وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه، حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول :
جزى الله رب الناس خير جزائه
رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروَّحا
فأفلح من أمسي رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
ثانيًا : التحقيق :
القصة ليست صحيحة .
رواها ابن إسحاق كما في "السيرة" (2-109) لابن هشام .
حيث أوردها في "سيرة النبي" (2-109) (ح513) فذكر أن ابن إسحاق قال:
"فَحُدِّثْتُ عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: لما خرج رسول اللَّه #..." القصة.
قلت : فسند القصة منقطع ،
يشهد لذلك صيغة الرواية في قول ابن إسحاق :
"فَحُدّثتُ" التي جاءت بصيغة المبني للمجهول ، التي تدل على أن هناك سقطًا في الإسناد .
ويشهد لانقطاع السند أيضًا قول الحافظ ابن حجر في "التقريب" (2-144) :
"محمد بن إسحاق بن يسار ، أبو بكر ، المطلبي ، مولاهم المدني ، نزيل العراق ، إمام المغازي صدوق يدلس".
قلت :
ورواية السند بصيغة المبني للمجهول فيها إسقاط في السند ،
وهذا أشد من تدليس الشيوخ ، حيث يتسبب في تضييع المروي عنه، وتوعير طريق معرفته على السامع .
قال الإمام الذهبي في "الميزان" (3-468-7197) ،
"محمد بن إسحاق بن يسار ، أبو بكر ، المخرمي ، مولاهم المدني. ما له عندي ذنب إلا قد حشا في السيرة من الأشياء المنكرة المنقطعة والأشعار المكذوبة".
قلت : وذكر الإمام المزي في "تهذيب الكمال" (16-78-5644) :
أن يعقوب بن شيبة قال: سمعت محمد بن عبد الله بن نمير ، وذكُر ابن إسحاق فقال :
إذا حدث عن من سمع منه من المعروفين فهو حسن الحديث صدوق ، وإنما أُتي من أنه يحدّث عن المجهولين أحاديث باطلة.
قلت :
وبهذا التحيقيق تصبح هذه القصة باطلة؛ حيث يُحدّث فيها ابن إسحاق عن المجهولين .
طريق آخر للقصة
هذا الطريق ذُكر فيه الرجل من الجن الذي أقبل من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، ولم يُذكر فيه لطم أبي جهل لأسماء بنت أبي بكر .
والقصة من هذا الطريق جاءت من حديث زيد بن أرقم وأنس
بن مالك والمغيرة بن شعبة يتحدثون أن النبي # ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت في وجه النبي # فسترته
،وأمر الله العنكبوت فنسجت على وجهه فسترته ، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار ،
وأقبل فتيان قريش، من كل بطن رجل ، بأسيافهم وعصيهم وهراواتهم حتى إذا كانوا من النبي # قدر أربعين ذراعًا ،
نظر أولهم فرأى الحمامتين فرجع فقال له أصحابه : ما لك لم تنظر في الغار ؟ قال : رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد .
قال : فسمع النبي # قوله، فعرف أن الله قد درأ عنه بهما ، ...... قالوا: وكانت لأبي بكر منيحة غنم يرعاها عامر بن فهيرة، وكان يأتيهم بها ليلاً فيحتلبون، فإذا كان سَحَر سرح مع الناس ،
قالت عائشة: وجهزناهما أحب الجهاز ،
وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فأوكت به الجراب ،
وقطعت أخرى فصيرته عصامًا لفم القربة ، فبذلك سميت ذات النطاقين،
ومكث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،
وأبو بكر في الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر ،
واستأجر أبو بكر رجلاً من بني الديل هاديًا خريتًا يقال له عبد الله بن أريقط، وهو على دين الكفر ،
ولكنهما أمناه فارتحلا ومعهما عامر بن فهيرة ،
فأخذ بهم ابن أريقط يرتجز ، فما شعرت قريش أين وجّه رسول اللَّه #، حتى سمعوا صوتًا من جني من أسفل مكة ولا يرى شخصه يقول :
جزى الله رب الناس خير جزائه
رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروَّحا
فأفلح من أمسى رفيق محمد
التخريج
القصة من هذا الطريق وبهذا اللفظ ، أخرجها ابن سعد في "الطبقات" (1-110) ،
حيث قال: "أخبرنا مسلم بن إبراهيم ، أخبرنا عون بن عمرو القيسي أخو رياح القيسي ،
أخبرنا أبو مصعب المكي قال : أدركت زيد بن أرقم ، وأنس بن مالك ،
والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون أن النبي # ..." فذكر القصة .
التحقيق
القصة من هذا الطريق ليست صحيحة ، وسندها لا يصلح للمتابعات والشواهد ،
وفي السند علتان :
الأولى : عون بن عمرو القيسي .
أورده الذهبي في "الميزان" (3-306-6535) حيث قال :
"عون بن عمرو، أخو رياح بن عمرو ، بصري ،
قال ابن معين: لا شيء ، وقال البخاري : عون بن عمرو القيسي جليس لمعتمر ، منكر الحديث مجهول".
قلت :
1- من أشد صيغ الجرح عند البخاري قوله :
"فلان منكر الحديث".
يظهر ذلك من قول السيوطي في "التدريب" (1-349) :
"البخاري يطلق (فيه نظر)، و(سكتوا عنه) فيمن تركوا حديثه ، ويطلق (منكر الحديث) على من لا تحل الرواية عنه".
2- قول ابن معين : (لا شيء ) ،
فسره الإمام ابن أبي حاتم في كتابه "الجرح والتعديل" (3-321) حيث قال : "معنى قول ابن معين: "لا شيء": ليس بثقة".
