للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب |
|
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً " ( الأحقاف:15).
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً " ( الأحقاف:15).
هـذا النص القرآني المعجز جاء في نهاية النصف الأول من سورة الأحقاف, وهي سورة مكية, وآياتها خمس وثلاثون بعد البسملة, وسميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى منطقة الأحقاف, وهي المنطقة التي سكنتها قبيلة عاد. و(الأحقاف) جمع (حقاف) التي هي جمع (حقف)، وهو ما استطال من الكثبان الرملية واعوج . ومنطقة الأحقاف هي من رمال الجزء الجنوبي الشرقي من الربع الخالي, الواقع بين كلٍ من حضرموت, وعمان, وباقي أرض الجزيرة العربية . وقبيلة عاد ـ وهم قوم نبي الله هود ، على نبينا وعليه من الله السلام ـ كانوا من أشد الناس ـ في زمانهم ـ قوة, ومن أكثرهم ثراءاً وترفاًً, وبدلاً من شكر الله ـ تعالى ـ على نعمائه, والخضوع لجلاله بالطاعة والعبادة, كفروا بنعم الله عليهم, وأشركوا في عبادته ما لم ينزِّل به سلطاناًً, وعصوا رسول الله إليهم, وسخروا من وعيد الله لهم, فأرسل عليهم ريحاً صرصراً عاتية فيها عذاب أليم فدمدرتهم, وقضت عليهم, ونجَّى الله ـ سبحانه وتعالى ـ نبيه هوداً والذين آمنوا معه . وافتتحت سورة الأحقاف بحرفين من حروف الفواتح الهجائية هما " حـم "، وقد تكررا بمفردهما ست مرات في القرآن الكريم, ومرة سابعة بإضافة ثلاثة حروف أخري لتصبح " حم ، عسق ", وتعرف هذه السور السبع باسم (الحواميم), وتشمل سور (غافر, فصلت, الشوري, الزخرف, الدخان, الجاثية, والأحقاف) . والفواتح الهجائية التي استهلت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم سبق التعرض لها في أكثر من مقال, ولا أرى حاجة إلى تكرار ذلك هنا سوى التأكيد على أنها من أسرار القرآن الكريم التي يَكِلُها أغلب المفسرين إلى رب العالمين, ويحاول البعض الاجتهاد في تفسيرها, وإن لم يصلوا إلى إجماع في ذلك بعد . وبعد هذا الاستفتاح جاء التأكيد على أن القرآن الكريم منزل بالوحي من لدن رب العالمين :" تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ " (الأحقاف:2) . وأن هذا الإله العظيم وصف ذاته العلية بالعزة التي لا تُرام, والغالبة على الوجود كله, وبالحكمة البالغة في الأقوال والأفعال, والظاهرة في خلقه ظهور العيان لكل ذي بصر وبصيرة, ومن ذلك خلق السماوات والأرض وما بينهما على نواميس ثابتة, وإلى آماد محددة تؤكد حتمية الآخرة على الرغم من إعراض الكافرين عن إنذار الله ـ تعالى ـ لهم بها, وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ : " مَاْ خَلَقْنَاْ السَّمَاْوَاْتِ والأَرْضَ وَمَاْ بَينَهُمَاْ إِلَّاْ بالحَقِّ وأجَلٍ مُسَمَّى وَالَّذِيْنَ كَفَرَوْا عَمَّاْ أُنْذِرُوْا مُعْرِضُوْنَ .قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " (الأحقاف:4,3) . وتستنكر الآيات شرك المشركين بالله ـ تعالى ـ وضلالهم بدعاء معبودات غافلة عنهم, لا تسمع دعاءهم، ولا تستجيب لهم, ولا تملك من أمرهم شيئاًً, وتتنكر لهم يوم القيامة, ولعبادتهم الخاطئة, وتقف منهم يومئذ موقف الاستهجان والمعاداة والإنكار, يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم . وهؤلاء الكفار والمشركون إذا تتلى عليهم آيات القرآن الكريم قالوا ـ من فجرهم ـ هذا سحر مبين, أو تطاولوا على خاتم الأنبياء والمرسلين بالادعاء الباطل أنه كَتَبَ القرآن الكريم, وافترى نسبته إلى رب العالمين ـ نزهه الله تعالى عن ذلك ، وزاد من تشريف قدره ـ كما لو أنه لم يرسل قبله آلاف الأنبياء ومئات المرسلين, وكما لو كان هو أول رسل الله, وفي ذلك تقول الآيات :" أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ . قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ . قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ " ( الأحقاف:8 ـ10) . والآية العاشرة