منتديات الجامع  

للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب
 Online quran classes for kids   online quran academy   Online Quran School 




فور شباب ||| الحوار العربي ||| منتديات شباب الأمة ||| الأذكار ||| دليل السياح ||| تقنية تك ||| بروفيشنال برامج ||| موقع حياتها ||| طريق النجاح ||| شبكة زاد المتقين الإسلامية ||| موقع . كوم ||| طبيبة الأسرة

العودة   منتديات الجامع > القسم العام > شخصيات تاريخية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
  #1  
قديم 2022-07-22, 05:47 PM
معاوية فهمي إبراهيم مصطفى معاوية فهمي إبراهيم مصطفى غير متواجد حالياً
مشرف قسمي العيادة الصحية والمجتمع المسلم
 
تاريخ التسجيل: 2018-02-05
المشاركات: 2,188
افتراضي الإمام البخاري ومكانته في المجتمع الإسلامي

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-

(( الإمام البخاري ومكانته في المجتمع الإسلامي ))
الشيخ طه محمد الساكت
محاضرة أُلقِيت بجامعة أم درمان الإسلامية
يوم الخميس 7 من ذي القعدة 1394 الموافق 21 من نوفمبر 1974

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه، وأتباعه وحزبه، أولئك حزب الله ﴿ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22]، أما بعد:

فهذه كلمة عابرة في ذكرى الإمام البخاري رحمه الله، إذ كانت ولادته بعد صلاة الجمعة ثلاث عشرة ليلةً خَلَتْ من شوال سنة أربع وتسعين ومائة، كما كانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين.



أقول إنها كلمة عابرة؛ لأنها لا تعدو ثماني لمحاتٍ[1] بعِدة أبواب الجنة، في حياة هذا الإمام العظيم ومكانته، أرجو أن تكون مفاتيحَ لهذه الحياة الطيبة المباركة بإذن الله ومعونته، كما أرجو أن تكونَ مفاتيحَ لأبواب الجنة بفضل الله ورحمته.



لمحة في نسبه ونشأته، وأخرى في نبوغه منذ طفولته، وثالثة في ارتحاله طالبًا للعلم، ورابعة في شيوخه وتلاميذه، وخامسة في حفظه وثناء الأئمة عليه، وسادسة في مؤلفاته، وسابعة في صفاته وشمائله، والثامنة وهي الخاتمة.



1 - نسب الإمام ونشأته:

هو أبوعبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه[2]، أسلم جده المغيرة على يد اليمامة الجُعفي وَالي بُخَارى وقتئذٍ، فنُسِب إليه نسبةَ ولاءٍ، عملًا بمذهب مَن يرى أنه من أسلم على يد إنسان فولاؤه له، كما في الجامع الصغير للسيوطي: "مَن أسلم على يَدي رجلٍ فلَه وَلَاؤه"؛ رواه الطبراني وغيره عن أبي أمامة رضي الله عنه، جـ2، ص 164.



وبُخارى من أعظم مُدُن ما وراء النهر؛ نهر جيحون، بينها وبين سمرقند ثمانية أيام، وهي تحت نفوذ الاتحاد السوفيتي الآن بولاية أزبكستان.



قال الحافظ في مقدمة الفتح: "وأما والده إبراهيم بن المغيرة (يعني جَد الإمام الأول) فلم نقف على شيء من أخباره، ثم ذكر عن إسماعيل والد الإمام أن له ترجمةً في كتاب الثِّقَات لابن حِبَّان، وذَكره ولده في التاريخ الكبير، فقال: "إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة سَمِع مِن مالك وحماد بن زيد، وصَحِب ابن المبارك".



وقد جمع والده إلى العلم الوَرَعَ والتقوى، فيُروى عنه أنه قال عند وفاته: "لا أعلم في مالي درهمًا من حرام ولا من شُبْهة"؛ فالإمام البخاري إذًا من بيت علم ودين ووَرَع فلا عجبَ أنه وَرِث الخلال الكريمة فيما وَرِث من بيت نبيل كريم.



