للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب |
|
|
|
أدوات الموضوع |
#21
|
|||
|
|||
سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي/إحترام الملكية الفكرية/د.راغب السرجاني
سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي احترام الملكية الفكرية في الحضارة الإسلامية د.راغب السرجاني يعد مبدأ الأمانة العلميَّة مبدأ جديدًا لم يُعرف إلا بعد ظهور الإسلام، وذلك أنه في ظلِّ غياب الدين والخُلُق لن يتورَّع إنسان عن نسبة الاكتشافات المختلفة لنفسه بُغْيَة التربُّح والشهرة. وإن كانت الأمانة العلميَّة تقتضي احترام الحقوق الفكريَّة والعلميَّة، ونسبة الجُهد والاكتشاف لصاحبه وأهله، إلاَّ أن علماء المسلمين عانوا كثيرًا من سرقة أبحاثهم واكتشافاتهم، ونسبتها إلى غيرهم من علماء الغرب ممن وُلِدُوا بعدهم بعشرات أو مئات السنين. سرقة من ابن النفيس وليس خافيًا على أحد الآن تلك السرقة الشنيعة التي حدثت لعالمنا الجليل ابن النفيس مكتشف الدورة الدمويَّة الصغرى (Pulmonar Circulation)، حيث قام بتسجيلها بدقَّة في كتابه (شرح تشريح القانون)، غير أن هذه الحقيقة ظلَّت مختفية قرونًا طويلة، ونُسِبت فيما بعد وهمًا إلى الطبيب الإنجليزي وليام هارفي[1] الذي بحث في دورة الدم بعد وفاة ابن النفيس بأكثر من ثلاثة قرون، وظلَّ الناس يتداولون هذا الوهم حتى أبان عن الحقيقة الدكتور المصري محيي الدين التطاوي. وكان الطبيب الإيطالي ألباجو قد ترجم في سنة (954هـ/ 1547م) أقسامًا من كتاب ابن النفيس (شرح تشريح القانون) إلى اللاتينيَّة، وهذا الطبيب أقام ما يقرب من ثلاثين عامًا في (الرُّها)، وأتقن اللغة العربيَّة لينقل منها إلى اللاتينيَّة، وكان القسم المتعلق بالدورة الدمويَّة في الرئة ضمن ما ترجمه من أقسام الكتاب، غير أن هذه الترجمة فُقِدَت، واتُّفِقَ أن عالمًا إسبانيًّا ليس من رجال الطبِّ كان يُدْعَى (سيرفيتوس) كان يدرس في جامعة باريس اطَّلع على ما ترجمه ألباجو من كتاب ابن النفيس؛ ونظرًا لاتهام سيرفيتوس في عقيدته، فقد طُرِد من الجامعة، وتشرَّد بين المدن، وانتهى به الحال إلى الإعدام حرقًا هو وأكثر كُتُبِه في سنة (1065هـ/ 1553م)، وشاء الله أن تبقى بعض كتبه دون حرق، وكان من بينها ما نقله من ترجمة ألباجو عن ابن النفيس فيما يخصُّ الدورة الدموية، واعتقد الباحثون أن فضل اكتشافها يعود إلى هذا العالم الإسباني ومِنْ بعده هارفي حتى سنة (1343هـ/ 1924م)، حتى صحَّح الطبيب المصري الدكتور محيي الدين التطاوي هذا الوهم، وأعاد الحقَّ إلى صاحبه؛ وذلك حين عثر على نسخة من مخطوطة (شرح تشريح القانون) لابن النفيس في مكتبة برلين، وقام بإعداد رسالة في الدكتوراه عنها، وعُنِيَ فيها بجانب واحد من جوانب هذا الكتاب العظيم، ألا وهو موضوع: (الدورة الدموية تبعًا للقرْشي)، وذلك سنة (1343هـ/ 1924م). وقد ذُهل أساتذتُه والمشرفون على الرسالة، وأصابتهم الدهشة حين اطَّلعوا على ما فيها، وما كادوا يصدقونه! ولجهلهم باللغة العربيَّة بعثوا بنسخة من الرسالة إلى المستشرق الألماني الدكتور (مايرهوف)[2] الذي كان آنذاك مقيمًا في القاهرة، وطلبوا رأيه فيما كتبه الباحث، وكانت النتيجة أن أيَّد مايرهوف الدكتور التطاوي، وكتب في أحد بحوثه عن ابن النفيس: "إن ما أذهلني هو مشابهة، لا بل مماثلة، بعض الجمل الأساسيَّة في كلمات سيرفيتوس لأقوال ابن النفيس التي تُرجِمت ترجمة حرفيَّة... أي أن سيرفيتوس، وهو رجل دين متحرِّر وليس طبيبًا، قد ذكر الدورة الدمويَّة في الرئة بلغة ابن النفيس الذي عاش قبله بما يزيد على القرن والنصف". ثم أبلغ مايرهوف حقيقة ما كشفه من جهود ابن النفيس إلى المؤرِّخ (جورج سارتون)[3]، فنشر هذه الحقيقة في آخر جزء من كتابه المعروف (تاريخ العلم)[4]!! وقد اطلع (ألدو ميلي)[5] على المَتْنَيْنِ فقال: "إن لابن النفيس وصفًا للدوران الصغير تُطابِق كلماتُه كلمات سيرفيتوس تمامًا، وهكذا فمن الحق الصريح أن يُعْزَى كشف الدوران الرئوي إلى ابن النفيس لا إلى سيرفيتوس أو هارفي"[6]. نماذج لسرقات علمية شهيرة وإن مثل هذه السرقات وانعدام مبدأ الأمانة العلميَّة في حقِّ العلماء المسلمين ليست بالشيء القليل، ويكفي أن نسرد سريعًا هنا الحقائق التالية: - نُسب علم الاجتماع إلى دوركايم[7] اليهودي الفرنسي، بينما الذي اكتشف هذا العلم وأسَّسه -كما سيأتي بيانه- هو العلاَّمة المسلم ابن خلدون. - نُسبت قوانين الحركة لإسحاق نيوتن، بينما الذي اكتشف هذه القوانين -كما سيتَّضح ذلك أيضًا فيما بعد- عالمان مسلمان هما: ابن سينا، وهبة الله بن مَلْكا[8]. - وجدنا في كتاب روجر بيكون[9] المعروف بـ (Cepus Majus) فصلاً كاملاً، هو الفصل الخامس، ما هو إلا ترجمة حرفية لكتاب المناظر لابن الهيثم، وذلك دون أن يشير بتاتًا إلى المؤلِّف الأصلي للمادَّة. لقد حدث كل ذلك مع المسلمين، أمَّا المسلمون فكان دَيْدَنُهم منهجًا آخر، إنه منهج الأمانة العلميَّة، ونسبة الجُهد والفضل لأهله، وهو المنهج الذي لم يجعل عالمًا منهم يدَّعي اكتشافًا أو سبقًا علميًّا نقله من عالم آخر من علماء الحضارات الأخرى، بل امتلأت كتبهم بأسماء العلماء الذين نقلوا عنهم، وذلك مثل: أبقراط[10] وجالينوس[11] وسقراط وأرسطو وغيرهم، وقد أنزلوهم منزلتهم، وأعطوهم التقدير الكافي والتبجيل الواضح، ولم يكن يُغْفَل اسم واحد منهم، حتى ولو كان إسهامه في الكتاب قليلاً. وعلى سبيل المثال فقد ذكر أولاد موسى بن شاكر في كتابهم (معرفة مساحة الأشكال البسيطة والكريَّة) ما نصُّه: "فكل ما وصفنا في كتابنا فإنه من عملنا، إلا معرفة المحيط من القطر؛ فإنه من عمل أرشميدس[12]، وإلا معرفة وضع مقدارين بين مقدارين لتتوالى على نسبة واحدة؛ فإنه من عمل مانالاوس[13]"[14]. ولك أن تستمع أيضًا إلى كلام العلاّمة الإسلامي الطبيب المشهور أبي بكر الرازي صاحب كتاب (الحاوي) -من أعظم الكتب في تاريخ الطب- وهو يقول: ".. ولقد جمعتُ في كتابي هذا جملاً وعيونًا من صناعة الطبِّ مما استخرجتُه من كتب (أبقراط)، و(جالينوس)، و(أرماسوس)... ومَنْ دونهم من قدماء فلاسفة الأطباء، ومَنْ بعدهم من المحدَثِين في أحكام الطبِّ مثل: (بولس)، و(آهرون)، و(حنين بن إسحاق)[15]، و(يحيى بن ماسويه)[16]... وغيرهم"[17]. وفوق هذا فإننا كنا نجد في المكتبة الإسلاميَّة كتب العلماء الأجانب مترجمة في نسخ منفصلة منسوبة لأصحابها، وكان كثيرًا ما يقوم عالم من علماء المسلمين بالتعليق عليها دون أن يتدخَّل في مَتْنِهَا؛ لكي يحافظ على فكرة المؤلِّف دون تحريف، وهذا مثل تعليق العالم المسلم الفارابي[18] على كتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو. فهذه الأمانة العلميَّة المشرِّفة كانت بالفعل من أعظم مناقب علماء المسلمين، ومن أهمِّ الأُسُس التي غيَّر بها المسلمون من نمط وطريقة تفكير العلماء السابقين، وخاصَّة أن المعاصرين من أبناء الأمم الأخرى لم يكونوا يعرفون تاريخ أجدادهم، وبالتالي فقد كان من السهل جدًّا أن تُسرق أبحاثهم، لولا البُعد الأخلاقي العميق عند علماء المسلمين. الهوامش: [1] وليام هارفي: William Harvey (1578- 1657م) طبيب إنجليزي، يعرف في الغرب على أنه مكتشف حقيقة الدورة الدموية، وعمل القلب كمضخّة. [2] ماكس مايرهوف Max Meyerhof: (1291- 1364هـ / 1874- 1945م) مستشرق وطبيب عيون ألماني، وأحد أبرز المستشرقين الغربيين، تعلم العربية وزار مصر عام 1903م واستقر بها، وتوفي بالقاهرة. اهتم اهتمامًا خاصًّا بتاريخ الطب والصيدلة في الحضارة الإسلامية. [3] جورج سارتون George Sarton: (1884- 1956م) من أبرز مؤرخي العالم، بلجيكي الأصل، متخصص في العلوم الطبيعية والرياضية، حاضر في الجامعات الأمريكية وفي الجامعة الأمريكية في بيروت، أشهر كتبه (تاريخ العلم). [4] انظر: محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص208، وعلي عبد الله الدَّفاع: رواد علم الطب في الحضارة الإسلامية ص451. [5] ألدو ميلي Aldo Mieli: (1879- 1950م) مستشرق إيطالي، وصاحب كتاب (العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي). [6] راجع علي عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة الإسلامية ص451. [7] دوركايم Durkheim: (1858- 1917م) عالم اجتماع فرنسي، عمل محاضرًا لعلم الاجتماع في جامعة بوردو، وفي السوربون في باريس، يعرف في الغرب بأنه مؤسس علم الاجتماع. [8] هبة الله بن مَلْكا: هو أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البَلَدي (ت560هـ/ 1165م)، المعروف بأوحد الزمان، طبيب، من سكان بغداد. كان يهوديًّا وأسلم في آخر عمره، وكان في خدمة المستنجد بالله العباسي، وحظي عنده. انظر: ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 2/313- 316، والزركلي: الأعلام 8/74. [9] روجر بيكون: (1214- 1292م) كان فيلسوفًا وعالمًا إنجليزيًّا، وهو يعدّ واحدًا من الشخصيات الرائدة في تطوير العلوم في القرون الوسطى. عُرف في الغرب بصفته مؤسسًا للعلوم التجريبية، وبأنه أحد الباحثين الأوائل في دراسة علم البصريات. [10] أبقراط: هو أبقراط بن أيراقليدس (460 ق.م - 355 ق.م)، يلقب بأبي الطب، من أشهر الشخصيات العلمية في التاريخ، تعلم الطب على أبيه وبرع فيه، وينسب إليه فكرة القسم الذي يقسمه الأطباء. [11] جالينوس: (130 - 200م) طبيب يوناني من أشهر الأطباء في التاريخ، ويعدّ من مؤسسي الطب الكبار، خصوصًا علم التشريح. [12] أرشميدس: (287 ق.م - 212 ق.م) عالم طبيعة ورياضيات، يعدّ من أعظم علماء الرياضيات في العصور القديمة، وهو أبو الهندسة. [13] مانالاوس: هو آكر مانالاوس، عاش في حدود القرن الأول الميلادي، من أعلام الهندسة اليونانيين، له مؤلفات اعتنى بها المسلمون في الأشكال الكرية وفي الأسطرلاب. انظر: حاجي خليفة: كشف الظنون 1/142. [14] بنو موسى بن شاكر: كتاب معرفة مساحة الأشكال، بتحرير نصير الدين الطوسي، ص25. [15] حنين بن إسحاق: هو أبو زيد حنين بن إسحاق العبادي (194- 260هـ / 810- 873م) طبيب، مؤرخ، مترجم، من أهل الحيرة بالعراق، كان عالمًا باللغة اليونانية والسريانية والفارسية، اتصل بالخليفة المأمون فجعله رئيسًا لديوان الترجمة. انظر: ابن النديم: الفهرست ص409، وابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 2/128-137. [16] يحيى بن ماسويه (يوحنا): هو أبو زكريا يوحنا بن ماسويه، طبيب خبير بصناعة الطب. سرياني الأصل، عربي المنشأ. خدم الرشيد والمأمون ومن بعدهما إلى أيام المتوكل، بمعالجتهم وتطبيب مرضاهم. توفي بسامرَّاء سنة (243هـ/ 857م). انظر: ابن النديم: الفهرست ص411، وابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 2/109-122. [17] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء 1/70. [18] الفارابي: هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي (260- 339هـ / 874- 950م) التركي الحكيم المشهور، وهو أكبر فلاسفة المسلمين. ولد في فاراب، وتوفي بدمشق. انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/153-156. يتبع عن موقع قصة الإسلام |
#22
|
|||
|
|||
سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي/حقوق الأقليات/د.راغب السرجاني
سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي حقوق الأقليات في الحضارة الإسلامية الدكتور راغب السرجاني في ظلِّ التشريع الإسلامي حظيت الأقلِّيَّة غير المسلمة في المجتمع المسلم بما لم تحظَ به أقلِّيَّة أخرى في أي قانون وفي أي بلد آخر من حقوق وامتيازات؛ وذلك أن العَلاقة بين المجتمع المسلم والأقلِّيَّة غير المسلمة حكمتها القاعدة الربَّانيَّة التي في قوله تعالى: { لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ } [الممتحنة: 9]. فقد حدَّدت هذه الآية الأساس الأخلاقي والقانوني الذي يجب أن يُعامِل به المسلمون غيرهم، وهو البرُّ والقسط لكل مَن لم يناصبهم العداء، وهي أُسُس لم تعرفها البشريَّة قبل الإسلام، وقد عاشت قرونًا بعده وهي تقاسي الويل من فقدانها، ولا تزال إلى اليوم تتطلَّع إلى تحقيقها في المجتمعات الحديثة فلا تكاد تصل إليها؛ بسبب الهوى والعصبيَّة والعنصريَّة. حق حرية الاعتقاد للأقليات قد كفل التشريع الإسلامي للأقليات غير المسلمة حقوقًا وامتيازات عِدَّة، لعلَّ من أهمِّهَا كفالة حرية الاعتقاد، وذلك انطلاقًا من قوله تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين } [البقرة: 256]. وقد تجسَّد ذلك في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكتاب من أهل اليمن التي دعاهم فيها إلى الإسلام؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "... وَإِنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَإِنَّهُ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لا يُفْتَنُ عَنْهَا..."