تشير إلى عبدالله بن سلام ـ رضي الله عنه ـ وكان من أحبار يهود يثرب فمنَّ الله ـ تعالى ـ عليه بالإسلام، وشهد بوجود صفة المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما بقي بين أيدي اليهود من كتابات ، على الرغم من ضياع أصول التوراة وتعرض ما بقي منها من ذكريات إلى التحريف والتبديل . وتشير الآية الحادية عشرة من سورة الأحقاف إلى أن الكافرين والمشركين انطلقوا ـ من استعلائهم وكبرهم وصلفهم ـ يدعون أنه لو كان ما جاء به سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقاً ما سبق الفقراء المستضعفون في مجتمعاتهم إلى الإيمان به, مشيرين إلى أنهم هم أصحاب الرأي في مجتمعاتهم, لهم القيادة, والريادة, والسيادة, والأمر والنهي, وهم وحدهم أصحاب الذكاء ورجاحة العقل والقدرة على الحكم, ويضيفون إلى هذا الكبر صلفاً آخر مؤدَّاه أنهم ماداموا هم لم يهتدوا به ـ وهم كبراء القوم ووجوهه ـ فلابد من الطعن فيه بوصفه ـ زوراً ـ أنه كذب من أساطير الأولين" كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً " (الكهف:5) . وتأكيداً لحقيقة الوحي السماوي الذي استمر من آدم إلى محمد ـ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى أنبياء الله ورسله أجمعين ـ تقول الآيات :" وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِياًّ لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ " ( الأحقاف:12) . وفي المقابل تمتدح الآيات المؤمنين بالله ـ تعالى ـ الموحدين لجلاله, المستقيمين في حياتهم على منهجه فتقول :" إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " (الأحقاف:13 و14) . ثم تنتقل الآيات إلى توصية كل إنسان بالإحسان إلى والديه فتقول :" وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ " (الأحقاف:16,15) . وفي المقابل تصف الآيات نموذجاً للانحراف والضلال والفسوق والعصيان بالكافر العاق لوالديه المؤمنَيْن ، الذي قال لهما حين دعواه إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر متضجراً منهما, ومنكراً عليهما دعوتهما : " أُفٍّ لَّكُمَا " . أتعدانني بالبعث بعد الموت, وقد مضت الأمم من قبلي، ولم يبعث من القبور أحد...!! ووالداه يستغيثان الله إشفاقاً عليه من فداحة كفره قائلين له : هلكت إن لم تؤمن؛ لأن وعد الله بالبعث حق فيرد مكابرا :.. " مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ " .وترد الآيات عليه وعلى أمثاله من الضالين لتقول : " أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ . وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَــقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ " (الأحقاف:18ـ20) . ومن قبيل تثبيت الله ـ تعالى ـ لخاتم أنبيائه ورسله في وجه المكذبين لبعثته الشريفة ـ قدامى كانوا أم محدثين ـ ومن وسائل إنذار كفار قريش وأشباههم قدامى كانوا أم محدثين أيضاً ، وتذكيرهم بالأمم التي أهلكها الله ـ تعالى ـ من حولهم تنقلنا الآيات الثماني التالية ـ من 21 إلى 28 ـ بسرعة خاطفة إلى قصة سيدنا هود ـ على نبينا، وعليه من الله السلام ـ مع قومه ـ قوم عاد ـ الذين سكنوا منطقة الأحقاف, فدعاهم إلى الإيمان بالله ـ تعالى ـ وبملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وحذرهم نبيهم هود ـ عليه السلام ـ من الكفر بالله ـ تعالى ـ أو الشرك به, وأنذرهم بأهوال البعث بعد الموت, وأهوال العرض الأكبر أمام الله ـ سبحانه وتعالى ـ وبخطر الحساب, والميزان والصراط, وبحتمية العودة إلى الله, والخلود في الحياة الآخرة إما في الجنة أبداًً, أو في النار أبداً, ولم يكن في زمانه نذير لهم من الله ـ تعالى ـ غيره, وقد مضت الرسل من قبله, فكذبه قومه, وأنكروا عليه قوله, وسخروا من إنذاره, فدمرهم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بريح فيها عذاب أليم, وفي ذلك تقول الآيات :" وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . قَالَ إِنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ . فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ . تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ " (الأحقاف:21ـ25). ومع استمرار الحديث عن قوم عاد ينتقل الخطاب إلى كفار قريش ولأمثالهم, ليقول لهم رب العزة والجلال منبهاً من أخطار الشرك بالله, ومنذراً بعقاب الأمم من حولهم :" وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ . وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ القُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ . فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ " (الأحقاف:26 ـ 28) . ثم تنقلنا الآيات في سورة الأحقاف نقلة أخرى سريعة إلى أحد عوالم الغيب، وهو عالم الجن، وهم خلق مكلفون, ولكننا لانراهم, منهم المؤمنون ومنهم الكافرون, ولذلك تحركت قلوب بعضهم بالاستماع إلى تلاوة من القرآن الكريم, وفي ذلك توبيخ لكفار قريش الذين كذبوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن كانوا قد نعتوه بالصادق الأمين, فكفروا بالقرآن الكريم, وجحدوا أنه منزل من رب العالمين, وقد عجزوا عن معارضته ـ وهم أهل اللسان العربي الذي نزل به هذا الكتاب العظيم ـ وتنكروا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو من دمهم ولحمهم, وسليل أشرافهم, وآمنت به طائفة من الجن، وهم ليسوا من جنسه, وفي ذلك تقول الآيات موجهة الخطاب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ . قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ . يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ "(الأحقاف:29 ـ32). وتستشهد الآيات في ختام سورة الأحقاف بخلق السماوات والأرض على طلاقة القدرة الإلهية في تحقيق البعث بعد الموت, وتهدد الكافرين بيوم عرضهم على النار, وتوصي خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصبر كما صبر أسلافه من أولي العزم من الرسل، مؤكدة قصر الحياة الدنيا التي ليست إلا ساعة من نهار بلاغ عن هلاك القوم الفاسقين فتقول :" أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ المَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ . فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القَوْمُ الفَاسِقُونَ " (الأحقاف:33 ـ35). من ركائز العقيدة في سورة الأحقاف : (1) الإيمان بالله ـ تعالى ـ وبملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وبأنه ـ سبحانه وتعالى ـ هو العزيز الحكيم, الغفور الرحيم, الخالق, الباريء المصور, الواحد الأحد, الفرد الصمد, الذي لم يلد, ولم يولد, ولم يكن له كفواً أحد, وأن الشرك به كفر ؛ لأنه ـ تعالى ـ ليس له شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة, ولا ولد . (2) اليقين بأن القرآن الكريم هو كتاب منزل من لدن رب العالمين على قلب خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ هداية لأهل الأرض أجمعين, وأن هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم لايتبع إلا مايوحى إليه به من رب العالمين . (3) التسليم بخلق السماوات والأرض وما بينهما, وأن هذا الخلق قد تم بالحق وإلى أجل مسمى, أي أن الكون له حتماً نهاية من بعدها البعث والحساب والجزاء بالجنة أو النار, وإنها لجنة أبدا،ً أو لنار أبداً وإن أنكر الكافرون حتمية البعث وضرورته . (4) التصديق بالبشارات العديدة بمقدم خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ والموجودة عند بعض أهل الكتاب . (5) الإيمان بأن بر الوالدين من صميم الدين, ومن وصايا رب العالمين لعباده أجمعين, وأن عقوقهما من الكبائر ومن أسباب الخسران في الدنيا والآخرة . (6) اليقين بأن من حقوق الله على العباد التوبة من الذنوب, والشكر على النعيم, وأن من أفضل أدعية العباد الدعاء بصلاح كلٍ من الأعمال والذرية . (7) التصديق بعوالم الغيب ، ومنهم