مات أبوه العالم النبيل وهو صغير، فكفلته العَقِيلة النَّبيلة أمُّه وأحسنَتْ تربيتَه، وقد كان له من مال أبيه الحلال الطيب الذي تركه ما أعانها على أن تُنشِّئه تَنْشِئةً كريمةً صالحةً، وقد حفَّت العناية الربانية هذا اليتيم النبيل وأمَّه منذ صغره؛ فقد رُوي أنه ذهبَتْ عيناه وهو صغير، فحزنَتْ أمُّه من أجله حزنًا شديدًا، ولجأت إلى ربها بالدعاء، فرأت في منامها الخليل إبراهيم عليه السلام يقول لها: "يا هذه قد ردَّ الله على ابنك بصَرَه بكثرة دُعائك له"، فأصبح وقد ردَّ الله عليه نورَ عينيه، فتبدَّل حزنها سرورًا، لا ريب أن ذلك بعض إكرام الله لأوليائه.



( 2 ) نبوغ الإمام منذ طفولته:

ظهر نبوغ البخاري وهو طفل في الكُتَّاب، وألهمه الله حفظ الحديث، فرزقه منه حظًّا وَافِرًا قبل أن يبلغ العاشرة من عمره، ثم صار يختلف إلى علماء عصره وأئمة بلده، فيأخُذ عنهم الحديث والعلم، ويراجعهم في بعض ما يسمع منهم، وربما ردَّ بعضهم إلى الصواب في أدبٍ ورفقٍ وهو ابن إحدى عشرة سنة.



وما إن بلغ السادسة عشرة من عمره المبارك حتى حفظ كُتُب عبدالله بن المبارك ووكيع بن الجراح، وعرف كل أصحاب الرأي وأصولهم ومذهبهم، وفي هذا العام نفسه - وهو العام العاشر بعد المائتين - خرج إلى بيت الله الحرام حاجًّا هو وأمُّه وأخوه أحمد وكان أَسنَّ منه، وبعد الحج رجع أخوه مع أمِّه إلى بُخارى، أما هو فآثَرَ المقام بمكة المكرمة يطلب الحديث والعلم، وكانت مكة من أهم المراكز العلمية في الحجاز، وقد وجد فيها طَلِبَته، وكان يذهب إلى المدينة المنورة بين الحين والحين، وفي الحرمين الشريفين ألَّفَ بعضَ كتبه، ووضع أساس الجامع الصحيح وتراجمه.



وقد ألَّفَ التاريخ الكبير عند قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، كان يكتبه في الليالي المُقْمِرة، وتَوارِيخه الثلاثة: الكبير، والأوسط، والصغير، تَنُمُّ عن مقدرته الفائقة في معرفة الرجال؛ حتى كان يقول: "وقلَّ اسمٌ في التاريخ إلا ولَهُ عندي قصة"، ويقول: "إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحدٌ يطالبني أني اغتبْتُه"، ورجاؤه هذا مُحقَّق بإذن الله وفضله، فما عُرِف عنه أنه اغتاب أحدًا قَطُّ، ولما ذُكر له التاريخ وما فيه من الجرح والتعديل وما إليها، أجاب على الفور: "ليس هذا من هذا"، و"إنما رَوينا ذلك رواية ولم نقُله من عند أنفسنا"[3]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ائْذَنُوا له، بِئْسَ أخُو العَشِيرَةِ))، وليس ذِكر مساوئ الرواة (فيما يتعلق بالرواية) من الغِيبة في قليل ولا كثير، بل إن ذلك من النصيحة الواجبة المحتومة، ومع هذا كان البخاري نزيهًا عفيفًا مُتحَرِّيًا للحق في نقد الرواة وبيان أحوالهم، وستأتي الإشارة إلى ذلك.



