للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب |
|
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
"فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ *وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ " (الإنشقاق:16 ـ19)
"فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ *وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ " (الإنشقاق:16 ـ19)
هذه الآيات الأربع جاءت في بداية الثلث الأخير من سورة الانشقاق وهي سورة مكية, وآياتها خمس وعشرون بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لاستدلالها بإحدي علامات الساعة وهي إنشقاق السماء. ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية ومنها الإيمان بحتمية الآخرة التي يدمر في أولها نظام الكون, ويقضي علي كل شيء إلا ماشاء الله, ثم يبعث الكون كما يبعث الناس للحساب والجزاء. ومنها الإيمان بحتمية الرجوع الي الله الذي خلقنا أول مرة, وحتمية الحساب والجزاء في يوم يتمايز فيه الخلق الي سعداء يعطون كتابهم بيمينهم فيخلدون في الجنة, وتعساء يعطي كل واحد منهم كتابه بشماله ومن وراء ظهره فيخلدون في النار لأنهم كفروا بربهم وبالبعث والحساب والجزاء, والله بصير بهم وبأعمالهم. ثم يقسم ربنا ـ تبارك وتعالي ـ بعدد من الآيات الكونية المبهرة ـ وهو تعالي غني عن القسم لعباده ـ مؤكدا اهوال يوم القيامة والشدائد المصاحبة له والتي سوف يمر بها الخلق شدة بعد شدة والكون يدمر بهم وبمن حولهم ثم يعاد الخلق والبعث, وتعرض الآيات لموقف الكفار والمشركين من القرآن الكريم وتكذيبهم به, والله ـ تعالي ـ أعلم بما في ضمائرهم من الكراهية والعداوة للرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ ولما جاء به من الحق هداية من رب العالمين, ولذلك بشرتهم الآيات بالعذاب الأليم..!! وتبدأ هذه السورة الكريمة بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ: "إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ " (الانشقاق:1 و2) وانشقاق السماء من علامات تهدم النظام الكوني, لأن الكون بناء شديد الإحكام والترابط, بين مختلف صور كل من المادة والطاقة اللتين تملآن كل المكان والزمان, فلا يوجد في الكون فراغ ـ بمعني الخلو التام من المادة والطاقة ـ وقد تخيل السابقون فراغ الكون نظرا للتناقص المستمر في ضغط الغلاف الغازي للأرض مع الارتفاع حتي لايكاد يدرك بعد ألف كيلو متر فوق مستوي سطح البحر. كذلك فإن قوي الجاذبية, والكهرومغناطيسية, والقوتين النوويتين الشديدة والضعيفة ـ والتي يتصور علماء الفيزياء الكونية إمكانية جمعها في قوة واحدة ـ هذه القوة تمسك بكل أجزاء الكون بإرادة خالقه ـ سبحانه وتعالي ـ ولا تجعل في الكون فراغا أي مكانا خاليا خلوا تاما من المادة والطاقة. ومن هنا كان تشقق السماء بداية لتفكك تلك القوي وانهيار الكون بأكمله. والسماء لاتنشق إلا بأمر من خالقها, فإذا صدر هذا الأمر الإلهي لاتملك إلا أن تستجيب في الحال وتطيع, وحق لها أن تستجيب وتطيع لأمر الله ـ تعالي ـ الذي هو رب كل شيء ومليكه, خالقه ومسيره, ومدبر أمره, والذي لا يخرج شيء عن طاعته إلا عصاة الإنس والجن ولذلك قال ـ عز من قائل ـ: "إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ " (الانشقاق:1 و2) وأضاف ـ تعالي ـ قوله العزيز: "وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ* وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ" ( الانشقاق:3 ـ5). ومد الأرض إشارة إلي توسعتها بطريقة لايعلمها إلا الله, وإلقاء مافي بطنها وتخليها عنه انصياعا لأمر ربها وطاعة له إشارة كذلك الي تهدمها, وحق لها أن تنصاع وتطيع.. فقد روي الإمام مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال:: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوان من الذهب والفضة, فيجيء القاطع فيقول: في هذا ـ أي: لأجل هذا المال ـ قتلت, ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي, ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي, ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا. وجواب( إذا) في الآيتين الأولي والثالثة من هذه السورة المباركة وماعطف عليهما محذوف, وتقديره: لقي الإنسان نتيجة عمله في الدنيا وهو عائد إلي ربه بعد الموت والبعث, ولذلك أكدت السورة الكريمة تلك الحقيقة يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ: " يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ "(الانشقاق:6). والخطاب بـ( يأيها الإنسان) موجه إلي كل الناس للتأكيد علي حقيقة أن كل فرد منهم يكدح في الحياة الدنيا مايكدح, ويجاهد ويكد, ثم ليس له من بعد ذلك إلا الموت والقبر, والبعث, والحساب والجزاء علي عمله الدنيوي: إن خيرا فخير, وإن شرا فشر.( و( الكدح) هو جهد النفس بالعمل في الحياة الدنيا, وبنهايته لقاء نتيجة هذا الكدح الدنيوي في الآخرة, فيلقي كل فرد منا جزاء كدحه. والضمير في قوله ـ تعالي ـ( فملاقيه) إما يعود علي الكدح أو علي الذات الإلهية في قوله ـ تعالي ـ: ياأيها الإنسان إنك كادح الي ربك كدحا فملاقيه أي: فملاق ربك ليجازيك علي عملك, وليكافئك علي سعيك في الحياة الدنيا, أوملاق عملك وكدحك في الدنيا. والمعني واحد انطلاقا مما رواه جابر ـ عليه رضوان الله ـ عن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أنه قال: قال جبريل: يامحمد!! عش ماشئت فإنك ميت وأحبب ما شئت فإنك مفارقه, واعمل ماشئت فإنك ملاقيه( أخرجه أبو داود الطيالسي). ولذلك قال ـ تعالي ـ " فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً " ( الانشقاق:7 ـ15). وهذا هو مصير الخلائق في الآخرة: فالسعيد هو الذي يؤتي كتابه بيمينه ـ رمزا لرضاء الله عنه وتكريمه له, ومن علامات ذلك اليسر في حسابه, فلايناقش, ولايدقق معه في الحساب, بل تقبل حسناته ويتجاوز الله ـ تعالي ـ له عن سيئاته, وذلك انطلاقا مما روته أم المؤمنين السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أنه قال: من نوقش الحساب عذب, قالت: قلت: أفليس قال الله ـ تعالي:( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً). قال: ليس ذلك بالحساب, ولكن ذلك العرض. من نوقش الحساب يوم القيامة عذب( أخرجه من الأئمة: البخاري, ومسلم, والترمذي, والنسائي). وعنها ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ كذلك أنها قالت: سمعت رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول في بعض صلاته: اللهم حاسبني حسابا يسيرا... فلما انصرف قلت: يارسول الله!! ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه. من نوقش الحساب ياعائشة يومئذ هلك!! (رواه الإمام أحمد). فهذا هو الحساب اليسير الذي يلقاه كل من يؤتي كتابه بيمينه فينجو ويصل الي من سبقه من أهله وصحبه الي الجنة فرحا مغتبطا بتكريم الله له ولهم..., أما أصحاب الأعمال السيئة من الكفار والمشركين والطغاة المفسدين في الأرض والمتجبرين علي الخلق فيؤتي كل منهم كتابه بشماله ومن وراء ظهره, تثني يده اليسري الي الوراء, ويعطي كتابه بها, إذلالا له وتحقيرا لشأنه. فيعرف في الحال مصيره, ويدرك نهايته في نار الجحيم وحينئذ يتمني الهلاك إنقاذا له مما سوف يلاقيه, ولذلك يدعو ثبورا لأن الهلاك قد أصبح أقصي أمانيه, ولكن هيهات هيهات فإنه سوف يصلي سعيرا في نار جهنم جزاء كفره أو شركه أو إفساده في الأرض, وتجبره علي الخلق, وقضاء حياته الدنيا غارقا في المعاصي والآثام والضياع والضلال لأنه كان في أهله بطرا بنعم الله, مسرورا بفسقه, لاهيا بملذات الدنيا الحقيرة عن حقيقة رسالته في الحياة, وعما ينتظره في الآخرة من حساب وجزاء, منكرا لها, رافضا حتمية رجوعه إلي ربه, وربه مطلع علي جميع أمره, محيط بحقيقة فكره, عالم بما في قلبه وعقله, محص عليه حركاته وسكناته وصمته ونطقه, ولذلك قال ـ عز من قائل ـ: "بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً" ( الإنشقاق:15) وينتقل السياق في سورة الانشقاق إلي القسم بعدد من آيات الله في الخلق منها الشفق, وهو فترة الانتقال من النهار الي الليل ومن الليل إلي النهار, ومنها الليل وماجمع وحمل من أحياء وجمادات. وأحداث ومشاعر وانفعالات, وعوالم ظاهرة وخفية, وغير ذلك من الأمور العديدة التي يحتويها النص القرآني الكريم الذي يقول فيه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ " وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ "ومن الآيات المقسم بها القمر في ليالي اكتمال نوره فيقول ربنا تبارك وتعالي ـ: " وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ "ويأتي جواب القسم بقوله تعالي ـ: " لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ ". وأصله:( لتركبونن) فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال, وحذفت الواو لالتقاء الساكنين, والمراد بالركوب هنا هو الملاقاة, و( طبقا عن طبق) أي مرتبة بعد أخري, من مراتب الموت, والقبر, والبعث والحساب والجزاء. و( عن) هنا بمعني بعد. وجواب القسم محذوف, وتقديره أن مرور الخلق بأهوال تلك المراحل هو حق مطلق, لاتستطيع قوة علي وجه الأرض إلغاء مرحلة منها أو تجاوزها, ولذلك قال ـ تعالي ـ: " فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ " (الانشقاق:21,20). ومن معاني هاتين الآيتين الكريمتين أنه إذا كان الأمر كذلك, وكان الموت, والقبر, والبعث, والحشر, والحساب, والجزاء مراحل مكتوب علي كل إنسان اجتيازها والمرور بأهوالها فأي شيء يمنع الإنسان العاقل من الإيمان بها, والتسليم بحتميتها ؟ وإذا كان القرآن بإعجاز بيانه ونظمه, وصدق إنبائه, ونبل رسالته, وصحة كل ماجاء به من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات, ومن شواهد تاريخية, وإشارات علمية, وضوابط نفسية وتربوية, وأمور اقتصادية واجتماعية, ومن دقة حفظه في نفس لغة وحيه, وتحديه للإنس, والجن ـ فرادي ـ ومجتمعين ـ أن يأتوا بشيء من مثله, وإذا كان القرآن الكريم له كل هذه المزايا فما للكفار والمشركين إذا سمعوا آياته تتلي عليهم ـ وكلها هدي ونور ـ لايخضعون لأوامر الله فيه, ولايؤمنون به!! ولعل