الملائكة، وهم خلق مسخَّرون من نور, ومنهم الجن, وهم خلق من نار مكلفون مخيرون, ذوو إرادة حرة كالإنس . (8) التسليم بأن من لايجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض, وليس له من دون الله أولياء . (9) الإيمان بحقيقة كلٍ من الجنة والنار, وبحتمية الخلود في الحياة الآخرة إما في الجنة إبداً، أو في النار أبداًً, وبأنه لايهلك إلا القوم الفاسقون . من الإشارات الكونية في سورة الأحقاف : (1) الإشارة إلى خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق وأجل مسمى، . والعلوم المكتسبة تؤكد أن السماوات والأرض لها بداية, وأن كل ما له بداية لابد وأن ستكون له نهاية . وهذه البينية التي تفصل الأرض عن السماوات تشير إلى مركزية الأرض من السماوات، وهو ما لا تستطيع العلوم المكتسبة إثباته . (2) التأكيد على وجود عدد من البشارات بمقدم خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند بعض أهل الكتاب, وقد ثبت ذلك . (3) تحديد فترتي الحمل والفصال للوليد بثلاثين شهراً في هذه السورة المباركة ـ سورة الاحقاف ـ وتحديد فترة فصال الوليد في عامين كما جاء في الآية الرابعة عشرة من سورة لقمان, وبذلك تكون أقصر مدة للحمل في أنثى الإنسان هي ستة شهور, وهو ما أثبته علم الأجنة مؤخراً . (4)الإشارة إلى قوم عاد, وإلى سكناهم في الأحقاف, وإلى نبيهم هود ـ عليه السلام ـ وهو من أنبياء الله الذين لم يرد لهم ذكر عند أهل الكتاب, والإشارة إلى قصته مع قومه، وإلى شيء من صفاتهم, وإلى الوسيلة التي دُمروا بها " رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ "، والكشوف الأثرية الحديثة تؤكد صدق ذلك, بينما لم يكن معروفاً عنهم شيء في زمن الوحي ولا لقرون متطاولة من بعده, ولا ذُكر لهم عند أهل الكتاب فيما بقي بين أيديهم من ذكريات . (5) الاستشهاد بخلق السماوات والأرض وما بينهما على إمكانية البعث, وعلى أن الله ـ تعالى ـ على كل شيء قدير . وكل قضية من هذه القضايا الخمس تحتاج إلى معالجة خاصة بها, ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا على النقطة الثالثة من القائمة السابقة، والتي جاءت في الآية الخامسة عشرة من سورة الأحقاف, وقبل البدء بمناقشة مافيها من إشارات علمية أرى ضرورة استعراض أقوال عدد من المفسرين في شرحها . من أقوال المفسرين: في تفسير قوله ـ تعالى ـ :" وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً " (الأحقاف:15). ذكر ابن كثير ـ يرحمه الله ـ مامختصره :.... وقال عز وجل ههنا:" وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً " أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما ." حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً " أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعباً من وحم، وغثيان، وثقل، وكرب إلى غير ذلك, مما ينال الحوامل من التعب والمشقة . " وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً " أي بمشقة أيضا من الطلق وشدته . " وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً "، وقد استُدِل بهذه الآية مع التي في لقمان " وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ " , على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر, وهو استنباط قوي صحيح, وقال ابن عباس : إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع واحد وعشرون شهراً, وإذا وضعته لسبعة كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً, وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين؛ لأن الله تعالى يقول :"وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً " . (انتهى قول المفسر) وجاء في الظلال ـ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة ـ ما مختصره :"حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً " ، وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال.. لكأنها آهة مجهد مكروب، ينوء بعبء ويتنفس بجهد, ويلهث بالأنفاس! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه, وصورة الوضع وطلقه وآلامه . ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة.. ثم الوضع, وهو عملية شاقة, ممزقة, ولكن آلامها الهائلة كلها لاتقف في وجه الفطرة, ولاتنسي الأم حلاوة الثمرة . ثمرة التلبية للفطرة, ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش, وتمتد.. بينما هي تذوي وتموت! ثم الرضاع والرعاية، حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها, وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية ، وهي مع هذا وذلك فَرِحَة سعيدة, رحيمة ودودة, لاتمل أبداً، ولاتكره تعب هذا الوليد. وأكبر ماتتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو، فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد! فأنى يبلغ الانسان في جزاء هذه التضحية, مهما يفعل، وهو لايفعل إلا القليل الزهيد؟ وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها, فسأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هل أديت حقها؟ فأجابه: " لا, ولا بزفرة واحدة " . (رواه الحافظ أبوبكر البزار ـ بإسناده ـ عن بريدة عن أبيه) . (انتهى قول المفسر) وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن ـ رحم الله كاتبها ـ مانصه : " وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً " أمرناه أن يحسن إليهما إحساناً, ويبرهما بصنوف البر في حياتهما وبعد مماتهما . والإحسان: خلاف الإساءة, وقُرئ (حسناً) . نزلت هذه الآية إلى قوله : " وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ " في أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وهو مثل رفيع في الجمع بين التوحيد والاستقامة في الدين . (انتهى قول المفسر) وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم ما موجزه : ووصينا الإنسان بوالديه أن يحسن إليهما إحساناً عظيماًً, حملته أمه حملاً ذا مشقة, ووضعته وضعاً ذا مشقة, ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهراً قاست فيها صنوف الآلام .... (انتهى قول المفسر) وجاء بالهامش مايلي : أقل مدة للحمل ستة أشهر لقوله ـ تعالى ـ : " وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً "، وقوله ـ تعالى :" وفصاله في عامين " ، وقوله ـ تعالى ـ :" وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ " . فبإسقاط مدة الفصال من مدة الحمل والفصال يبقى للحمل ستة أشهر، وهذا يتفق مع ماثبت علمياً من أن الطفل إذا ولد لستة أشهر فإنه قابل للحياة . (انتهى قول المعلق) وجاء في صفوة التفاسير ـ جزى الله كاتبها خيراً ـ مانصه : " وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً " لمَّا كان رضا الله في رضا الوالدين, وسخطه في سخطهما حث ـ تعالى ـ العباد عليه, والمعنى أمرنا الانسان أمراً جازماً مؤكداً بالإحسان إلى الوالدين ثم بين السبب فقال :" حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً " أي حملته بكره ومشقة، ووضعته بكره ومشقة . " وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً " أي و مدة حمله ورضاعه عامان ونصف, فهي لا تزال تعاني التعب والمشقة طيلة هذه المدة . (انتهى قول المفسر) وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لا أري حاجة إلى تكراره هنا . من الدلالات العلمية للنص القرآني الكريم : في قوله تعالى : " وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً " درج الناس على أن مدة حمل الجنين البشري هي في حدود التسعة شهور قمرية، أو (266) يوماً من لحظة الإخصاب, وعلى ذلك اتهموا كل وضع قبل تلك المدة بالزنا, كما حدث في الحادثة التي رواها محمد بن اسحاق عن معمر بن عبدالله الجهني قال: " تزوج رجل منا امرأة من جهينة, فولدت له لتمام ستة أشهر, فانطلق زوجها إلى عثمان ـ رضي الله عنه ـ فذكر ذلك له, فبعث إليها, فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها, فقالت : " مايبكيك ؟ . فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله ـ تعالى ـ غيره قط, فليقض الله ـ سبحانه وتعالى ـ في مايشاء " . فلما أُتى بها عثمان ـ رضي الله عنه ـ أمر برجمها, فبلغ ذلك علياًً ـ رضي الله عنه ـ فأتاه فقال له : " ماتصنع؟ " ، قال : " ولدت لتمام ستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ " ، فقال له علي ـ رضي الله عنه ـ : " أما تقرأ القرآن؟ " قال : " بلى " , قال : " أما سمعت الله ـ عز وجل ـ يقول : " وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً " , وقال: " حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ " فلم نجده بقي إلا ستة أشهر ", فقال عثمان ـ رضي الله عنه ـ : " والله مافطنت بهذا . عليَّ بالمرأة ", فوجدوها قد فُرغ منها . قال : فقال معمر : " فوالله ما الغراب بالغراب, ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه ", فلما رآه أبوه قال: " أبني . والله لا أشك فيه . " وجاء علم الأجنة في القرن العشرين ليؤكد لنا على أن أقل مدة للحمل هي ستة أشهر قمرية (أي177 يوماً) من لحظة الإخصاب, وأن الحميل إذا ولد لستة أشهر فإنه قابل للحياة؛ لأن كافة أجهزة وأعضاء جسمه يكون خلقها قد اكتمل مع نهاية الأسبوع الثامن من لحظة الإخصاب ـ أي بعد56 يوماًً ـ وأن مرحلة انشائه خلقاً آخر تبدأ من اليوم السابع والخمسين من عمر الجنين، وتستمر حتى لحظة ميلاده في فترة تتراوح مابين الستة والتسعة شهور قمرية ـ أي177 يوما إلى266 يوماً بعد لحظة الإخصاب ـ تتم خلالها عملية تحديد الملامح الشخصية للحميل . وسبق القرآن الكريم بتحديد أقل مدة للحمل بستة شهور, هذا التحديد الجازم الواضح في أكثر من آية قرآنية كريمة كالتي نحن بصددها لمما يقطع بأن هذا الكتاب الكريم لايمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه ـ اللغة العربية ـ على مدى الأربعة عشر قرناً الماضية, وتعهد ـ تعالى ـ بهذا الحفظ الكامل إلى قيام الساعة، ولم يعط هذا العهد لرسالة سابقة أبداًً . من حكم تحديد الرضاعة بحولين كاملين : يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ في سورة البقرة : " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ " (البقرة:233) ، ويقول ـ جل جلاله ـ في سورة لقمان : " وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ " (لقمان:14)، ويقول ـ تعالى ـ في سورة الأحقاف : " وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً " ( الأحقاف:15) . وجاء الفعل (حمل) بتصريفاته المختلفة بمعنى : حمل الأنثي للجنين في بطنها خمس عشرة مرة في القرآن الكريم, والأصل في (الحمل) هو (الحمل) على الظهر، فاستعير للحبل لما تشعر الأنثى بثقل الحمل أثناء فترة حبلها. يقال (حملت) المرأة إذا حبلت, والحمل هو ما تحمل الإناث في بطونها, يقال : إمرأة (حامل) و(حاملة) إذا كانت حبلى, وجمعها (حملة) . وواضح من الآيات القرآنية الثلاث أن تمام الرضاعة يكون في حولين كاملين, وأن أقصر مدة الحمل هي ستة شهور قمرية ـ أي177 يوماً من لحظة الإخصاب ـ وأن الحميل إذا ولد لستة أشهر فإنه يكون قابلاً للحياة إذا لقي الرعاية اللازمة, ومنها أن تطول مدة رضاعته لسنتين قمريتين كاملتين, وأن أتم مدة للحمل هي تسعة أشهر قمرية ـ أي:266 يوماً من لحظة الإخصاب ـ فإن ولد الحميل لتسعة أشهر قمرية كان كافياً لإرضاعه واحداً وعشرون شهراً قمريا حتى لا يتجاوز مجموع فترتي الحمل والرضاعة ثلاثين شهراً قمرياًً . وعلى ذلك، فإن إتمام إرضاع المولود من أمه أو من أم بديلة لمدة حولين كاملين ليس ملزماًً, ولكن الملزم هو الثلاثون شهراً التي يجب أن تغطي فترتي الحمل والرضاعة . وقد أثبتت الأبحاث في مجال طب الأطفال ( بورش نيلسون,1994 م.