[1]. ولم يكن التشريع الإسلامي لِيَدَعَ غير المسلمين يتمتَّعون بحرِّيَّة الاعتقاد ثم من ناحية أخرى لا يسنُّ ما يحافظ على حياتهم، باعتبارهم بَشَرًا لهم حقُّ الحياة والوجود، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا[2] لم يَرِحْ رَائِحَةَ الْـجَنَّةِ"[3]. التحذير من ظلم غير المسلمين وقد حذَّر صلى الله عليه وسلم مِن ظُلمهم أو انتقاص حقوقهم، وجعل نفسه الشريفة خصمًا للمعتدي عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ حَقًّا، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ؛ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[4]. ومن روائع مواقفه صلى الله عليه وسلم كذلك في هذا الشأن، ما حدث مع الأنصار في خيبر؛ حيث قُتِل عبد الله بن سهل الأنصاري رضي الله عنه، وقد تمَّ هذا القتل في أرض اليهود، وكان الاحتمال الأكبر والأعظم أن يكون القاتل من اليهود، ومع ذلك فليست هناك بيِّنة على هذا الظنِّ؛ لذلك لم يُعاقِب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم اليهود بأي صورة من صور العقاب، بل عرض فقط أن يحلفوا على أنهم لم يفعلوا! فيروي سهل بن أبي حَثْمَةَ رضي الله عنه أنَّ نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر، فتفرَّقوا فيها، ووجدوا أحدَهم قتيلاً، وقالوا للذين وُجِدَ فِيهِمْ: قَدْ قَتَلْتُمْ صاحبنا. قالوا: ما قتلنا ولا عَلِمْنَا قاتلاً. فانطلقوا إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، انطلقنا إلى خَيْبَرَ فوجدْنَا أحدَنا قتيلاً. فقال: "الْكُبْرَ الْكُبْرَ[5]". فقال لهم: "تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ ؟" قالوا: ما لنا بيِّنةٌ. قال: "فَيَحْلِفُونَ". قالوا: لا نرضى بِأَيْمَانِ اليهود. فَكَرِهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبْطِلَ دمه، فَوَدَاهُ[6] مائةً من إبل الصَّدقة[7]. وهنا قام الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يتخيَّله أحدٌ.. فقد تولَّى بنفسه دَفْعَ الدِّيَةِ من أموال المسلمين؛ لكي يُهَدِّئ من روع الأنصار، ودون أن يظلم اليهود؛ فلتتحمَّل الدولة الإسلاميَّة العِبْءَ في سبيل ألاَّ يُطَبَّقَ حَدٌّ فيه شُبْهَةٌ على يهودي! حماية أموال غير المسلمين وقد تكفَّل الشرع الإسلامي بحقِّ حماية أموال غير المسلمين؛ حيث حرَّم أخذها أو الاستيلاء عليها بغير وجه حقٍّ، وذلك كأنْ تُسْرَق أو تُغْصَب أو تُتْلَف، أو غير ذلك ممَّا يقع تحت باب الظلم، وقد جاء ذلك تطبيقًا عمليًّا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران، حيث جاء فيه: "وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهِمْ جِوَارُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللهِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ، وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ..."[8]. وأروع من ذلك حقُّ الأقلية غير المسلمة في أن تَكْفُلَهَا الدولةُ الإسلاميَّة من خزانة الدولة - بيت المال - عند حال العجز أو الشيخوخة أو الفقر؛ وذلك انطلاقًا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"[9]. على اعتبار أنهم من رعاياها كالمسلمين تمامًا، وهي مسئولة عنهم جميعًا أمام الله تعالى. وفي ذلك روى أبو عبيد[10] في (الأموال) عن سعيد بن المسيب[11]أنه قال: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْيَهُودِ فَهِيَ تُجْرَى[12] عَلَيْهِمْ"[13]. ومما يُعَبِّرُ عن عظمة الإسلام وإنسانية الحضارة الإسلامية في ذلك الصدد، ذلك الموقف الذي تناقلته كتب السُّنَّة النبويَّة؛ وذلك حين مَرَّتْ على الرسول صلى الله عليه وسلم جنازة فقام لها، فقيل له: إنه يهودي. فقال صلى الله عليه وسلم: "أَلَيْسَتْ نَفْسًا"[14]. وهكذا كانت حقوق الأقليات غير المسلمة في الإسلام وفي الحضارة الإسلامية؛ فالقاعدة هي: احترام كل نفس إنسانيَّة طالما لم تَظلم أو تُعَادِ. الهوامش: [1] أبو عبيد: الأموال ص28، وابن زنجويه: الأموال 1/109، وابن هشام: السيرة النبوية 2/588، وابن كثير: السيرة النبوية 5/146، وقال ابن حجر العسقلاني: ورواه ابن زنجويه في «الأموال» عن النَّضر بن شميلٍ، عن عوفٍ، عن الحسن قال: كتب رسول الله.. فذكره، وهذان مرسلان يقوِّي أحدهما الآخر. انظر: ابن حجر العسقلاني: التلخيص الحبير 4/315. [2]المعاهد كما قال ابن الأثير: أكثر ما يطلق على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب. انظر: ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/613. [3] البخاري عن عبد الله بن عمرو: أبواب الجزية والموادعة، باب إثم من قتل معاهدًا بغير جرم (2995)، وأبو داود (2760)، والنسائي (4747). [4] أبو داود: كتاب الخراج، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (3052)، والبيهقي (18511)، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (445). [5] الكبر الكبر: أي قدِّموا في الكلام أكبركم. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/177. [6] وداه: أي دفع دِيَتَه، والدية هي حقُّ القتيل. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة ودي 15/383. [7] البخاري: كتاب الديات، باب القسامة (6502)، ومسلم في كتب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب القسامة (1669). [8] البيهقي: دلائل النبوة، باب وفد نجران 5/485، وأبو يوسف: الخراج ص72، وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/288. [9] البخاري عن عبد الله بن عمر: كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق (2416)، ومسلم: في الإمارة باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (1829). [10] أبو عبيد: هو أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي (157- 224هـ / 774- 838م) من كبار العلماء بالحديث والأدب والفقه، وكان مُؤَدِّبًا، ولد بهراة، وتعلم بها، ورحل إلى بغداد ومصر، وتوفي بمكة. انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 10/490-492. [11] سعيد بن المسيِّب: هو أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن القرشي (13- 94هـ / 634- 713م) سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع. انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/119-143. [12] تجرى عليهم: أي ترسل إليهم. [13] أبو عبيد: الأموال ص613، وقال الألباني: سنده صحيح إلى سعيد بن المسيب. انظر: تمام المنة ص389. [14] مسلم عن قيس بن سعد وسهل بن حنيف: كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة (961)، وأحمد (23893). يتبع عن موقع قصة الإسلام |