المقصود هنا استنكار عدم خضوعهم للحق رغم وضوح أدلته, وثبات حجته, وقدرته علي هداية الخلق من عباد الله المكلفين الذين يقابلون كلام الله بمكابرة صلفة, وعناد بغير حجة ولا منطق!! ولذلك قال ـ تعالي " بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ " ( الانشقاق:22 ـ25). وتؤكد هذه الآيات الكريمة في ختام سورة الإنشقاق أن الكافرين مهما أقمت عليهم الحجة وأتيت لهم بالدليل القاطع فإنهم لن ينصاعوا للحق أبدا, بل سيظلون في تكذيبه وعناده ومخالفته إلي أن يدركهم الموت فيندمون ويتحسرون ساعة لاينفع الندم, ولا تفيد الحسرة, لأن الله ـ تعالي ـ قد أنذرهم وأمهلهم وأمد لهم في الأجل فلم يستفيدوا به, والله محيط بكل مايضمرون في صدورهم من الكراهية للحق وأهله, ومن الكفر به والتآمر عليه, ولذلك فسوف يجازيهم بأعمالهم السيئة في الآخرة الجزاء العادل ولذلك قال: والله أعلم بما يوعون.والأصل في( الإيعاء) حفظ الأمتعة في( الوعاء) واستعمل هنا في الإضمار المذكور مجازا عما يكتمون في صدورهم من شرور, ولذلك أتبع علم الله ـ تعالي ـ بهم بحكمه القاطع عليهم فقال ـ عز من قائل ـ: "فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ "أي أخبرهم يامحمد, وياكل مسلم مؤمن برسالة هذا النبي والرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ: بأن الله ـ عز وجل ـ قد أعد لهم عذابا أليما, واستخدام الفعل فبشرهم هنا هو من قبيل التوبيخ لهم والتهكم عليهم لأن البشري لاتكون إلا بخير. و( إلا) هنا بمعني لكن لاستثناء ماينتظر المؤمنين من تكريم في الآخرة جزاء أعمالهم الصالحة في الدنيا, وهو استثناء منقطع لأن( الذين آمنوا وعملوا الصالحات) لم يكونوا داخلين ابتداء في البشارة بالعذاب الأليم ثم استثنوا منها, ولكن خص بها الكفار والمشركون المكذبون بالدين الخاتم والرسالة الخاتمة, وهذه الصياغة المعجزة هي أشد إثارة للانتباه الي الأمر المستثني, فالمؤمنون الصالحون في الدنيا لهم( أجر غير ممنون) في الآخرة, أي غير مقطوع في دار البقاء والخلود, وغير معتد به ومحسوب عليهم من الفعل( من) بمعني قطع, أو( من عليه) أي اعتد بالصنيعة وحسبها عليه, وبذلك تختتم سورة الانشقاق المحدودة في عدد آياتها وكلماتها وحروفها, والواسعة في دلالاتها لتشمل الدنيا والآخرة في معادلة واحدة, بالإضافة إلي بعض معجزات الله في الخلق, وبعض مشاهد الساعة, ورسالة الإنسان في هذه الحياة الدنيا, ومصيره من بعدها. من ركائز العقيدة في سورة الانشقاق(1) الإيمان بحتمية الآخرة وبمشاهدها التي ورد ذكرها في كتاب الله وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله. (2) اليقين بأن لكل شيء في الوجود قدرا من الوعي والإدراك, والشعور والإنفعال, والذاكرة, والتعبير, والعبادة الفطرية لله ـ تعالي ـ والخضوع لأوامره إلا عصاة الإنس والجن, ومن أمثلة ذلك السماء والأرض. (3) التصديق بأن كل إنسان كادح الي ربه كدحا فملاقيه, وأن الناس سوف يتمايزون في الآخرة الي أهل الجنة السعداء, وأهل النار الأشقياء. (4) التسليم بأهوال الانتقال من الدنيا الي الآخرة. (5) الإيمان بأن المكذبين بالدين لهم في الآخرة عذاب أليم, وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم في الدنيا وفي الآخرة أجر غير ممنون. من الإشارات العلمية في سورة الانشقاق(1) وصف نهاية السماء بالانشقاق مما يؤكد شدة تماسكها