(Nelson,Borch,1994), ومجاهد أبو المجد,1995 م,1999 م) أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين استبدال الرضاعة الطبيعية من لبن الأم بإرضاع الأطفال من منتجات الألبان الحيوانية المصنعة وغير المصنعة ـ خاصة لبن الأبقار ـ وبين انتشار مرض الداء السكري بين الأطفال الرضع . كذلك ثبت وجود ارتباط قوي بين اكتمال مدة الرضاعة الطبيعية من الأم، وبين سلامة الرضيع من الإصابة بمرض الداء السكري من النوع الأول ، وكان تعليل ذلك بأن تمكين الرضيع من لبن الأم أو الأم البديلة للمدة الكافية ـ من21 شهراً قمرياً إلى24 شهراًً قمرياًً ـ يمد الرضيع بحماية فطرية ضد العديد من العوامل التي قد تؤدي إلى تدمير أعداد من الخلايا الهامة في البنكرياس، مثل خلايا بيتا التي تقوم على إفراز مادة الإنسولين لدى الأطفال الرضَّع سواء كانوا مولودين باستعداد وراثي لمرض الداء السكري أو لم يكونوا كذلك . وثبت أيضا أن البروتين الموجود في لبن الأبقار هو بذاته عامل فعال ومؤثر في إصابة الأطفال الرضع بمرض الداء السكري إذا استبدلت الرضاعة الطبيعية بلبن الأبقار مصنعاً أو غير مصنع . ويذكر الأخ الكريم الدكتور مجاهد أبو المجد أستاذ الأمراض الباطنة بكلية طب المنصورة أن دراسة أجريت تحت إشرافه في سنة (1995 م) أثبتت وجود أجسام مناعية مضادة لبروتينات لبن الأبقار في مصل الأطفال الذين أرضعوا هذا اللبن ـ مصنعاً أو غير مصنع ـ إلى نهاية العام الثاني من أعمارهم . أما الذين تناولوا هذا اللبن بعد تجاوز العامين الأولين من أعمارهم فلم يثبت وجود هذه الأجسام المناعية عندهم . ويفسر ذلك بعدم اكتمال نمو الغشاء المبطن للجهاز الهضمي عند الرضع, والذي لا يتم اكتمال نموه إلا بعد تمام العام الثاني بعد الميلاد, وبأن إنزيمات الهضم عند الرضيع لا تستطيع تكسير بروتينات ألبان الأبقار إلى مكوناتها من الأحماض الأمينية, فتمر تلك البروتينات المعقدة مباشرة إلى دم الرضيع مما يحفزه على تكوين أجسام مناعية مضادة تضر به . ويُستنتج من ذلك كله أن أقل مدة للحمل والرضاعة الطبيعية هي ثلاثون شهراً, وأن إتمام مدة الرضاعة للوليد هي حولان كاملان, وذلك يترك مدة ستة أشهر كأقل مدة للحمل, وهو ما أثبتته الدراسات الطبية مؤخراً . كذلك ثبت أن إتمام مدة الرضاعة الطبيعية من الأم أو الأم البديلة إلى حولين كاملين يحمي الرضيع من مخاطر الإصابة بالعديد من الأمراض، وفي مقدمتها مرض الداء السكري . وثبت أيضا أن إعطاء الرضيع الألبان الحيوانية المصنعة وغير المصنعة بديلاً للبن الأم في فترة السنتين الأوليتين من عمره يؤدي إلى إصابته بالعديد من الأمراض, وإلى تركيز العديد من الأجسام المناعية الضارة في جسمه, ولم يعرف ذلك إلا في أواخر القرن العشرين . لذلك أنزل ربنا ـ تبارك وتعالى ـ من قبل ألف وأربعمائة سنة قوله الحق : " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ " (البقرة:233) ، وأنزل : " وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ " ( لقمان:14) ، وأنزل: " وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً "(الأحقاف:15) . وهذه الآيات الثلاث تشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية ، ولم يقطعه لرسالة من قبل ، وحفظه حفظاً كاملاً في نفس لغة وحيه ـ اللغة العربية ـ وحفظه حرفاً حرفاً, وكلمة كلمة ليبقى حجة على جميع الناس إلى قيام الساعة . فالحمد لله على نعمة الإسلام, والحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على بعثة سيد الأنام, إمام الموحدين, وقائد الغر المحجلين, الذي بعثه الله ـ تعالى ـ رحمة للعالمين بالرسالة الخاتمة وبالدين الخاتم, ولذلك تعهد بحفظه فحفظ في وقت ضاعت أصول الرسالات السماوية السابقة كلها, وتعرض ما بقي منها من ذكريات إلى التحريف تلو التحريف, والتحرير تلو التحرير, وإلى الإضافات والتبديل والتغيير مما أخرجها عن إطارها الرباني، وجعلها عاجزة عن هداية أتباعها . فالحمد لله على ما نحن فيه من نعمة، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . |
أدوات الموضوع | |
|
|