( 3 ) ارتحال الإمام طالبًا للعلم:

الرحلةُ في طلب العلم والفقه في الدين شعبةٌ من شُعَب الجهاد في سبيل الله، لا تقِلُّ شأنًا عن قتال العدو لإعلاء كلمة الله، وربما كانَتْ مع صِدْق النية، وحُسْن الطويَّة، والعمل بالعلم، والدعوة إلى الخير- أجلَّ شأنًا وأرفع مكانًا .



وقد ضرب إمامُنا في رحلاته بسهم عظيم، وقلَّ قُطْرُ من أقطار الإسلام إلا وله إليه رحلة: دخل الشام ومصر مرتين، والبصرة أربع مرات، وأقام بالحجاز ستة أعوام، ولا تُحصى رحلاته إلى الكوفة وبغداد مع المحدِّثين، وكانت بغداد بلد الخلافة وموئل[4] العلم والعلماء، وفي بغداد التقى بالإمام أحمد مرارًا، وكان يحثُّه على الإقامة بها، ويلومه على الإقامة بخراسان!



وكان في هذة الرحلات المتتابعة دائبًا على جَمْع الأحاديث وتقييدها بالكتابة ليله ونهاره، بهِمَّةٍ لا تكِلُّ وعزيمةٍ لا تَمَلُّ.



( 4 ) شيوخ الإمام وتلاميذه:

وقد أتاحت له رحلاته لقاء المحدِّثين من الشيوخ الأمناء الثِّقات الذين بلغوا من الكثرة حَدًّا لم يتهيَّأ إلا لمثله، رُوي عنه أنه قال: كتبت عن ألف وثمانين رجلًا ليس فيهم إلا صاحب حديث، ولم أكتب إلا عَمَّنْ قال: الإيمان قول وعمل[5].



ومن أعيان شيوخه: أحمد بن حنبل، ويحيى بن مَعين، وإسحاق بن راهويه، أما عدد مشايخه الذين خَرَّج عنهم في الجامع الصحيح، فيبلغون ثلاثمائة إلا قليلًا.



فأمَّا تلاميذه والرواة عنه، فهم لا يُحصَون كثرةً، حتى قيل: إنه سمِع الصحيح منه تسعون ألفًا، من أعيانهم: الفِرَبْريُّ، والنَّسَفِيُّ، والنسويُّ، والبَزْدَويُّ، وهؤلاء الأربعة هم أشهر رواة الجامع الصحيح عنه.



وعن تلاميذه أخذَ تلاميذُهم وهكذا إلى وقتنا هذا، ويدخل في تلاميذه كلُّ مَن قرأ مؤلفاته أو شيئًا منها ودرسها، ولا سيَّما الأبناء البَرَرة الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحْسَنَه، وتلك بعض آثاره رضي الله عنه.



( 5 ) حفظ الإمام وثناء الأئمة:

كان الإمام البخاري في حفظه وذكائه، وعلمه بالرجال، وبصَره بعِلَل الحديث آيةً من آيات الله في أرضه، وحُجةً من حجج الله على عباده، فلا عجب أن أثنى عليه شيوخُه وأقرانُه وتلاميذه، ومَن جاء بعده.



وحسبنا من هذا الإجماع العجيب، ما رواه الحاكم بسنده أن مسلمًا جاء إلى البخاري فقَبَّله بين عينيه، وقال: "دعني أُقَبِّل رِجْليك يا أستاذ الأُسْتَاذِين وسيد المُحدِّثين، وطبيب الحديث في عِلَلِه".



فأما ثناء مَنْ جاء بعده، فيكفي فيه قول الحافظ في مقدمة الفتح: "ولو فَتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخَّر عن عصره، لفَنِي القِرْطاس، ونفِدَت الأنفاس؛ فذاك بحرٌ لا ساحل له".