#23
|
|||
|
|||
سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي/البيئة/د.راغب السرجاني
سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي حقوق البيئة في الحضارة الإسلامية الدكتور راغب السرجاني خَلَقَ اللهُ تعالى البيئة نقيَّة، سليمة، نافعة، وسخَّرها للإنسان، وأوجب عليه ضرورة المحافظة عليها؛ كما دعاه إلى ضرورة التفكُّر في آيات الله الكونيَّة، التي خُلِقَتْ في أحسن صورة، فقال الله تعالى: { أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُل زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ق: 6، 7][1]. الإنسان والبيئة وعلى هذا نشأتْ عَلاقة حُبٍّ ووُدٍّ بين الإنسان المسلم والبيئة المحيطة به من جماد وأحياء، وأدرك أن المحافظةَ على البيئة نفعٌ له في دنياه؛ لأنه سيَحْيَا حياة هانئة، وفي آخرته حيث ثواب الله الجزيل. وقد جاءت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للبيئة تأكيدًا لتلك النظرة القرآنيَّة الشاملة للكون، التي تقوم على أن هناك صلةً أساسيَّة وارتباطًا متبادَلاً بين الإنسان وعناصر الطبيعة، ونقطة انطلاقها هي الإيمان بأنه إذا أساء الإنسان استخدام عنصر من عناصر الطبيعة أو استنزفه استنزافًا فإن العالم برُمَّته سوف يُضَارُّ أضرارًا مباشرة. صور من حرص التشريع الإسلامي على البيئة جاء التشريع الإسلامي بقاعدة عامَّة لكل البشر الذين يحْيَوْنَ على ظهر الأرض؛ وهي عدم إحداث ضرر من أي نوع لهذا الكون، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ..."[2]. ثم تتابعت التشريعات الإسلامية التي تُحذِّر من تلويث البيئة أو إفسادها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك: "اتَّقُوا الْـمَلاَعِنَ الثَّلاَثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْـمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ"[3]. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم إماطة الأذى من حقوق الطريق، فروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِيَّاكُمْ وَالْـجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ"، فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ؛ إِنَّما هي مجالسنا نَتَحَدَّثُ فيهَا. فقال صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْـمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا". قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: "... وَكَفُّ الأَذَى..."[4]. و"كفُّ الأذى" هذه كلمة جامعة لكل ما فيه إيذاء الناس الذين يستعملون الشوارع والطرقات. وأكثر من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ربط بين الأجر والمحافظة على البيئة فقال: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي؛ حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْـمَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ"[5]. ثم هو صلى الله عليه وسلم يأمر صراحة بنظافة المساكن فيقول: "إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ... فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ، وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ"[6]. فما أروع تلك التعاليم والتشريعات التي تحثُّ على الحياة الطيِّبة الخالية من أي نوع من أنواع الملوِّثات؛ فتحافظ بذلك على راحة الإنسان النفسيَّة والصحِّيَّة. وفي صورة أكثر تصريحًا وتعبيرًا في الحثِّ على المحافظة على البيئة وجمالها، ما ظهر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين سأله أحدُ الصحابة: أَمِنَ الكِبْرِ أن يكون ثوبي حَسَنًا ونعلي حَسَنة؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْـجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْـحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ"[7]. ولا شكَّ أن من الجمال الحرصَ على مظاهر البيئة التي خلقها الله تعالى زاهية بهيجة. كما نجد في إرشاده صلى الله عليه وسلم إلى حُبِّ الروائح الطيِّبة وإشاعتها بين الناس، وتهاديها، وتجميل البيئة بها؛ محاربةً للبيئة الملوَّثة؛ وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ، فَلاَ يَرُدُّهُ؛ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْـمَحْمِلِ طَيِّبُ الرِّيحِ"[8]. ومن عظمة الإسلام فيما سَنَّهُ من تشريعات تخصُّ البيئة أيضًا، ما جاء في الحثِّ على استنبات الأرض وزراعتها، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلاَّ كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلاَ يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ[9] إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ"[10]. وفي رواية: "إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". فمِن عظمة الإسلام أن ثواب ذلك الغرس -المفيد للبيئة بمن فيها- موصول ما دام الزرع قد استُفيد منه، حتى ولو انتقل إلى مِلْكِ غيره، أو مات الغارس أو الزارع! وقد نوَّه التشريع الإسلامي إلى المكاسب التي يجنيها الإنسان من إحياء الأرض البور؛ إذ جعل زرع شجرة، أو غرس بذرة، أو سَقْي أرض عطشى من أعمال البرِّ والإحسان، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَلَهُ مِنْهَا -يَعْنِي أَجْرًا- وَمَا أَكَلَتِ الْعَوَافِي[11] مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ"[12]. ولأن الماء أحدُ أهمِّ الثروات البيئيَّة الطبيعيَّة، فكان الاقتصاد فيه والمحافظة على طهارته قَضِيَّتَيْنِ مهمَّتين في الإسلام، وها هو ذا الرسول صلى الله عليه وسلم ينصح بالاقتصاد في استعمال الماء حتى عندما يكون الماء متوافِرًا، يروي في ذلك عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بسعد[13] وهو يتوضَّأ فقال: "مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ ؟" قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ"[14]. كما نهى صلى الله عليه وسلم عن تلويث المياه، وذلك بمنع التبوُّل في الماء