على البحث العلمي و الشرعي لمعرفة أولا الحديث الصحيح من الضعيف! ... فالله اختار أن يكون وَحْيُهُ، قرآنا و سنةً، بطرق تستلزم البحث الفكري و الاجتهاد و علو الهمة لاستخراج منهما ما يصلح به حال الدنيا! فإلى جانب طريقة تبليغ و نقل السنة، الطريقة التي تلعب دورا في تنشيط البحث الفكري لمعرفة الضعيف من الصحيح، اختار الله كذلك طريقةً لصياغة الآيات القرآنية تستلزم اجتهادا و جهدا و بحثا فكريا و شرعيا لفهم معاني الآيات و استخراج الادلة الشرعية منها! ... فالقرآن لم يراعي ترتيب الآيات حسب تاريخ نزولها، و لا تنسيقها و جمعها حسب الحادثة و الواقعة التي تتطرق لها، بل رتبها الله ترتيبا يجعل القارئ لا تكتمل عنده صورة آيَةٍ إلا إذا نقَّب في كل السور عن كل الآيات المتسقة معها و المرتبطة بها! ... بل حتى القصص التي يذكرها الله في القرآن غالبا ما لا تتم صورتها و تفاصيل أحداثها إلا بربط آيات من سورة متفرقة! .... فالله اختار طُرُقاً لوضع و نقل وحيه -قرآنا و سنة- تجعل منهما نصوصا، ليس لاستخراج الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال العباد فحسب، بل كذلك لتكون فيهما و بهما تمحيصٌ لإيمان المسلم، ... و هذا ينقلني الى الحكمة الثالثة المحتملة من الطريقة التي اختارها الله لتصل بها سنة نبيه الى الناس، و هي اختبار إيمانهم و مدى حرصهم على حب طاعة الله و مدى اجتهادهم لتطويع هواهم ليكون تَبَعًا لما جاء به الوحي، و ليس قياس نصوص السنة على مبتغى الهوى فإن خالفته تم رفضها! فكون كثير من الأحاديث ظنية الثبوت (ظنية الثبوت مصطلح شرعي لا يعني عدم تصديق ثبوتها عن الرسول و لكن عدم القدرة على الجزم القاطع بثبوتها عن الرسول)، و كون بعض الأحاديث وردت بألفاظ مختلفة، و البعضُ القليل منها فيه بعض علة أو شذوذ، ... فهذا كله يتذرع به بعض ضعفاء الايمان و يغويهم به الشيطان لينكروا السنة أو ليردوا الأحاديث التي فيها اختلاف، أو ليجعلوا عقولهم حكما على صحتها بدلا من اتباع معايير شرعية لترجيح ثبوتها عن الرسول من عدمه ! ... فالطريقة التي اختارها الله لإيصال سنة نبيه الى الناس فيها تمحيص لمن يريد فعلا وجه الله و رضاه، فمن كان غايته الله فإنه يجعل من طرق تخريج السنة النبوية بابا لنيل رضوان بالله بسعيه لأخذ ما غلب الظن على صحة ثبوتها عن الرسول، لان المطلب هنا هو الاجتهاد حسب المستطاع لطاعة الله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا (16)}(سورة التغابن)، ..... أما الذين غواهم الشيطان قيتخذون من ذلك ذريعة للصد عن أمر الله و الطعن في سنة رسوله، و قد ذكر الله أمثلة كثيرة لامتحانه إيمان الناس، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ، وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)}(سورة البقرة)، ... يقول ابن كثير: [... إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولا إلى بيت المقدس ، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه ، أي : مرتدا عن دينه {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} أي : هذه الفعلة ، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة ، أي : وإن كان هذا الأمر عظيما في النفوس ، إلا على الذين هدى الله قلوبهم ، وأيقنوا بتصديق الرسول ، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه ، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فله أن يكلف عباده بما شاء ، وينسخ ما يشاء ، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك ، بخلاف الذين في قلوبهم مرض ، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا ، كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق]اهـ فكون السنة أراد لها الله أن تصلنا بالسند و أراد لنا أن نبحث في صحة السند و أمانة و ضبط رواة الحديث، اي أن الامر يحتاج الى اجتهاد لمعرفة الحديث الصحيح من الضعيف، فهذا يعني بداهة