ولعل الله جَلَّت آلاؤه أنعم على البخاري بهذه النعمة العظيمة: نعمة الحفظ العجيب النادر؛ ليحفظ على الأمة سُنَّةَ نبيِّها بتأليف الجامع الصحيح، الذي هو أوَّلُ كتاب أُلِّف في الأحاديث الصحيحة وحدها، فأمَّا الأئمة قبله فكانوا يجمعون بين الصحيح والحَسَن والضعيف، تاركين التمييز بينها إلى معرفة القارئين والطالبين والدارسين ومقدرتهم على التفرقة بين المقبول منها والمردود.



ومن الأدلة التي لا تُحصى على حفظ البخاري وتَوقُّد ذِهْنِه ما حدث له حينما قدم بغداد؛ إذ اجتمع عليه علماؤها وأرادوا امتحانه، فعَمَدُوا إلى مائة حديث، فقَلَبُوا مُتُونها وأسانيدها، ثم أعطَوا كلَّ واحدٍ منهم عشرةَ أحاديث منها، فقرأ عليه أولهم العشرة التي معه، وكان كلما ذكر حديثًا قال له البخاري: لا أعرفه، وهكذا حتى انتهى العشرةُ من سَرْد ما عندهم، فصار الجُهَّال من الحاضرين يحكمون على البخاري في أنفسهم بالعجز والتقصير! وأما العلماء منهم فيقولون: فَهِم الرجل! ثم التفت البخاري إلى الأول فقال له: أما حديثك الأول فصِحَّتُه كذا، وأما حديثك الثاني فصِحَّتُه كذا حتى انتهى من ذكر أحاديثه العشرة، ثم التفت إلى الثاني والثالث وهكذا إلى تمام العشرة، يَذْكر الحديث المقلوب ثم يذكر صِحَّته فلم يجد علماء بغداد بُدًّا من الاعتراف له بالحفظ والتَبرِيز[6] والإمامة.



قال صاحب الفتح في مقدمته: "وهنا يُخضَع للبخاري! فما العَجَب في رَدِّه الخطأ إلى الصواب؛ فإنه كان حافظًا، بل العَجَب من حِفْظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرَّةٍ واحدةٍ!"



قال أخونا أو ابنُنا الدكتور الحسيني في كتابه (البخاري مُحدِّثًا وفقيهًا): "وإذا علمنا أن الامتحان كان من علماء بغداد في عصرها الذهبي الزاهر بعلماء الإسلام، ازداد تقديرنا لمواهب الإمام البخاري العلمية، ومن هذا الامتحان الذي اجتازه البخاري يَتَبين لنا بوضوح أنه كان موسوعةً علميةً بمعرفة جميع الأحاديث بإسنادها ومُتُونها، وبهذة المقدرة العلمية حاز ثقةَ العلماء فَالتَفَّ حول مجلسه عشرات الآلاف ينهلون من فَيضه"؛ ص 54-55.



وإذا قال الشافعي (ت 204هـ) رحمه الله: إن موطأ مالك أصحُّ كتابٍ بعد كتاب الله تعالى؛ فإنما قال ذلك لأنه لم يُدرك صحيح البخاري، فقد تُوفي رحمه الله والبخاري طفلٌ في الكُتَّاب. نعم، إن درجة الموطأ في صِحَّته تُقارب درجة الجامع الصحيح أو تُساويها، ولكنَّ مالكًا كان فَقيهًا أكثر منه مُحدِّثًا، والبخاري كان مُحدِّثًا أكثر منه فَقيهًا، فقد كان الإمام البخاري رحمه الله فَقيهًا مجتهدًا مستقلًّا لا مُقلِّدًا، كما يظنُّ بعض الفقهاء والمُحدِّثين، مُستَدلِّين بموافقته لبعض أئمة الفقه في بعض ما استنبط من الكتاب والسُّنَّة، وليست الموافقة دليلًا على التقليد، فكم من مسائل لا تُحصى اتفق الأئمةُ على استنباطها اتفاقًا تامًّا أو قريبًا، على أن منهج البخاري في تدوين ما استنبط يختلف عن منهج أئمة المذاهب، ويتَجَلَّى منهجه هذا في تراجمه للجامع الصحيح؛ ولذلك قال جَمْعٌ من الفُضلاء: "فِقْهُ البخاري في تراجمه"، وبهما وبأمثالهما رضي الله عنهما، تحيا الأُمَم، وتُبعَث الهِمَم، ويُباهي سيِّد العرب والعَجَم.