الراكد[15]. فهذه هي نظرة الإسلام والحضارة الإسلامية للبيئة، تلك النظرة التي تُؤْمِنُ بأن البيئة بجوانبها المختلفة يتفاعل ويتكامل ويتعاون بعضها مع بعض وَفْق سُنَنِ الله في الكون الذي خلقه تعالى في أحسن صورة، ووجب على كل مسلم أن يحافظ على هذا الجمال. الهوامش: [1] البهيج: الشيء الجميل الذي يُدخل البهجة والسعادة والسرور إلى مَنْ نظر إليه، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة بهج 2/216. [2] أحمد عن ابن عباس (2719)، وقال شعيب الأرناءوط: حسن. والحاكم (2345) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه. [3] صفة إلى الموصوف، أي الطريقة المقروعة، وهي وسط الطريق. والمراد بالظل: ظل الشجرة وغيرها. انظر: العظيم آبادي: عون المعبود 1/31. [4] البخاري عن أبي سعيد الخدري: كتاب المظالم، باب أفنية الدور والجلوس فيها والجلوس على الصعدات (2333)، ومسلم: كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه (2121). [5] مسلم عن أبي ذرٍّ: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهى عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها (553)، وأحمد (21589)، وابن ماجه (3683). [6] الترمذي عن سعد بن أبي وقاص: كتاب الأدب، باب ما جاء في النظافة (2799)، وأبو يعلى (790)، وقال الألباني: صحيح. انظر: مشكاة المصابيح (4455). [7] مسلم عن عبد الله بن مسعود: كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه (91)، وأحمد (3789)، وابن حبان (5466). [8] مسلم عن أبي هريرة: كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب استعمال المسك... (2253)، والترمذي (2791). [9] يرزأه أحد: أي لا ينقصه ويأخذ منه، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة رزأ 1/85. [10] مسلم عن جابر بن عبد الله: كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع (1552)، وأحمد (27401). [11] العوافي: الطير والسباع، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة عفا 15/72. [12] النسائي عن جابر بن عبد الله: كتاب إحياء الموات، باب الحث على إحياء الموات (5756)، وابن حبان (5205)، وأحمد (14310) وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح. [13] سعد بن أبي وقاص بن وهيب الزهري، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وآخرهم موتًا. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة 2/433، وابن حجر العسقلاني: الإصابة 3/73 (3196). [14] ابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في القصر وكراهية التعدي فيه (425)، وأحمد (7065)، وحسنه الألباني انظر: السلسلة الصحيحة (3292). [15] مسلم عن جابر بن عبد الله: كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد (281)، وأبو داود (69)، والترمذي (68). يتبع عن موقع قصة الإسلام |
#24
|
|||
|
|||
سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي/العلاقة مع غير المسلمين/د.راغب السرجاني
سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين الكاتب د. راغب السرجاني لم تقتصر الأنظمة في الحضارة الإسلامية على معالجة شئون المسلمين وشئون غير المسلمين في الدولة الإسلامية فقط، وإنما اهتمَّت -أيضًا- بتنظيم عَلاقة المسلمين بغيرهم من الشعوب والدول الأخرى، وقد كان لها في ذلك أسس ومبادئ لما يجب أن تكون عليه هذه العَلاقات، وذلك حالَ السِّلْـمِ والحرب على السواء، تلك الحالات التي تَتَجَلَّى فيها عظمة الحضارة الإسلامية، وتعلو إنسانيتها خَفَّاقة. الإسلام دين السلام السلام هو حقًّا الأصل في الإسلام، وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين به المصدِّقين برسوله قائلاً: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْـمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [البقرة: 208]. والسلم هنا هو الإسلام[1]، وقد عبَّر عن الإسلام بالسلم لأنه سلام للإنسان؛ سلامٌ له في نفسه، وفي بيته، وفي مجتمعه، ومع من حوله؛ فهو دين السلام. ولا غَرْوَ حين نجد أن كلمة الإسلام مُشْتَقَّة من (السلم)، وأن السلام من أَبْرَزِ المبادئ الإسلامية، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق، بل من الممكن أن يرقى ليكون مُرَادِفًا لاسم الإسلام نفسه؛ باعتبار أصل المادَّة اللغوية[2]. فالسلم في الإسلام هو الحالة الأصلية التي تُهَيِّئُ للتعاون والتعارف وإشاعة الخير بين الناس عامَّة، وإذا احتفظ غير المسلمين بحالة السلم، فهم والمسلمون في نظر الإسلام إخوان في الإنسانية[3]، فالأمان ثابتٌ بين المسلمين وغيرهم، لا ببذل أو عقد، وإنما هو ثابت على أساس أن الأصل السلم، ولم يطرأ ما يهدم هذا الأساس من عدوان على المسلمين[4]. علاقة المسلمين بالشعوب غير المسلمة ومن الواجب على المسلمين أن يُقيموا عَلاقات المودَّة والمحبَّة مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى والشعوب غير المسلمة؛ نزولاً عند هذه الأُخُوَّة الإنسانية، وانطلاقًا من الآية الكريمة { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]؛ فتَعَدُّد هذه الشعوب ليس للخصومة والهدم؛ وإنما هو مَدْعَاة للتعارف والتوادِّ والتحابِّ[5]. ويشهد لهذا الاتجاه العديدُ من الآيات القرآنية التي أَمَرَتْ بالسّلْـم مع غير المسلمين إنْ أَبْدَوُا الاستعداد والميل للصُّلْـحِ والسلام؛ فيقول الله تعالى: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْـمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ } [الأنفال: 61]، وهذه الآية الكريمة تُبَرْهِنُ بشكل قاطع على حُبِّ المسلمين وإيثارهم لجانب السّلْـم على الحرب، فمتى مال الأعداء إلى السّلْـمِ رَضِيَ المسلمون به، ما لم يكن من وراء هذا الأمر ضياعُ حقوقٍ للمسلمين أو سلبٍ لإرادتهم. قال السُّدِّي[6] وابن زيد[7]: معنى الآية: إن دَعَوْكَ إلى الصلح فأجبهم[8]. والآية التالية لهذه الآية تُؤَكِّد حرص الإسلام على تحقيق السلام، حتى لو أظهر الأعداء السلم وأبطنوا الخيانة، يقول تعالى يخاطب رسوله الكريم: { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْـمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 62]، أي أن الله يتولَّى كفايتك وحياطتك[9]. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر السلام من الأمور التي على المسلم أن يحرص عليها ويسأل الله أن يرزقه إيَّاها، فكان يقول صلى الله عليه وسلم في دعائه: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ..."[10]. بل خطب ذات يوم في الصحابة قائلاً: "لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا"[11]. كما كان صلى الله عليه وسلم يكره كلمة حرب، فقال: "أَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللهِ: عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّةُ"[12]. الهوامش: [1] انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/565. [2] انظر: محمد الصادق عفيفي: الإسلام والعلاقات الدولية ص106، وظافر القاسمي: الجهاد والحقوق الدولية في الإسلام ص151. [3] محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة ص453. [4] انظر: صبحي الصالح: النظم الإسلامية نشأتها وتطورها ص520. [5] جاد الحق: مجلة الأزهر ص810 ديسمبر 1993م. [6] السدي: هو إسماعيل بن عبد الرحمن السدي (ت 128هـ/745م) تابعي، حجازي الأصل، سكن الكوفة، قال فيه ابن تغري بردي: «صاحب التفسير والمغازي والسير، وكان إمامًا عارفًا بالوقائع وأيام الناس». انظر: ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 1/390. [7] ابن زيد: هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت نحو 170هـ/786م) فقيه، محدث، مفسر، له من الكتب: «الناسخ والمنسوخ»، و«التفسير». توفي في أول خلافة هارون الرشيد. انظر: ابن النديم: الفهرست 1/315. [8] انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4/398، 399. [9] راجع في هذا المعنى القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4/400. [10] أبو داود: كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح (5074)، وابن ماجه (3871)، وأحمد (4785)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات. وابن حبان (961)، ورواه البخاري في الأدب المفرد (1200)، والطبراني في الكبير (13296)، والنسائي في السنن الكبرى (10401)، وصححه الألباني، انظر: صحيح وضعيف سنن أبي داود (5074). [11] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر... (2804)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء (1742). [12] أبو داود: كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء (4950)، والنسائي (3568)، وأحمد (19054)، والبخاري في الأدب المفرد (814)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (1040). يتبع عن موقع قصة الإسلام |
#25
|
|||
|
|||
سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي/المعاهدات مع غير المسلمين/د.راغب السرجاني
سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي المعاهدات بين المسلمين وغير المسلمين د. راغب السرجاني من منطلق السلم والسلام كانت معاهدات المسلمين مع غيرهم، والتي بها ومن خلالها يصير الفريقان -المسلمون مع غيرهم- في مرحلة سلم، أو مهادنة وموادعة. "وإذا كان الأصل في العَلاقة هو السلم، فالمعاهدات تكون إمَّا لإنهاء حربٍ عارضة والعود إلى حال السلم الدائم، أو أنها تقرير للسلم وتثبيت لدعائمه؛ لكيلا يكون من بعد ذلك العهد احتمال اعتداء، إلاَّ أن يكون نقضًا للعهد"[1]. وعبر عصور طويلة مارست الدول الإسلامية توقيع الاتفاقيات والمعاهدات مع الدول غير الإسلامية، وتضمنت تلك الاتفاقيات التزامات وقواعد وشروطًا ومبادئ عديدة، بشكل يُمَثِّلُ تَطَوُّرًا في القانون الدولي الإسلامي. تعريف المعاهدات والاتفاقيات المعاهدات هي تلك الاتفاقات أو العهود أو المواثيق التي تعقدها الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول في حالتي السلم والحرب، وتُسَمَّى المعاهدة في الحالة الأخيرة موادعة أو مصالحة أو مسالمة، ويُقَرَّرُ بمقتضاها الصلحُ على تَرْك الحرب، لقوله تعالى : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْـمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ } [الأنفال: 61]. نماذج من المعاهدات الإسلامية معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة ومن المعاهدات التي وُقِّعَتْ بين الدول الإسلامية وغيرها ما عاهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة عند قُدُومِهِ إليها، وجاء في هذا العهد: إن اليهود يُنْفِقُون مع المؤمنين، ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم؛ مواليهم وأنفسهم، إلاَّ مَنْ ظَلَمَ وأَثِمَ، فإنه لا يُوتِغُ[2] إلاَّ نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار، وبني الحارث، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني الأوس، وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن بطانة يَهُودَ كأنفسهم، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على مَنْ حارب هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبِرُّ دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن الجار كالنفس غير مضارٍّ ولا آثم، وإن الله على أتْقَى ما في هذه الصحيفة وأَبَرّه، وإن بينهم النصر على مَنْ دَهَمَ يثرب، وإذا دُعُوا إلى صلح فإنهم يُصَالِحون، وإذا دُعُوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلاَّ مَنْ حارب في الدين على كل أناس حِصَّتَهم من جانبهم الذي قِبَلَهُمْ، وإنه لا يَحُولُ هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإن الله جارٌ لمن بَرَّ واتَّقَى[3]. ويتبين من هذا العهد أنه كان لتقرير حالة السلم بين اليهود والمسلمين، كما أنه أمان بينهم لضمان عدم وقوع الحروب، كما يظهر من هذه المعاهدة أنها كانت "لحُسْنِ الجِوَارِ، ولتثبيت دعائم العدل، ويلاحظ أن فيها نصًّا صريحًا على نصر المظلوم، فهو عهد عادل لإقامة السلم وتثبيته بالعدل ونصر الضعيف"[4]. معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران وقد أوردت كتب السيرة كنوزًا عِدَّة من أمثال هذه المعاهدات، وكان منها على سبيل المثال المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران، والتي جاء فيها: "وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ وَتَبَعِهِمْ... وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ.."