وترابطها وانتشار المادة والطاقة في كل المكان والزمان. (2) وصف نهاية الأرض بالتمدد, وإلقاء مافيها, وتخليها عنه. (3) القسم بالشفق, وبالليل وماوسق, وبالقمر إذا اتسق وهي من الظواهر الكونية الدالة علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق. وكل قضية من هذه القضايا تحتاج الي معالجة خاصة بها ولذلك فسوف أقصر الحديث في المقال القادم إن شاء الله ـ تعالي ـ علي النقطة الثالثة من القائمة السابقة وإلي ذلك الحين أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذه الآيات الأربع جاءت في بداية الثلث الأخير من سورة الانشقاق, وهي سورة مكية, وآياتها خمس وعشرون بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها باحدي علامات الساعة: وهي انشقاق السماء. ويدور المحور الرئيسي للسورة الكريمة حول عدد من ركائز العقيدة الاسلامية شأنها في ذلك شأن كل السور الملكية. وقد سبق لنا استعراض سورة الانشقاق, وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والاشارات العلمية, وأركز هنا علي ومضة الاعجاز العلمي في الآيات الأربع(16 ـ19) من هذه السورة المباركة, وقبل الوصول الي ذلك أري ضرورة استعراض أقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآيات الأربع. من أقوال المفسرين في تفسير قوله ـ تعالي " فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ" (الإنشقاق:16 ـ19) ذكر ابن كثير( رحمه الله) ما مختصره: قال علي وابن عباس:( الشفق) الحمرة, وقال عبد الرزاق, عن أبي هريرة:( الشفق) البياض, فالشفق هو حمرة الأفق, إما قبل طلوع الشمس, كما قال مجاهد, وإما بعد غروبها كما هو معروف عند أهل اللغة, قال الخليل: الشفق: الحمرة من غروب الشمس الي وقت العشاء الآخرة, فاذا ذهب قيل: غاب الشفق, وفي الحديث: وقت المغرب ما لم يغب الشفق( أخرجه مسلم). وصح عن مجاهد أنه قال في هذه الآية:( فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ) هو النهار كله, وإنما حمله علي هذا قرنه بقوله تعالي:( وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) أي جمع, كأنه أقسم بالضياء( والصحيح هو أقسم بالنور) والظلام. قال ابن جرير: أقسم الله بالنهار مدبرا وبالليل مقبلا. وقال آخرون: الشفق اسم للحمرة والبياض, وهو من الأضداد. قال ابن عباس ومجاهد:( وَمَا وَسَقَ) وما جمع, قال قتادة: وما جمع من نجم ودابة, وقال عكرمة: ما ساق من ظلمة إذا كان الليل ذهب كل شيء إلي مأواه, وقوله تعالي(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) قال ابن عباس: اذا اجتمع واستوي, وقال الحسن: إذا اجتمع وامتلأ, وقال قتادة: إذا استدار, ومعني كلامهم إنه تكامل نوره وأبدر جعله مقابلا لليل وما وسق. وقوله تعالي:( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ ) قال البخاري, قال ابن عباس: حالا بعد حال, قال هذا نبيكم ـ صلي الله عليه وسلم.... وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) ما مختصره:( فَلاَ أُقْسِمُ) لا زائدة لتأكيد القسم( بالشفق) هو: الحمرة في الأفق بعد غروب الشمس.( وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) جمع ما دخل عليه من الدواب وغيرها,( والقمر اذا اتسق) اجتمع وتم نوره( أي صار بدرا كاملا), وذلك في الليالي البيض.