أن هناك احتمال ورود بعض الأحاديث الضعيفة في كتب الحديث بما فيهم الصحيحين، و أهل الايمان يتخذون من هذا الوضع حافزا لرفع الهمة و الاجتهاد لمعرفة الحديث الصحيح من الضعيف دون الطعن في السنة و لا في علماء السنة و لا في كتب علماء السنة، و دون التشكيك في حجية السنة و كمالها و تكفل الله بحفظها، و دون خلق البلبلة و الفتنة، ... أما مريضي الأنفس الذين غواهم الشيطان فيتخذون من ذلك كله ذريعة للطعن في السنة و في علماء السنة، و يصل الحد ببعضهم الى إنكار السنة! .. و هؤلاء الذين أغواهم الشيطان يتجرؤون على تكذيب الأحاديث النبوية، فكل حديث لم يوافق أهوائهم يرفضونه ببساطة! فهؤلاء لا يدركون أن الحُكم على صحة الأحاديث أو ضعفها ليس عملا ارتجاليا يحركه الهوى، بل يحتاج الى علمٍ بالسنة و القرآن و الأسانيد. فالعالم و الباحث ينظر الى السند هل هو متصل. ثم ينظر الى مدى أمانة و عدالة و ضبط كل راوٍ في كل طبقة من طبقات السند. فإذا صح السند و كان كل الرواة مقبولي الرواية رُفِعَ الحديث الى الرسول و كان صحيحا. ثم ينظر الى المتن إذا كان فيه اجتزاء لقول الرسول مُخل بمعنى الحديث أو فيه زيادة نُسِبت له صلى الله عليه أو فيه اي شذوذ، و هذه "العلل" لا تظهر و يُستدل على وجودها إلا بمقارنة متن الحديث بالألفاظ و الروايات المختلفة للحديث من كل طرق تخريجه، و بقرائن من آيات قرآنية لا تسمح البتة بمفهوم المتن مهما التُمِسَ في تأويل معناه تأويلا لا يتعارض مع المفهوم الأرجح أو القطعي في نصوص اخرى. و حتى في هذه الحال لا يُرد الحديث و إنما يُترك منه فقط الجزء الذي فيه علة، ..... الخ. إذن الحكم على ضعف الحديث أو صحته يحتاج الى أدلة و لا يجوز اتباع الهوى في تقييم صحة الأحاديث، و لا يجوز رَدّ أي حديث صححه أهل العلم إلا بدليل على ضعفه أقوى من دليل من صححه، فالله سائل الكل يوم القيامة على أدلتهم و براهينهم على تقييم الأحاديث {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64)}(سورة النمل)، ... و العالِم إذا اجتهد لتقييم مدى صحة الحديث تقييما مبنيا على أدلةٍ و بعيدٍ عن الهوى فلا جناح عليه إن أخطأ في تصنيف الحديث و بَيَّن آخر وجه خطأَه، فالله يقول {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا (16)}(سورة التغابن)، فالسمع و الطاعة التي أمر الله بها جعلها، رأفة منه و تفضلا علينا، في حدود الاستطاعة، و الاجتهاد هو بدل المستطاع من الجهد لاستنباط حكم شرعي! ... فالعالم الرباني الذي عُرِفَ ورعه و تقواه و عِلمه إِنْ أخطأ في تصنيف صحة بعض الأحاديث فلا يجوز أن يكون هذا مدعاة للطعن فيه و التنقيص من شأنه و من شأن مؤلفاته! .... .... فالطاعنين في السنة و علماء السنة، و الذين بينا ذرائعهم الواهية لتكذيب الأحاديث و ردها، قعد لهم الشيطان على أبواب السنة النبوية فاستعصى عليهم فتح تلك الأبواب و الانتفاع بما تحمله السنة، و حُرِموا نعمة و أجر و حلاوة التعبد بالإيمان بأحاديث رسول الله و العمل بها: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)}(سورة الأعراف)، .... .... |
#2
|
|||
|
|||
أحسنت بارك الله فيك
موضوع قَيّم اللهمّ اجعلنا من النّاظرين لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم نظرة فاحصة ومن العاملين بما أمر والمنتهين عمّا نهى
__________________
" وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" "وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأشهدُ أنّ عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه وأشهدُ أنّ الجَنَّة حقّ وأن النار حَقّ وأنَّ الساعة آتيةٌ لا ريبَ فيها وأنَّ الله يبعثُ مَن في القبور |
أدوات الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | الأقسام الرئيسية | مشاركات | المشاركة الاخيرة |
أبرز علماء الإسلام | معاوية فهمي إبراهيم مصطفى | قسم السيرة النبوية | 0 | 2019-11-13 01:54 PM |