[5]. وكذلك معاهدته صلى الله عليه وسلم مع بني ضَمُرَة[6]، وكان على رأسهم آنذاك مخشي بن عمرو الضمري، وأيضًا عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بني مدلج، الذين يعيشون في منطقة ينبع، وذلك في جُمَادى الأُولَى من السنة الثانية من الهجرة[7]، وفعل نفس الشيء أيضًا مع قبائل جهينة، وهي قبائل كبيرة تسكن في الشمال الغربي للمدينة المنورة[8]. العهدة العمرية ومن المعاهدات الإسلامية أيضًا عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيلياء (بيت المقدس)[9]، والتي سميت بالعهدة العمرية. وبالنظر إلى هذه المعاهدات وغيرها نجد أن المسلمين إنما يحاولون العيش في جَوٍّ هادئ مسالِمٍ مع مَنْ يجاورونهم، وأنهم لم يَسْعَوْا لقتال قَطُّ، بل كانوا دائمًا مؤْثِرين السلم على الحرب، والوفاق على الشقاق. ضوابط وشروط المعاهدات في الإسلام هذا، وقد أنشأ الإسلام ضوابط وشروطًا للمعاهدات تَضْمَنُ لها أن تكون موافِقَةً للشريعة, وللهدف الذي مِنْ أَجْلِهِ أُجِيزَت. يقول الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت[10]رحمه الله: والإسلام حينما يترك للمسلمين الحقَّ في إنشاء المعاهدات - لِمَا يَرَوْنَ من أغراض - يشترط في صحَّة المعاهدة ثلاثة شروط: أوَّلاً: ألاَّ تمسَّ قانونه الأساسي وشريعته العامَّة، التي بها قِوَامُ الشخصية الإسلامية، وقد جاء في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ"[11]. ومعناه أن كتاب الله يرفضه ويأباه. ومن خلال هذا الشرط لا يَعْتَرِفُ الإسلامُ بشرعية معاهدةٍ تُسْتَبَاحُ بها الشخصية الإسلامية، وتفتحُ للأعداء بابًا يُمَكِّنُهم من الإغارة على جهات إسلامية، أو يُضْعِف من شأن المسلمين؛ بتفريق صفوفهم، وتمزيق وَحْدَتهم. ثانيًا: أن تكون مبنية على التراضي من الجانبين، ومن هنا لا يرى الإسلام قيمة لمعاهدة تنشأ على أساس من القهر والغلبة وأزيز (النفاثات)، وهذا شرط تُمْلِيهِ طبيعة العقد؛ فإذا كان عقد التبادل في سلعة ما - بيعًا وشراءً – لا بُدَّ فيه من عنصر الرضا: { إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } [النساء: 29]، فكيف بالمعاهدة، وهي للأُمَّة عقد حياة أو موت. ثالثًا: أن تكون المعاهدة بيِّنة الأهداف، واضحة المعالم، تُحَدِّدُ الالتزامات والحقوق تحديدًا لا يَدَعُ مجالاً للتأويل والتخريج واللعب بالألفاظ، وما أُصِيبت معاهدات الدول المتحضِّرة -التي تزعم أنها تسعى إلى السلم وحقوق الإنسان- بالإخفاق والفشل، وكان سببًا في النكبات العالمية المتتابعة، إلاَّ عن هذا الطريق، طريق الغموض والالتواء في صوغ المعاهدات وتحديد أهدافها. وفي التحذير من هذه المعاهدات يقول الله تعالى: { وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ } [النحل: 94]، والدخل هو الغش الخفيُّ يدخل في الشيء فيفسده[12]. وجوب الوفاء بالعهد وقد أَكَّدَتِ الآيات القرآنية وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم على وجوب الوفاء بالعهد، ومن ذلك قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } [المائدة: 1]، وقوله تعالى: { وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا } [الأنعام: 152]، وأيضًا: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً } [الإسراء: 34]، وغيرها الكثير من الآيات التي تشير إلى هذا المعنى العظيم. وأمَّا ما جاء في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فمنه ما رواه عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعُ خِلاَلٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا"[13]. وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[14]. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَحُلَّنَّ عَهْدًا، وَلاَ يَشُدَّنَّهُ، حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ"[15]. وفي سنن أبي داود[16] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[17]. والفقهاء -وهم يَرَوْنَ أن الجهاد يكون مع الأمير الصالح والفاسق- يذهب أكثرُهم إلى أنَّ الجهادَ لا يكون مع الأمير الذي لا يلتزم الوفاء بالعهود، وعلى خلاف القانون الدولي في الحضارة المعاصرة فإن تَغَيُّرَ الظروف لا يُبَرِّر نكث العهد، وحتى إذا عجز المسلمون في ظروف مُعَيَّنَة عن الوفاء بالتزاماتهم يجب عليهم مراعاة التزامات الطرف الثاني، ومن هذا الباب القصة المشهورة عندما استولى القائد المسلم أبو عبيدة بن الجراح على حمص، وأخذ من أهلها الجزية، ثم اضطر إلى الانسحاب منها فردَّ الجزية التي أخذها من السكَّان، وقال: "إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه بلغنا ما جُمِعَ لنا من الجموع، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك.. وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم"[18]. والأمثلة كثيرة من هذا النوع في التاريخ الإسلامي؛ فتغيُّر الظروف والمصلحة القومية لا تبرِّر في الإسلام نقض العهد، كما لا يُبرِّره أن يرى المسلمون أنفسهم في مركز القوة تجاه الطرف الثاني، وقد ورد النص الصريح في القرآن يؤكِّد ذلك، فقال تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [النحل: 91]، مع الأخذ في الاعتبار بأن ذلك التشديد على المسلمين بالوفاء بالعهد كان في وقت وفي بيئة لم تكن القاعدة فيهما الوفاء بالعهود[19]. هذا هو حُكْمُ الإسلام في المعاهدات التي تُوَقِّعُها الدولة الإسلامية مع الدول الأخرى لحفظ السلام؛ فنحن مطالَبُون بالوفاء بها، والمحافظة عليها، وعدم نقضها، إلاَّ إذا نقضها العدُوُّ، أمَّا إذا لم ينقضها، ولم يُظَاهِر على عداء المسلمين، فعلى المسلمين الوفاء لهم لقوله تعالى: { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ } [التوبة: 4]. يقول الشيخ محمود شلتوت: إن "الوفاء بالمعاهدة واجب ديني، يُسأل عنه المسلم فيما بينه وبين الله، ويكون الإخلال بها غدرًا وخيانة"[20]. وبهذا يكون الإسلام قد سبق كل الأمم الأخرى بتشريعاتها في مجال تقنين المعاهدات الدولية, بل وتميَّز عنها في عدالته وسماحته مع أعدائه, والأهمُّ أن ذلك السبق كان عمليًّا ولم يكن مجرَّد تنظير، ويدلُّ على ذلك ما وَقَّعَه المسلمون من معاهدات مع أعدائهم بداية من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم مرورًا بعصر الخلفاء الراشدين, ثُم من بعدهم من عصور إسلامية. تأمين الرسل في الإسلام أمَّا في تأمين الرسل فقد جاء التشريع الإسلامي غاية في الوضوح في هذا الأمر، ودلَّت