( لتركبن), أصله( تركبونن) حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال, وحذفت( الواو) لالتقاء الساكنين( طَبَقاً عَن طَبَقٍ ) حالا بعد حال, وهو الموت ثم الحياة وما بعدها من أحوال القيامة... وبقلم الأديب المبدع ذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم), تفصيلا رائعا مسهبا نوجزه فيما يلي:.. فالشفق هو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب... وبعد الغروب تأخذ النفس روعة ساكنة عميقة. ويحس القلب بمعني الوداع وما فيه من أسي صامت وشجي عميق, كما يحس برهبة الليل المقبل, ووحشة الظلام الزاحف, ويلفه في النهاية خشوع وخوف خفي وسكون!!.( والليل وما وسق)..... هو الليل وما جمع وما حمل.. بهذا التعميم, وبهذا التجهيل, وبهذا التهويل, والليل يجمع ويضم ويحمل الكثير... ويذهب التأمل بعيدا, وهو يتقصي ما يجمعه الليل ويضمه ويحمله من أشياء وأحياء, وأحداث ومشاعر, وعوالم خافية ومضمرة, ساربة في الأرض وغائرة في الضمير... ثم يؤوب من هذه الرحلة المديدة, ولم يبلغ من الصور ما يحتويه النص القرآني القصير.( والليل وما وسق).. إنما يغمره من النص العميق العجيب, رهبة ووجل, وخشوع وسكون تتسق مع الشفق وما يضفيه من خشوع وخوف وسكون!!.( والقمر إذا اتسق)... مشهد كذلك هاديء رائع ساحر... وهو القمر في ليالي اكتماله.. وهو يفيض علي الأرض بنوره الحالم الخاشع الموحي بالصمت الجليل, والسياح المديدة في العوالم الظاهرة والمكنونة في الشعور... وهو جو له صلة خفية بجو الشفق,(والليل وما وسق) يلتقي معهما في الجلال والخشوع والسكون..(لتركبن طبقا عن طبق) أي لتعانن حالا بعد حال, وفق ما هو مرسوم لكم من تقديرات وأحوال. ويعبر عن معاناة الأحوال المتعاقبة بركوبها... وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه) مامختصره:( فلا أقسم) أي أقسم بالشفق. والشفق: الحمرة التي تظهر في الأفق الغربي بعد الغروب. أو البياض الذي يليها, وسمي شفقا لرقته, ومنه الشفقة لرقة القلب.( والليل وما وسق) أي وماجمعه وضمه مما كان منتشرا في النهار, من الخلق والدواب وغيرها. يقال: وسق الشيء يسقه, فاتسق واستوسق: جمعه فاجتمع. ومنه إبل مستوسقة: أي مجتمعة. وأمر متسق: مجتمع علي ما يسر,( والقمر إذا اتسق) اجتمع وتم نوره وصار بدرا, من الوسق وهو الجمع والضم... وكلها دلائل علي القدرة توجب الايمان. وقد أقسم الله بها علي أنهم يركبون المشاق والأهوال من وقت الموت فما بعده, كما قال تعالي:( لتركبن طبقا...) جمع طبقة, وهي المرتبة. أي لتلاقن أيها الكفار أحوالا بعد احوال. هي طبقات ومراتب من الشدة بعضها أرفع من بعض, وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة. والمراد بالركوب الملاقاة. و(عن) بمعني بعد, وهو في المعني قسم علي صحة البعث وما وراءه من أهوال وشدائد... وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) ما نصه: فأقسم قسما مؤكدا بحمرة الأفق بعد الغروب. وبالليل وما جمع ولف في ظلمته من الناس والدواب وغيرها. وبالقمر اذا تكامل وتم نوره, لتلاقن حالا بعد حال بعضها أشد من بعض من الموت والبعث وأهوال القيامة. وجاء في صفوة التفاسير( جزي الله كاتبه خيرا) ما نصه:( فلا أقسم بالشفق)( لا) لتأكيد القسم أي: فأقسم قسما مؤكدا بحمرة الأفق بعد غروب الشمس( والليل وما وسق) أي وبالليل وماجمع وضم اليه, ومالف في ظلمته من الناس والدواب والهوام. قال المفسرون: الليل يسكن فيه كل الخلق, ويجمع ما كان منتشرا في النهار من الناس والدواب والأنعام, فكل يأوي الي مكانه وسربه, ولهذا امتن تعالي علي العباد بقوله:(.. وجعل الليل سكنا..) فإذا جاء النهار انتشروا, وإذا جاء الليل أوي كل شئ إلي مأواه.