قلت :
ولقد أورد الإمام الذهبي في "الميزان" (3-307)
هذه القصة وبهذا الطريق وجعلها من مناكير عون بن عمرو ، حيث قال :
"مسلم بن إبراهيم ، حدثنا عون بن عمرو ،
سمعت أبا مصعب المكي يقول : أدركت زيد بن أرقم وأنسًا والمغيرة بن شعبة وسمعتهم يتحدثون أن النبي # ليلة الغار قال : أمر الله شجرة نبتت في وجه النبي # فسترته ، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار..." الحديث .
وأبو مصعب لا يعرف .
قلت : وهذه هي العلة الثانية .
فمتن القصة يدور حول ثلاث جمل :
الأولى : لطم أبي جهل لأسماء ،
وقد أثبتنا أن هذه الجملة "واهية" كما بيّنا في التحقيق آنفًا.
الثانية : عدم دراية بنت أبي بكر بمكان رسول اللَّه #،
وقد أثبتنا أن هذه الجملة غير صحيحة ، ومنكرة ، كما هو مبيّن في التحقيق ،
وسنبين البديل الصحيح دراية بنت أبي بكر بمكان الرسول # ،
وقيامهم بالإمداد والتمويه والإخبار .
الثالثة :
إقبال رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من الشعر من غناء العرب.
وهذه الجملة أثبتنا أنها باطلة، وأن الطريق الآخر الذي جاءت فيه باطل، لا يصلح للمتابعات والشواهد، لما فيه من متروكين ومجهولين.
قلت : وهناك روايات أخرى يذكر فيها هذا الشعر دون ذكر لجملة لطم أبي جهل لأسماء، ودون ذكر للرجل من الجن أقبل والناس يتبعونه،
كما في الرواية التي أخرجها الطبراني في "الكبير" (4-48) (ح3605).
وهذه أيضًا رواية (غير صحيحة) ،
حيث أوردها الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5-58) وقال:
"وفي إسناده جماعة لم أعرفهم".
بدائل صحيحة
سنذكر البدائل الصحيحة التي تبيّن دراية بيت أبي بكر بمكان الرسول # ،
وأن هذا البيت العظيم قام بأعظم جهاد في الهجرة، منذ خروج رسول اللَّه #
من مكة حتى وصوله إلى المدينة .
فقد ثبت في "صحيح الإمام البخاري" (ح3905) من حديث عائشة رضي الله عنها زوج النبي # قالت :
فبينما نحن يومًا جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة ،
قال قائل لأبي بكر : هذا رسول اللَّه # مُتَقَنِّعًا - في ساعة لم يكن يأتينا فيها -
فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي ، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ، قالت : فجاء رسول الله # فاستأذن فأذن له ، فدخل فقال النبي # لأبي بكر : أخرج من عندك ،
فقال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله ، قال : فإني قد أُذن لي في الخروج ، فقال أبو بكر : الصحابة بأبي أنت يا رسول الله ، قال رسول اللَّه #: "نعم".
قال أبو بكر : فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول اللَّه #: "بالثمن".
قالت عائشة : فجهزناهما أحث الجهاز ،
وصنعنا لهما سفرة في جراب ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب ، فبذلك سميت ذات النطاق ،
قالت: ثم لحق رسول اللَّه # وأبو بكر بغار في جبل ثور ، فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن ، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت .
فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيفهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس،
يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث ، واستأجر رسول اللَّه # وأبو بكر رجلاً من بني الديل ، وهو من بني عبد بن عدي هاديًا خريتًا - والخريت الماهر بالهداية- قد غمس حلفًا في آل العاص بن وائل السهمي ، وهو على دين كفار قريش ،
فأمناه ،
فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل".
قلت :
وهذه الرواية تبيّن الهمة العالية لبيت أبي بكر ، والرسول وصاحبه في الغار .
ولقد بوّب البخاري بابًا في كتاب "الجهاد والسير" من "صحيحه" :
"باب حمل الزاد في الغزو"، وافتتحه بحديث أسماء بنت ابي بكر رضي الله عنها (ح2979)
قالت : "صنعت سفرة رسول اللَّه # في بيت أبي بكر حين أراد أن يهاجر إلى المدينة .
قالت : فلم نجد لسفرته ولا لسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: والله ما أجد شيئًا أربط به إلا نطاقي ،
قال: فشقيه باثنين فاربطيه ، بواحد السقاء ، وبالآخر السفرة ،
ففعلت ، فذلك سميت ذات النطاقين".
قلت : وأصبحت هذه منقبة لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ،
لا يجحدها إلا حاقد حاسد.
فقد أخرج البخاري (ح5388) عن هشام بن عروة عن أبيه وعن وهب بن كيسان قال :
كان أهل الشام يعيّرون ابن الزبير يقولون :
يا ابن ذات النطاقين ،
فقالت له أسماء : يا بني ، إنهم يعيّرونك بالنطاقين ،
وهل تدري ما كان النطاقان؟
إنما كان نطاقي شققته نصفين، فأوكيت قربة رسول اللَّه # بأحدهما،
وجعلت في سفرته آخر .
قال : فكان أهل الشام إذا عيّروه بالنطاقين يقول : إيهًا والإله "تلك شكاة ظاهر عنك عارها".
قلت : هذا ما صح لأسماء بنت أبي بكر في الهجرة .
ولقد توفيت أسماء رضي الله عنها بمكة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير بيسير ،
وكانت قد ذهب بصرها ،
وقال هشام بن عروة عن أبيه :
كانت أسماء قد بلغت مائة سنة لم يسقط لها سن ولم ينكر لها عقل.
كذا في "تهذيب الكمال" (22-291-8369).
هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد..
مجلة التوحيد