( 6 ) مؤلفات الإمام البخاري:

قِيل في شأن المؤلفات الجديرة بالذكر ما نصُّه: "إنه لن يُوضع تأليف في ميزان النجاح والفلاح، إلا إذا كان سليمًا قَوِيمًا أمينًا مقصودًا به النفع والخير، وعلى حَسَب نية صاحبه ونَصْفَته[7] وأمانته وكفايته، يُؤتي أُكُله"، ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 58].



ومؤلفات البخاري كلها تشهد بإخلاصه لله عز وجل، ورغبته في الخير والنفع لعباده، لا يَبْتغي منهم أجرًا، ولا يريد منهم جزاءً ولا شكورًا.



وتربو مؤلفاته على العشرين، منها التواريخ الثلاثة التي أشرنا إليها، والتفسير الكبير، والجامع الكبير، والأدب المفرد، والمسند الكبير.



وأعظم مؤلفاته الجامع الصحيح؛ وقد وضع أساسه في المسجد الحرام، وبَيَّض تراجمه في الروضة الشريفة، ومكث في تأليفه ست عشرة سنة يجمع ويُدقِّق ويختار وينتقي على شرطه الذي عُرِف من بعده حتى جاء كتابه على ما أَحَبَّ ورَضِيَ، وقد قال فيه: "ما أدخلتُ فيه حديثًا إلا استخرْتُ اللهَ تعالى وصلَّيْتُ ركعتينِ وتَبَيَّنْتُ صِحَّته".



وما أعظم إنصاف الإمام النووي وهو يُوازن بين الصحيحين ويعطى كلًّا منهما حقه![8]؛ فيذكر اتفاق العلماء على أنَّ أصَحَّ الكتب بعد كتاب الله العزيز هما الصحيحان اللذان تَلَقَّتْهما الأُمَّةُ بالقَبول، وأن كتاب البخاري أَصَحُّهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، كما يذكر أن مسلمًا كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث.



ثم يُنصِف مسلمًا فيُفضِّله على البخاري بفضيلة حسنة، وهي كونه أسهل ترتيبًا وتناولًا؛ إذ جعل لكل حديث مَوْضعًا واحدًا يليق به، جَمع فيه طُرُقَه وأسانيدَه، بخلاف البخاري فإنه يذكر الطُّرُق المختلفة متباعدةً متفرِّقةً، وكثير منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إلى الفهم أنه أَوْلى به، وذلك لدقيقة يَفْهَمُها البخاري، ألا ما أعظم هذه الدقيقة التي يذكرها الإمام النووي في موازنته، وما أدَّلها على غزارة فِقْه البخاري وبديع استنباطه لِمَعانٍ وفوائد إن خَفيت على الناشئين، فقد هزَّت جهابذة المُحدِّثين إعجابًا وإِكبارًا! وقد أوضحَها صاحبُ الفتح في مقدمته، ولخَّصَها أخونا العلامة أبو شهبة في كتاب (أعلام المحدِّثين).



(7) من صفات الإمام وشمائله:

كان الإمام البخاري نحيفَ الجسم بينَ الطويل والقصير، مَيَّالًا إلى السُّمْرة، وكان مُتَقلِّلًا من المآكل جدًّا، غاية في الحياء والكرم والزهد والرغبة فيما عند الله عز وجل، وكانت له ثروة من الحلال الطيب، ينفق منها سرًّا وجهرًا على طلب العلم وعلى تلاميذه، وكان يجزل لهم العطاء، رُوي عنه أنه قال: "كنت أستغل كل شهر خمسمائة درهم، أنفقها في الطلب، وما عند الله خير وأبقى".