( والقمر إذا اتسق*) أي: وأقسم بالقمر إذا تكامل نوره, وصار بدرا ساطعا..( لتركبن طبقا عن طبق) هذا جواب القسم أي: لتلاقن يامعشر الناس أهوالا وشدائد في الآخرة عصيبة, قال الألوسي: يعني لتركبن أحوالا بعد أحوال, هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض, وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها. وقال الطبري: المراد أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالا من الدلالات العلمية في الآيات الأربع أولا: في قوله تعالي فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ : روب حتي العتمة, وأول مايري منها من وقت الفجر الصادق حتي طلوع الشمس. وطول فترة الشفق الأحمر تحكمها سرعة الصعود الظاهري للشمس إلي الأفق في الشروق, وسرعة نزولها الظاهري تحت الأفق عند الغروب, ويعتمد ذلك علي اختلاف خط عرض المكان علي سطح الكرة الأرضية وعلي درجة ميل مدار الشمس الظاهري بالنسبة للأفق, ولذلك تقصر هذه الفترة في المناطق الاستوائية, وتطول في خطوط العرض العليا حتي يتصل الشفق المسائي بالشفق الصباحي, ويشمل الشفق الأحمر الليل كله تقريبا, ويتحقق ذلك في خطوط العرض العليا( بين66,55,48,5 درجة) في الفترة بين4/11 و8/23 من كل عام في نصف الكرة الشمالي. وعند خطوط العرض التي تزيد قيمتها علي66,55 درجة شمالا وجنوبا فإن الشمس تظل مشرقة عليها أو غائبة عنها لمدة ستة أشهر كاملة, لايتغير فيها إلا ارتفاع الدائرة اليومية التي تصنعها الشمس موازية لدائرة أفق الأرض. وهنا تحسب مواقيت الصلاة بالقياس علي أقرب خط عرض تنتظم عنده العلامات الفلكية المحددة لمواقيت الصلاة. فوقت صلاة المغرب من لحظة الغروب إلي مغيب الشفق الأحمر, ووقت صلاة العشاء من مغيب الشفق الأحمر إلي منتصف الليل( وإن قال جمهور الفقهاء بامتدادها إلي ماقبل طلوع الفجر الصادق), ووقت صلاة الصبح من طلوع الف الصادق مالم تطلع الشمس, ووقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل كل شئ كطوله مالم يحضر العصر حين يتضاعف طول ظل كل شئ وما لم تصفر الشمس. ولذلك قال ـ تعالي ــ: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلي غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا( الإسراء:78). ودلوك الشمس زوالها عند منتصف النهار, وغسق الليل اشتداد ظلمته بعد غياب الشفق الأحمر إلي منتصف الليل أو إلي ما قبل بزوغ الفجر الصادق, وعبر ربنا ــ تبارك وتعالي ــ عن صلاة الفجر بتعبير( قرآن الفجر) لأنه تطول فيها التلاوة. ويشتمل قوله ــ تعالي ــ:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) علي صلاتين نهاريتين هما صلاتا الظهر والعصر في النصف الأخير من النهار, وصلاتين ليليتين هما صلاتا المغرب والعشاء في النصف الأول من الليل, أما وقت صلاة الفجر فعند تبين شفق الشمس أي: ضوؤها غير المباشر في أفق الأرض, وهو البياض المعترض في الأفق الشرقي الذي ليس بعده ظلمة إلي ما قبل طلوع الشمس. والقسم بالشفق يشير إلي أهميته في تحديد عملية تبادل الليل والنهار, وهي عملية لازمة لاستقامة الحياة علي الأرض, ولإدراك الإنسان لمرور الزمن, ولتمكينه من