النصوص الصريحة والأفعال التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم على عدم جواز قتل الرسل بأي حال من الأحوال، وقد ألزم فقهاء الشريعة الإسلامية إمام المسلمين بتوفير الحماية لشخص الرسول، وضمان تمتُّعه بحُرِّيَّة العقيدة وأداء أعماله بحُرِّيَّة تامَّة[21]. ويترتَّب على ضمان حماية شخص الرسول عدم جواز القبض عليه كأسير، كما لا يجوز تسليمه لدولته إذا طلبته ورفض هو ذلك، حتى وإن هُدِّدت دار الإسلام بالحرب؛ لأن تسليمه يُعَدُّ غدرًا به، ولأنه يتمتَّع بالحماية في دار الإسلام[22]. ولمهمَّة الرسول دور كبير في عقد الصلح أو التحالف أو منع حدوث حرب، ولهذا فإنه ينبغي أن تتوافر له السبل والمستلزمات كافَّة، لا لشخصه، وإنما من أَجْلِ أداء مُهِمَّته المكلَّف بها، فهو يُعَبِّر عن مُرْسِلِهِ، وإن كان له رأي آخر ما دام قد قَبِلَ أداء هذه المهمَّة، وعلى المُرْسَل إليه مراعاة هذه الحالة. فقد روى أبو رافع فقال: بعثتني قريش إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فلمَّا رأيتُه وقع في قلبي الإسلام، فقلتُ: يا رسول الله، والله لا أرجع إليهم أبدًا. فقال صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلاَ أَحْبِسُ الْبُرُدَ[23]، وَارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الَّذِي فِيهِ الآنَ فَارْجِعْ"[24]. وقد أورد الهيثمي[25] في كتابه (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) مجموعة من الأحاديث تحت باب سمَّاه: (باب النهي عن قتل الرسل)، منها: ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حين قتل ابن النواحة: إن هذا وابن أثال كانا أَتَيَا النبي صلى الله عليه وسلم رسولين لمسيلمة الكذاب فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللهِ ؟". فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله. قال: "لَوْ كُنْتُ قَاتِلاً رَسُولاً لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا"[26]. قال الهيثمي: فَجَرَتِ السُنَّة أن الرسل لا تُقْتَلُ[27]. وبذلك تكون الحضارة الإسلامية قد سبقت المجتمعات الغربية بأكثر من 1400 سنة في وضع القواعد الإنسانية الحضارية للرُّسُلِ، تلك المجتمعات التي لم تعترف بهذه القاعدة حتى وقت قريب[28]. الهوامش: [1] محمد أبو زهرة: العلاقات الدولية في الإسلام ص79. [2] يوتغ: أي يُهْلك، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة وتغ 8/458. [3] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/503، 504، وابن كثير: السيرة النبوية 2/322، 323. [4] محمد أبو زهرة: العلاقات الدولية في الإسلام ص81. [5] البيهقي: دلائل النبوة، باب وفد نجران 5/485، وأبو يوسف: الخراج ص72، وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/288. [6] قبيلة بني ضمرة: من القبائل العربية من بطون عدنان، والتي تسكن في منطقة ودان غرب المدينة المنورة. [7] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 3/143. [8] ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/272. [9] وللاطلاع على نص المعاهدة انظر: الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/449، 450. [10] محمود شلتوت (1310- 1383هـ / 1893- 1963م) : فقيه مفسر مصري، ولد بالبحيرة، وتخرج بالأزهر، عُيِّن وكيلاً لكلية الشريعة، ثم شيخًا للأزهر (1958م) إلى وفاته. [11] البخاري: كتاب الشروط، باب المكاتب وما لا يحل من الشروط التي تخالف كتاب الله (2584) ، ومسلم: كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (1504) ، وابن ماجه عن عائشة (2521) واللفظ له. [12] توفيق علي وهبة: المعاهدات في الإسلام ص100، 101. [13] البخاري: كتاب الجزية والموادعة، باب إثم من عاهد ثم غدر (3007) ، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق (58) . [14] البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب إثم الغادر للبر والفاجر (3015) ، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر (1735) . [15] أبو داود: كتاب الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد (2759) ، والترمذي عن عمرو بن عبسة (1580) واللفظ له، وأحمد (19455) ، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (6480) . [16] أبو داود: هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير الأزدي السجستاني المشهور بأبي داود (202- 275هـ) ، إمام أهل الحديث في زمانه، وهو صاحب كتابه المشهور بسنن أبي داود. ولد في سجستان من بلاد فارس، وتوفي بالبصرة. انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 13/203. [17] أبو داود: كتاب الخراج، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (3052) ، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (2655) . [18] أبو يوسف: الخراج ص81. [19] صالح بن عبد الرحمن الحصين: العلاقات الدولية بين منهج الإسلام والمنهج الحضاري المعاصر ص51. [20] محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة ص457. [21] انظر: ابن حزم: المحلى 4/307. [22] عبد الكريم زيدان: الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام ص169. [23] أخيس أي: لا أنقض العهد ولا أفسده، من قولهم: خاس الشيء إذا فسد. البرد: جمع بريد وهو الرسول، انظر: العظيم آبادي: عون المعبود 7/311. [24] أبو داود: كتاب الجهاد، باب في الإمام يستجن به في العهود (2758) ، وأحمد (23908) وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح. [25] ابن حجر الهيثمي: هو أبو الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان الشافعي المصري (735- 807هـ / 1335- 1405م) ، الحافظ المحدث، أشهر كتبه مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. انظر: الزركلي: الأعلام 4/266. [26] أبو داود: كتاب الجهاد، باب في الرسل (2761) ، وأحمد (3708) ، واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: صحيح. والدارمي (2503) ، وقال حسين سليم أسد: إسناده حسن، ولكن الحديث صحيح. [27] الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 5/378. [28] انظر: سهيل حسين القتلاوي: دبلوماسية النبي محمد صلى الله عليه وسلم دراسة مقارنة بالقانون الدولي المعاصر ص182. يتبع عن موقع قصة الإسلام |
أدوات الموضوع | |
|
|