وقد تعلَّم الرمي وحَذَقه، حتى قيل: إنه ما أخطأ في حياته إلا مرتين، وكان علماء السلف يُعِدُّون أنفسهم للجهاد في سبيل الله، حتى إذا ما دعا داعي الجهاد كانوا أسرع الناس إلى استجابة النداء ولقاء الأعداء.



وكان رضي الله عنه شريفَ النفس موفورَ الكرامة، شديدَ الاعتزاز بالعلم، يصونه عن الابتذال والسعي به إلى بيوت الأمراء والسلاطين، ولو أدَّى ذلك إلى جفوتهم له أو غضبهم عليه.



وكان رحمه الله يقول: "الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، والقرآنُ كلامُ الله غير مخلوق، وأفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليٌّ، عَلى هذا حَيِيتُ، وعليه أُبْعَث إن شاء الله".



وكانت له في حياته كرامات حدَّث بها ورواها الأثبات الثِّقات، فأمَّا كراماته بعد وفاته فما يزال يراها رأي العين من اقتدى به، وتأدَّب بأدَبه .



ومن شعره الذي يُعَدُّ من الحكم ما ذكره الحاكم في تاريخه عنه:
اغْتَنِمْ في الفراغِ فَضْلَ رُكوعٍ
فعسى أن يكونَ موتُكَ بَغْتهْ
كم صَحيحٍ رأيْتَ مِن غَيْر سُقْمٍ
ذهبَتْ نفسُه الصحيحةُ فَلْتَهْ



وكأنه رضي الله عنه كان يعني بهذين البيتين نفسَه! فقد كتب إليه أهل سمرقند يلتمسون منه الخروج إليهم، فتهيَّأ للرحيل، وفي أثناء طريقه شعر بضعف، فتضرَّع إلى ربِّه بدعوات يُناجيه بها، وأحبَّ لقاءَ الله فأحَبَّ اللهُ لقاءه!



وقد كانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين عن اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا في بلدة خَرْتَنْك، وقد فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك دامَتْ أيامًا!



ودُفن بعد ظهر العيد، تاركًا حياةً حافلةً بجلائل الأعمال وعظيم الآثار في مشارق الأرض ومغاربها، فرضي الله عنه وأرضاه، وألحقنا به في عباده الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.



ذلك ولم نجد في مرجع من مراجع تاريخه وحياته الحافلة وتراجمه الكثيرة أنه تزوَّج، بل تدل الدلائل الواضحة - وإن لم تكن قاطعة - على أنه لم يتزوج، ولعله كان يرى -كما يرى بعض الأئمة - أن الانقطاع للعلم والجهاد فيه مع الأمن والطُّمَأْنينة أفضلُ من الزواج، ومن هؤلاء العلماء الأئمة: الإمام النووي رضي الله عنه.



على أن رحلاته الدائبة، وأسفاره الموصولة، وتَلقِّيه للعلم وبذله له، لم تدع له وقتًا للتفكير في الزواج ولو رغب فيه، فضلًا عن تحقيقه، والله يجزيه على نيَّته خيرَ الجزاء، ((فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)).



( 8 ) اللمحة الثامنة والخاتمة:

الإمام أبو عبدالله البخاري في الميزان:

لم يظفر أحد من أئمة الحديث روايةً ودرايةً وفِقْهًا بمثل ما ظفر به الإمام البخاري، وكان رحمه الله إمامًا يُقتدى به في تحرِّي الحق ونَقْد الرجال مع شدة التحوُّط في الأخذ عنهم في نزاهة وعِفَّة منقطعة النظير، وقد يقول في الرجل الذي يعرف كذبه: فيه نظر، أو يقول: تركوه، أو يقول: سكتوا عنه، وأصرح ما قاله في رجل: منكر الحديث، وقلما يقول: كذَّاب أو وضَّاع، ومع عِفَّته البالغة ونزاهته كان يترك أحاديث الرجل لمجرد الشك فيه، فقد رُوي أنه ترك عشرة آلاف حديث لرجلٍ فيه نظر.