التأريخ للأحداث المتتابعة, وللوفاء بالعهود والمواثيق وبالحقوق والواجبات, ولأداء العبادات المفروضة. ثانيا: في قوله تعالي وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ : القسم بالليل وما جمعه وضمه مما كان منتشرا بالنهار, وذلك لأن أغلفة الأرض الغازية والمائية والصخرية والحيوية تنكمش بالليل وتتمدد بالنهار, وأغلب الناس والدواب والهوام يأوي إلي مكانه وسربه بالليل لكي يستريح وينام ويجدد النشاط استعدادا للكدح في نهار جديد, فالليل يجمع كل شئ ويكدسه والنهار يفرق كل شئ وينثره, ولذلك أقسم ربنا ــ تبارك وتعالي ــ بالليل وما يضم ويجمع من الظلمات, والأسرار, وأعمال الخير, وأعمال الشر, والمشاعر والأحاسيس والانفعالات, والمتع والآلام والآهات, والعديد من الحوادث الكونية وغيرها. ثالثا: في قوله تعالي وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ : و(اتساق القمر) اكتمال نوره عندما تكون الأرض بين كل من الشمس والقمر, وعلي ذلك فإن أهل الأرض يرون القمر بدرا كاملا, ولما كان مدار القمر حول الأرض ومدارهما حول الشمس كذلك بيضاوي الشكل( أي قطع ناقص فإن سرعة جري كل من الأرض والقمر في فلكه ليست متساوية في كل الأوقات, لأن من قوانين الحركة في مدار القطع الناقص خضوع السرعة المحيطية لقانون تكافؤ المساحات مع الزمن, مما يقتضي اختلاف مقدار السرعة علي طول المحيط. وعلي ذلك فإنه مع اقتراب القمر من الأرض تزداد سرعته المحيطية فتزداد بالتبعية قوة الطرد المركزية له من الأرض, وإلا ارتطم القمر بالأرض فدمرها ودمرته. وعلي النقيض من ذلك فإن القمر عندما يبتعد عن الأرض فإنه يقلل من سرعة جريه في مداره حولها( أي: من سرعته المدارية) من أجل تقليل شدة القوة الطاردة المركزية بينه وبين الأرض وإلا انطلق بعيدا عنها وفقد إلي فسحة الكون. والقمر في موضع الاستقبال لأشعة الشمس( أي: في مرحلة البدر الكامل) يكون أبعد ما يكون عن الأرض ولذلك يبقي واقعا تحت إمكانية انفلاته من عقال جاذبيتها وفقده إلي الأبد لولا لطف الله, ولذلك أقسم ربنا ــ وهو الغني عن القسم لعباده ــ بالقمر إذا اتسق أي: إذا اكتمل نوره, وزاد جماله وأنار ظلمة ليل الأرض. ويأتي جواب القسم(.. بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ )بقول ربنا ــ تبارك وتعالي ــ: لتركبن طبقا عن طبق* أي: حالا بعد حال من حشرجة الموت, إلي ظلمة القبر ووحشته وحسابه وجزائه, ثم تدمير الكون بأسره مع الاحتفاظ ببقايا كل منا فيه, ثم إعادة خلق أرض غير أرضنا ــ مع احتواء ذرات أرضنا فيها ــ, وخلق سماوات غير السماوات المحيطة بنا, ثم التعرض لهول البعث وفزعه, ولأهوال الحشر والحساب, والميزان والصراط, ثم الخلود في الحياة القادمة إلي أبد الآبدين...!! وسبق القرآن الكريم بالإشارة إلي كل هذه الحقائق مما يشهد لهذا الكتاب الخالد بأنه لايمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية, في نفس لغة وحيه ــ اللغة العربية ــ وحفظه حفظا كاملا علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد, وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتي يبقي القرآن الكريم شاهدا علي الخلق أجمعين إلي يوم الدين بأنه كلام الله, وشاهدا للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة, فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
أدوات الموضوع | |
|
|