وهذا هو المثل الأعلى للنقد البنَّاء بلغة العصر الحديث، ولن يبلغه أحد أو يُقاربه إلا إذا تلقَّى أصوله ودرس منهجه في مدارس هذا الإمام الجليل التي أسَّسَها ثم شيَّدها تلاميذه، وتلاميذ تلاميذه شرقًا وغربًا، ثم عرفها وتأثَّر بها المنهج الأوربي الحديث كما يقول الدكتور الحسيني في كتابه (البخاري مُحدِّثًا وفَقِيهًا) نَقْلًا عن الدكتور قاسم في كتابه (المنطق الحديث ومناهج البحث العلمي).



ومع هذه العظمة الحديثية البالغة، لم يسلم الإمام من النقد:

انتقده بعض الحُفَّاظ في جملة من الأحاديث، أخرجها في الجامع الصحيح على غير شرطه ومنهجه، وأجاب عنها صاحب الفتح في مقدمته حديثًا حديثًا، ثم قال: "وليست كلها فادحة، بل أكثرها الجواب عنه ظاهر، والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسُّف، كما شرحته مجملًا في أول الفصل وأوضحته مُبينًا إثر كل حديث منها" ... قال الحافظ: "فإذا تأمَّل المُنصِف ما حررته من ذلك عَظُم مقدارُ هذا المصَنَّف في نفسه وجَلَّ تصنيفه في عينه، وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقَبول والتسليم، وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم؛ ا هـ.



قال أخونا العلامة أبو شهبة في كتابه (أعلام المحدثين) تعقيبًا على كلام الحافظ بن حجر: "وهذا كلام إمام ناقد منصف لا يختلف اثنان في أنه جمع بين الحفظ والبصر بالنقد، وبين الفقه والحذق للأصولَيْن: أصول الدين وأصول الفقه".



ونحن لا ندعي العصمة للإمام البخاري مع سموِّ مكانته ورفيع قدره؛ ولكن حسبه أنه بلغ في تحرِّي الحق، وسداد القصد، وبلوغ الغاية في علوم الحديث أقصى ما يمكن أن يبلغه إمام حافظ مجتهد.



فأما العصمة والكمال الإنساني كلاهما فَللنَبِيِّين والمرسلين، وأما الكمال المطلق فللَّهِ رَبِّ السموات وربِّ الأرض، وربِّ العرش العظيم.

§§§§§§§§§§§§

[1] جمع اللَّمْحة، وهي النظرة العاجلة، لسان العرب، جـ 2، ص 584.

[2] معنى بَرْدِزْبَه في لغة فارس: الزَّرَّاع، كذا يقوله أهل بُخَارى، مقدمة الفتح، جـ 2، ص 193.

[3] لعل مراده: أن ما قاله قد وَافَقه عليه مَن سبقه، وليس المراد أنه كان مُقلدًا في كل ما قال، وكيف وهو من أهل الاجتهاد في الجرح والتعديل؟! هامش (أعلام المحدثين) لأخينا العلامة الأستاذ الدكتور محمد محمد أبو شهبة، ص 108.

[4] مستقر.

[5] أعلام المحدثين، ص 112.

[6] بَرَّز على أقرانِه: فاقَهُمْ فضلًا أو معرفة.

[7] من الإنصاف.

[8] صحيح مسلم بشرح النووي، جـ 1، ص 14- 15.

§§§§§§§§§§§§§§§§§§
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع الأقسام الرئيسية مشاركات المشاركة الاخيرة
غير المسلمين في المجتمع الإسلامي المنارة حوارات عامة 0 2021-09-07 05:33 PM
الإمام البخاري معاوية فهمي إبراهيم مصطفى شخصيات تاريخية 0 2020-10-02 07:48 PM

*** مواقع صديقة ***
للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب


 مساج الرياض   مساج منزلى الرياض   best metal detector for gold   جهاز كشف الذهب   جهاز كشف الذهب   تأمين زيارة عائلية   Best Advocate in Dubai   خبير تسويق الكتروني   سطحة شمال الرياض   سطحة بين المدن   سطحه شرق الرياض   شحن السيارات   سطحة هيدروليك   شركة نقل السيارات بين المدن   أرخص شركة شحن سيارات   شركة شحن سيارات   شراء سيارات تشليح   بيع سيارة تشليح 
 شركة عزل فوم بالرياض   شركة عزل اسطح بالرياض   شركة عزل شينكو بالرياض   شركة عزل خزانات بالرياض   شركة كشف تسربات المياه 
 yalla shoot   يلا شوت   yalla shoot   سوريا لايف 
 يلا شوت   اهم مباريات اليوم   يلا شوت   يلا كورة 
 تطبيقات تسويقية   شركة صيانة افران بالرياض   شركة مكافحة الحشرات   شركة سياحة في روسيا   بنشر متنقل   شركة تصميم مواقع   Online Quran Classes 

 صيانة غسالات خميس مشيط   صيانة غسالات المدينة   صيانة مكيفات المدينة   صيانة ثلاجات المدينة   صيانة غسالات الطائف   صيانة غسالات الرياض   صيانة غسالات مكة المكرمة   صيانة ثلاجات مكة المكرمة   صيانة مكيفات مكة   صيانة مكيفات جدة   صيانة مكيفات المدينة   صيانة مكيفات تبوك   صيانة مكيفات بريدة   سباك المدينة المنورة 
 دعاء القنوت   شركة تنظيف بجدة   شركة تنظيف فلل بجدة   شركة مكافحة حشرات بجدة   شركة تنظيف المنازل بجدة 
 شركة مقاولات   اقرب شركة تنسيق حدائق   كشف تسربات المياه مجانا   لحام خزانات فيبر جلاس بالرياض   شركة تخزين عفش بالرياض   برنامج ارسال رسائل الواتساب   شركة تسليك مجاري بالرياض   كشف تسربات المياه بالخرج   اشتراك كاسبر   أكثر مشاهير السناب في السعودية   مشاهير السناب شات   سنابات نجوم السعودية   تنظيف خزانات بمكة   شركة تنظيف خزانات بجدة   شركة تنظيف منازل بالرياض   خدمة مكافحة الصراصير بالرياض   شدات ببجي   شدات ببجي اقساط   شدات ببجي   شدات ببجي تابي   شدات ببجي اقساط   شدات ببجي اقساط   شدات ببجي اقساط   شدات ببجي   شدات ببجي تابي   مجوهرات يلا لودو   شحن يلا لودو   ايتونز امريكي   بطاقات ايتونز امريكي   شدات ببجي تمارا   شدات ببجي اقساط 
 شركة تنظيف بخميس مشيط   تشليح الرياض   شركة تنظيف افران   صيانة غسالات الدمام   صيانة غسالات ال جي   صيانة غسالات بمكة   شركة صيانة غسالات الرياض   صيانة غسالات سامسونج   تصليح غسالات اتوماتيك   شركة مكافحة حشرات   شركة عزل خزانات بجدة   دكتور جراحة مخ وأعصاب في القاهرة 
 شركة نقل عفش بالرياض   شركة نقل عفش بالرياض   اشتراك كاسبر   مكسرات لوز فستق   مظلات وسواتر   تركيب مظلات سيارات في الرياض   تركيب مظلات في الرياض   مظلات وسواتر 
 موسوعة   kora live   social media free online tools   تطبيق الكابتن تمارين كمال اجسام و فيتنس   كشف تسربات المياه بالرياض و شركة عزل خزانات المياه بالرياض  شركة صيانة افران بالرياض


Powered by vBulletin Copyright ©2000 - 2024 Jelsoft Enterprises Ltd